الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أخوة الإسلام *
بسم الله والحمد لله، والصلاة على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
أيها المستمعون الكرام:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
…
أنا سفير من سفراء الإسلام، الناطقين بكلمته، الناشرين لدعوته، المسيرين باسمه، المضطلعين بأمانة الله في أهله، وهي التعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر والرحمة.
وأنا بحكم هذه السفارة أحمل تحيات أهله في المغرب الإسلامي، إلى إخوانهم في المشرق الإسلامي، وما أجمل كلمة "أخوة الإسلام" وما ألذّ وقعها في نفوس المؤمنين الصادقين، وما أشدّ شوقهم إلى تحققها في عالم الواقع، وما أضيع حقيقتها بين جمهرة المسلمين، وما أبعدها عن قلوبهم وبصائرهم، وما أكثر دورانها على ألسنتهم لغوًا ورياءً وليًا بغير الحق، في هذا الوقت الذي ضعفت فيه سيطرة القلوب على الألسنة، فانقطعت الصلة بينهما، فأصبح اللسان في حل مما يقول.
إن المسلمين إخوة بحكم الله، ولكنهم اتّبعوا خطوات الشيطان، فكان جزاؤهم أنه كلّما تقاربت بهم الديار باعد بينها الاستعمار، وأن يناموا في الزمان اليقظان فلا ينتبهوا إلا على طروق الغارات، والتداعي لأخذ الثارات، وها هم أولاء قد تأخروا عن قوافل الحياة، فهم من حياتهم في مفازة طامسة الأعلام، يعملون للغاية وهم مستدبرون لها، ويلتمسون الهداية من مطالع الضلال، ويطلبون الشفاء بأسباب المرض، ويبحثون على الدليل الهادي وهو معهم، ولكنه على ألسنتهم لا في قلوبهم، فما أحوجهم- وهم في هذه الحالة- إلى سفراء يسفرون بينهم بتحية الإسلام والتحية بريد الأمان والاطمئنان، ثم بالتعارف، والتعارف
* كلمة أُلقيت بإذاعة باكستان، أفريل 1952.
وسيلة التعاون، ثم بالتوحيد والاتحاد رائد القوة، ثم بالتوجيه السديد إلى الغاية المنشودة وهي العزة والسعادة.
إن المسلمين كثير، ولكن التفرّق صيّرهم قليلًا مستضعفين في الأرض، يشقون لإسعاد غيرهم، ويموتون في سبيل إحياء عدوّهم، وانها لخطة من الهوان يأباها أكثر الحيوانات العجماء، فكيف الخلائق العقلاء.
لو صدقت نسبة المسلمين إلى الإسلام، وأشربوا في قلوبهم معانيه السامية ومُثله العليا، واتّخذوا من كتابه ميزانًا، ومن لسانه العربي ترجمانًا، واتّجهوا إلى هذا الكتاب الخالد بأذهان نقية من أوضار المصطلحات، وعقول صافية لم تعلق بها أكدار الفلسفات، لسعدوا به كما أراد الله، ولأسعدوا به البشر كما أمر الله، ولأصبح كل مسلم بالخير والصلاح سفيرًا، ولكان المسلمون في أرض الله أعزّ نفرًا وأكثر نفيرًا، ولكان التقاء المسلم بالمسلم كالتقاء السالب بالموجب في صناعة الكهرباء ينتج النور والحرارة والقوة.
أيها المستمعون الكرام:
أنا في رحلة استطلاعية إلى الأقطار الإسلامية، وقد مررت بمصر وأنا على نية العودة إليها إن شاء الله.
والغرض الأول الأهم من هذه الرحلة هو دراسة أحوال المسلمين في مواطنهم، والتعرّف إلى قادة الرأي فيهم بالعلم والحكم، والامتزاج بمجتمعاتهم، حتى أتبيّن الحقائق مشاهدة وعيانًا، لأن الأخبار التي تصلنا عن إخواننا النائين عنا تصلنا غامضة مختصرة، أو مطوّلة مستفيضة، وكلا الطريقين مشوه للحقيقة، مصوّر لها بغير صورتها، خصوصًا في هذا الزمان الذي أصبحت الأخبار فيه سلعًا تُباع وتُشترى على أيدي سماسرة يعوجون المستقيم، ويروّجون للسقيم، تبعًا لأغراض ليس شيء منها في مصلحتنا.
والغرض الثاني من هذه الرحلة هو التعاون بجهد المقل مع أولئك القادة في شخيص أمراض المسلمين المشتركة، والبحث عن وسائل علاجها، ورد الآراء المتفرقة فيها إلى رأي جميع وكلمة سواء، حتى يكون العلاج أسهل وأقرب نفعًا، ثم تمكين أسباب التعارف بين قادة المسلمين، وإن أشبه هؤلاء القادة لي، وأقربهم مسافة فكر مني هم علماء الدين الإسلامي، فهم محل الرجاء في إصلاح أحوال المسلمين إذا صلحوا، وهم أنفذ أثرًا في هدايتهم وإرجاعهم إلى هدي محمد وأصحابه وإلى التخلّق بأخلاقهم المتينة التي سعد المسلمون بالتخلّق بها قديمًا، وشقوا بالتخلّي عنها حديثًا، حتى وصلوا إلى هذه الدركة التي لا يحمدون عليها ولا يحسدون، وما دخل عليهم الشر إلا من هذه الثغر الأخلاقية التي فتحها التحلّل من القيود، ووسعها الاسترسال في شهوات العقول والجوارح.
