الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشيخ محمّد نصيف *
أيها الإخوان:
إن هذه الحفلات التي تقام لتوديع الأصدقاء أو لاستقبالهم، وغير هذا من المناسبات الاجتماعية، هي من دواعي الفِطر السليمة والنفوس الكريمة، وإن الصداقة قد تخمد والمودة قد تركد وإنما يصقلها ويجددها مثل هذه الحفلات
…
وإن إقامة هذه الحفلات ليست من ابتكار المدنية الغربية، وإنما قد سبقتهم إليها مدنية الإسلام، وإن الذين ابتكروها هم الأسلاف من أهل الأندلس، وقد سمّوها "صنيعًا".
أيها الإخوان:
رؤوس الأموال أنواع، وحظوظ الناس منها متفاوتة: منها المادي الذي يُقدّر بخصائص الماديات من الكيل والوزن، أو بالذرع والمسح، أو بالعدد الذي كلّما انتهى صارت ملايينه آحادًا، ومنها المعنوي الروحاني الذي يقاس بالموازين الروحية، وُيوازَن بالقيم العلوية بمعرفة صيارفة من طراز سماوي يتسامى عن المادة وأوضارها وأكدارها وشرورها وآثامها، ولو خُيِّر موفق بين الجنسين لما اختار المادّة وإن تعرّضت بزخارفها، وعرضت بقطوفها الدانية لخارفها، وإنما يختار أقوات الروح من المعنويات، ولكن الأذواق كالأرزاق منها الحلال ومنها الحرام، ومنها السالم والمعتلّ، ومنها السديد والممتل، إن الموفقين لَيعرفون أن رؤوس الأموال المادية كرؤوس الشياطين، تتحرّك قرونها للفتنة والشرّ، ويستمس حرونها للفساد والضرّ، وقد صرنا إلى زمان أصبحت فيه رؤوس الأموال المادية مبعث شقاء للإنسانية، وكفى بحال العالَم اليوم شاهدًا أدّى وسجل وأمن التجريح.
* من الكلمة التي أُلقيت في الحفل العلمي التكريمي الذي أقامه الشيخ محمد نصيف ببيته في جدّة، في أكتوبر 1952، بمناسبة انتهاء زيارة الإمام الإبراهيمي للمملكة العربية السعودية. ونشر ملخص منها في مجلة "المنهل"، العدد 4، ربيع الثاني 1372هـ، يناير 1953م.
أيها الإخوان:
من سعادة أخيكم هذا أنّ حظّه من هذه الثروة المعنوية موفور، وأنه يكاثر بها ويفاخر، ويعتزّ بها ويغالي، ويعتدّ ويقالى، وحَسْبُه من الحظوظ في الحياة أن يكون له أصدقاء أصفياء من هذا الطراز، يصدقونه المحبّة، والمحبّةُ ملاك، ويصدقونه الهوى، والهوى مساك، ويمحضونه التقدير، والتقدير مسنّ، ويشاركونه في المبدإ، والمبادئ أرحام عند أهلها، وما لي لا أكون موفور الحظ من هذه الثروة وهؤلاء الإخوان الّذين أجتلي غررهم، وكأنّما أستشف من وراء الغيب سرائرهم، ما اجتمعوا إلّا بسائق واحد ليس من حدائه نغم الرغبة والرهبة، ولا هرج الرياء والنفاق، وإنما هو الوداد الخالص والصفاء الصافي، والتكريم لأخ أحبّهم وأحبّوه في المشهد والمغيب، والتقوا به في ميدان القلم بعيدًا وفي ميدان اللسان قريبًا، فكان بين أرواحهم وروحه تجاوب هو من أثر يد الله في الأرواح المتعارفة.
أيها الإخوان: إن من مذاهبي التي انْتَهتْ بي تجارب الحياة إليها أنني لا أفهم الصداقة كما يفهمها الناس، وإنما أفهمها امتزاجًا فكريًا سَبَّبتْهُ عوامل خفية المسارب في الجبلة الأولى، ولذلك فأنا أفهم أنّ الصداقة لا تزول ولا تنتهي بعداوة من الجانبين، فإن انتهت بعداوة من الطرفين دلّ ذلك على أنها ليست صداقة، وإنّما هي شيء مقنّع يُسمّيه العرف المنافق المتساهل صداقة وليس بها، إنما هو تجارة انتهت بانتهاء المصلحة، أو زواج متعة انتهى بانتهاء الأجل، أما الصداقة الطاهرة البريئة فهيهات أن تنتهي بعداوة، ولقد يعرف منّي إخواني الملابسون لي أنّي لم أعاد في عمري صديقًا، فإذا بادأني بالعداوة لم أجاره في ميدانها خطوة، ووكلته إلى الزمان الذي يقيم الصعر، فإذا هو تائب منيب أو خجلان متستر، وقد يسبّني أقوام بما ليس فيّ، فلا أقطع عنهم عادة من عوائد البر والرفق لعلمي أنّهم إنما يسبون غيري بعد أن يلبسوه اسمي، وإن هذا لمن طوابع التربية المحمّدية، بين أتباع سنّته، عبّر عنها بجُملة من جوامع كلمه: إنهم يقولون مذمم وأنا محمّد.
