الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تصدير لمجلة «الإرشاد» الكويتية *
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وهو المستعان، ولا إله غيره، ولا رب سواه، ونسأله الهداية في الختم وفي البداية، ونصلي ونسلم على رسوله الداعي إلى الدين القويم، والمرشد إلى الصراط المستقيم، وعلى آله وأصحابه قالة الحق، وحاصة الشق، وألسنة الصدق، ورتقة الفتق، ونعوذ بالله من زيغ العقيدة، وضلال الرأي، ومرض الفهم، وطغيان الوهم، ومن القول على الله بغير علم.
اللهمّ اجعلنا هادين مهديين، ومتّبعين لا مبتدعين، وواقفين عند حدودك لا معتدين، واجعل ألسنتنا تابعة لقلوبنا، وقلوبنا متصلة بك، حتى نكون قائلين بالحق، عاملين له، واصلين بالقول والعمل إلى مرضاتك.
{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَئتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} .
…
وهذه صحيفة أخرى من صحائف الأبرار، تدعو إلى الحق- إن شاء الله- على بصيرة، وتظاهر أخواتها المتفرقات في العالم الإسلامي، اللواتي سبقنها إلى الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، ونشر دينه الحق، ونشر سنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، كصحيفة «البصائر» في الجزائر، ومجلتَي "الدعوة" و "المسلمون" في مصر، ومجلة "الأخوة الإسلامية" في بغداد، فهذه هي الصحائف التي رفعت الصوت بالحق، في زمن عمّ فيه الباطل، وبثّت النور في أفق غمره الظلام، وأن عسى أن يكون لها من مجلة "الإرشاد" ولي ونصير، ومنجد وظهير، وأن عسى أن تلتقي بهذه الأخوات، وتجتمع هذه الأصوات على بعث الأموات، وإحياء الموات، وتدارك الفوات، وأن عسى أن تنسخ هذه الصحائف أحكام الزمن الحائف وتصدّ بحزم القائد العارف، تيّاره الجارف، ما دامت من ورائها عقائد ثابتة، وعزائم مصمّمة، وألسنة
* مجلة "الإرشاد"، أوت 1953، الكويت.
مبينة، ومن أمامها جماعات تحسن الإصغاء، وتستجيب للدعاء، ومن وراء الجميع عون من الله يحيل الضعف قوة، وعناية منه تنير الطريق، ومدد من توفيقه يأخذ باليد إلى الحقيقة، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .
…
الدعوة إلى الله وظيفة أهل الحق من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وهي أثمن ميراث ورثوه عنه، وهي أدقّ ميزان يوزن به هؤلاء الورثة ليتبين الأصيل من الدخيل، فإذا قصر أهل الحق في الدعوة إليه ضاع الدين، وإذا لم يحموا سننه غمرتها البدع، وإذا لم يجلوا محاسنه علتها الشوائب فغطّتها، وإذا لم يتعاهدوا عقائده بالتصحيح داخلها الشك، ثم دخلها الشرك، وإذا لم يصونوا أخلاقهم بالمحافظة والتربية أصابها الوهن والتحلّل، وكل ذلك لا يقوم ولا يستقيم إلا بقيام الدعوة واستمرارها واستقامتها على الطريقة التي كان عليها محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الهداة من العلم، والبصيرة في العلم، والبيّنة من العلم والحكمة في الدعوة، والإخلاص في العمل، وتحكيم القرآن في ذلك كله.
ولا يظنن ظان أن الدعوة إلى الله ختمت بالقرآن، وأنه أغنى عنها فقطع أسبابها، وسدّ أبوابها، بل الحقيقة عكس ذلك فالقرآن هو الذي وصل الأسباب، وفتح الأبواب، وجعل الدعوة سنّة متوارثة في الأعقاب، وما دامت عوارض الاجتماع البشري وأطوار العقل الإنساني تدني الناس من القرآن إلى حد تحكيمه في الخواطر والهواجس وتبعدهم منه إلى درجة الكفر به - فالقرآن ذاته محتاج إلى دعوة الناس إليه- بل الدعوة إليه هي أصل دعوات الحق، ولم يمر على المسلمين زمن كانوا أبعد فيه عن القرآن كهذا الزمن، فلذلك وجب على كل من امتحن الله قلبه للتقوى، وآتاه هداه أن يصرف قوّته كلها في دعوة المسلمين إلى القرآن ليقيموه ويحقّقوا حكمة الله في تنزيله، ويحكموه في أهواء النفوس ومنازع العقول، ويسيروا بهديه وعلى نوره فإنه لا يهديهم إلا إلى الخير ولا يقودهم إلا إلى السعادة.