إن هذه الطائفة الحاملة لِلَقب "رجال الدين الإسلامي" هي من الأمة الإسلامية كالقلب من الجسد، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، كما ورد في التمثيل النبوي البليغ.
وإن عليهم قسطًا عظيمًا من تبعة هذا الانحطاط الشامل للشعوب الإسلامية، لأنهم فرّطوا- من قرون- في القيام بواجبات العالم الديني في الإسلام، وأول تلك الواجبات وأولاها حراسة هذا الدين أن تزيغ عقائده عن مستقرّها من القلوب فتخلفها الوثنية، وأن تختل هدايته السماوية، فتسف بها المادة إلى الحيوانية، وأن تخضع أخلاقه للشهوات فتضيع معانيها وآثارها.
إن العالم الديني في الإسلام حارس، والحارس إذا نام دخل اللص، والعالم الديني راع، والراعي إذا غفل هجم الذئب، والعالم الديني ربّان، والربّان إذا لم يأخذ الحيطة غرقت السفينة، والعالم الديني قائد كتائب فإذا عداه الضبط اختلّت الصفوف وحلّت الهزيمة.
أكبر مُناي في هذه الرحلة أن ألقى من يتيسّر لي لقاؤه من إخواني وزملائي، وأن نتبادل الرأي بأمانة الإسلام وإخلاص المسلم، في علاج هذه العلل التي خصّت المسلمين وأصبحوا فيها مضرب المثل في هذا العصر الذي أصبحت العزّة فيه دينًا يعتنق، وتنافس فيه الوثني والكتابي على سيادة الأرض، والمسلم القرآني راضٍ بالذلة والقلة والعبودية لهما أو لأحدهما، موزّع القوى، مختلف المشارب، مختلف حتى في الحق الذي لا يختلف فيه الناس، جامد العقل راكد القوى، غافل عن العواقب، مضيع لوقته بين سفاسف الأقوال وتوافه الأعمال، كأنه هيولى لم تتكيّف أو حقيقة ذهنية تجول في الذهن، لا شجرة مباركة تنبت بالدهن، حتى أصبح الجسم الإسلامي العام معرّضًا للفناء والانهيار، مستعدًّا للانحلال والذوبان، والإلحاد متربّص بالباب، والأهواء غالبة، والشهوات متبرجة، والحصانة التي جاء بها الإسلام مفقودة.
أيها المستمعون الكرام:
أنا الآن في باكستان وقد لقيت من أهلها، حكومةً وشعبًا، إجلالًا وكرم وفادة هم أهله ومحله، وقد صيّرتني أخوة الإسلام أهلًا لبعضه، فلا ينسيني الدلال بهذه الأخوة أن أحييهم تحية المسلم الصادق لإخوانه الصادقين، جزاء لما أنزلوني من منازل الكرامة والبر، وكفاء لما قابلوني به من التأهيل والترحيب، ومهرا لما تخيلته فيهم من مخايل صادقة تبشّر بأنهم أمة تُدعى إلى الحق فتجيب، وإعلانًا مني بأن ما وهب الله لهذه الأمة الباكستانية من الفطر السليمة، والاعتزاز بالإسلام، وجعل الاعتماد على الله أساسًا للأسباب، كل أولئك سيحقّق رجاءها ورجاء المسلمين فيها.
فسلام على باكستان شعبًا وحكومة، سلامًا أؤدي به حقوق البر عن نفسي وعن قومي في المغارب الثلاثة، وإننا لقوم يقوم بذمّتنا أدنانا.
وتحيات مباركات طيّبات دونها عبير السحر، وإن كان قريبًا، وعنبر البحر وإن كان غريبًا، أحملها أمانة وأؤديها تكليفًا من إخواني أعضاء جمعية العلماء الجزائريين، ومن أبنائي جنودها العاملين للإسلام، الهادين لقرآنه المحيين للسانه، ومن أنصار جمعيتنا المجاهدين في سبيل الإصلاح، ومن الأمة الجزائرية التي تعد زيارتي لباكستان والأقطار الإسلامية واجبًا أقوم به عنها، ومغنمًا أجلبه إليها، ودينًا يؤدى لباكستان التي وضعت أساسها على الإسلام، وفتحت صدرها للإسلام، ورفعت رأسها اعتزازًا بالإسلام.
وإذا كان من حق باكستان على مثلي أن يتقدّم إليها بالنصيحة فإن من حق مثلي عليها أن تتقبّل منه النصيحة. وإن الإسلام قد جمعت أطرافه في النصيحة، وسنفعل وسنفعل مأجورين إن شاء الله.
وليهنأ باكستان أن للمغرب العربي كله قلوبًا تدين بالحب لباكستان، وعواطف تفيض بالحنان لباكستان، وأماني تجيش بالخير لباكستان، ونفوسًا تعلّق الآمال على باكستان، وألسنة رطبة بالدعاء لباكستان، ولتشكر الله باكستان على أن هيّأ لها من الصنع الجميل ما جعل لشعبها في قلب كل مسلم مكانًا، ومهّد لها في نفس كل مسلم مكانة، والسلام عليكم.