…
الحق والباطل في صراع، منذ ركّب الله الطباع، وإنما يظهر الحق على الباطل حين يحسن أهله الدعوة إليه على بصيرة، والدفاع عنه بقوة وقد قام الإسلام على الدعوة، فقوّته- يوم كان قويًا- آتية من قوة الدعوة، وضعفه- يوم أصبح ضعيفًا- آت من ضعف الدعوة.
وقد حييت الدعوة إلى القرآن في زمننا هذا على صورة لم يشهد تاريخ الإسلام لها مثيلًا بعد الصدر الأول وقرونه الفاضلة، وارتفعت الأصوات بها في جوانب العالم الإسلامي، متعددة النواحي متّحدة الغايات والمناحي، فمن دعوة إلى عقائد القرآن وعدم الحيدة عنها في توحيد الله، وتنزيهه وتصحيح المعاملة معه، وتجديد الصلة به، ومن دعوة إلى إحياء آدابه في
النفوس، ومن دعوة إلى إحياء أحكامه وجعلها أصولًا للقوانين الدنيوية، ومن دعوة إلى درس حقائقه العليا وآياته في الأنفس والآفاق، ومن دعوة إلى الاهتداء بإرشاده إلى أسرار الكون التي كشفت عنها العلوم التجريبية في عصرنا هذا، وغفل عنها المسلمون ففاز باكتشافها واستثمارها غيرهم، وستفضي هذه الدعوة المتجددة إلى ما أفضى إليه أصلها من خير وعزّ وقوة وسيادة، وإذا جرت الأخيرة على سنن الأولى في الجد والقوة والحزم فستكون مثلها في سرعة ظهور الآثار وقرب الجني من أيدي القاطفين.
لا نقص في هذه الدعوات إلا أنها لم تزل متفرقة المسالك، متباعدة المواطن، فعلى قادة هذه الحركات أن يوحّدوا الأعمال والوسائل، وأن يجمعوا هذه القوى المتفرقة لتكون أقوى، ويوحّدوا القيادة العامة ليكون ذلك أدعى لرهبة الخصوم المتألبين، وأجمع لشمل الأتباع والجنود، وإذا كنّا نرى أصحاب الباطل يجتمعون على باطلهم ليدحضوا به الحق، فكيف لا يجتمع أهل الحق على حقّهم؟ ومن طبيعة الحق أن يجمع الناس على أنفسهم، وعلى أولئك القادة أن يبنوا أمرهم على العلم الصحيح والتربية الرشيدة، وعليهم أن يبدأوا بإنشاء جيل قويم يبنونه على التربية الإسلامية القويمة ليكون أساسًا لمن بعده، وأن يغرسوا فيه العقائد والأخلاق القرآنية من الصغر، وأن يروّضوه على الصبر والعفة والجد مع طراوة العود، وأن يوجّهوه الوجهة السديدة في الدين والحياة، ويرشّحوه للعظائم حتى ينشأ مستعدًا لها مستخفًّا بأثقالها.
إن شيوع ضلالات العقائد وبدع العبادات والخلاف في الدين هو الذي جرّ على المسلمين هذا التحلّل من الدين، وهذا البعد عن أصليه الأصليين، وهو الذي جرّدهم من مزاياه وأخلاقه حتى وصلوا إلى ما نراه.
وتلك الخلال من إقرار البدع والضلالات هي التي مهّدت السبيل لدخول الإلحاد على النفوس، وهيّأت النفوس لقبول الإلحاد، ومحال أن ينفذ الإلحاد إلى النفوس المؤمنة، فإن الإيمان حصن حصين للنفوس التي تحمله، ولكن الضلالات والبدع ترمي الجد بالهوينا، وترمي الحصانة بالوهن، وترمي الحقيقة بالوهم، فإذا هذه النفوس كالثغور المفتوحة لكل مهاجم.
…
نصيحتي للقائمين على هذه المجلة أن يسلكوا بها الطريق الواضح إلى الدعوة، وأن يستفيدوا منها من تجارب من سبقهم، وأن يحشدوا لها الأقلام المتينة، والعقول الرصينة، وأن يعتنوا بتصحيحها، فالتصحيح نصف الجمال.