أيها الإخوان: لقد سمعت كلمات من بعض خطباء هذا الحفل وأنا غير راض بها ولا عنها، وأنا كنتُ- وما زلتُ- أحارب هذه الألقاب، وقد سمعنا من شوقي قوله:"إذا كثر الشعراء قلَّ الشعر"، وعلى هذا الوزن يصحّ أن نقول: إذا كثر المجاهدون قلَّ الجهاد.
إن المجاملات لا تكون إلا حيث يكون الضعف، وإن هذه الألقاب لا تتمكن إلا حيث تفقد المناعة الخلقية المتينة، ولذلك لا نجدها عند أسلافنا الذين قوي في نفوسهم سلطان الأخلاق، وما نبتت هذه المجاملات إلا في العصور الإسلامية المتأخرة حينما وقف تيار العلم والخلق، وضعفت دولة السيف والقلم، قادتهم هذه الحالة إلى التمَجُّد الأجوف بالكلمات الضخمة الجُوفِ، ولذلك كثرت الألقاب وصرنا نسمع هذه "الطغراء": الكاتب الكبير، المجاهد العظيم، الزعيم الكبير
…
إنني لم أكن مجاهدًا، وإذا كنتُه ففي شيء واحد هو محاربة البدع والضلالات ومحو الأمية، وتعليم الأمة، وهذه الأمور عادية لا ترفع القائم بها إلى مستوى الجهاد. وحقًا إن الألقاب التي اعتدنا استعمالها إنما هي "طغراءات" جوف لا تحقق أمنية ولا تؤدي إلى غاية شريفة. إن عبد الحميد بن باديس كان إمامًا في العلم والتواضع ومع ذلك فما كان إخوانه يخاطبونه بشيء من ألقاب الزعامة الفضفاضة.
والذي أستحسنه هو أن يتخاطب المسلمون فيما بينهم بكلمة "الأخ"، أخْذًا من قوله تعالى:{إِنَّمَا ائمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} .
…
أيها الإخوان: إنّ مِن بين الأصدقاء الذين جمعتهم الصداقة في هذا الحفل الصادق ثلاثة قدم عهدي بصداقتهم فلم يزدد إلّا جدة: هم الأصدقاء المخلصون محمود شويل، وحسونة البسطي، ومحمد نصيف، فقد جمعنا الشباب الطامح والأمل اللامح بالمدينة المنورة منذ أربعين سنة، وتجاذبنا ملاءة العلم فضفاضة، وتنازعنا كأس الأدب روية، وزجّينا الأيام بالآمال العذاب، ولكننا نمنا في يقظة الدهر فما استيقظنا إلّا وبعضنا مشرّق وبعضنا مغرّب، وبعضنا في مدار الحوادث يُدارُ به ولا تدور، وها نحن أولاء اجتمعنا بعد بضع وثلاثين سنة، وكأنّ خاتمة الفراق وفاتحة التلاق خميس وجمعة لهما ما بعدهما، وكأنّ ما بينهما من هذه المدّة الطويلة انطوى ومحي، وكأنّ الذكريات بينهما حبال ممدودة أو سلاسل مشدودة، وكأننا لم نفترق لحظة، وكأنّ تلك الصداقة الصادقة بيننا شباب أمن الهرم، كما أمن الصيد حمام الحرم.
ايه أيها الرفاق، هل تذكرون ما أذكر من تلك الليالي التي كانت كلها سمرًا كما قالوا في ليل منبج؟ هل تشعرون بما أشعر به من تفاوت بين تاريخ الفراق وتاريخ التلاق؟ هل تشعرون كما أشعر بأننا كنا في هذا الفراق الطويل أشبه بالميت أغمض عينيه عن الدنيا وفتحهما على الآخرة؟ هل تحسّون كما أحسّ بأنّ مدّة الافتراق كانت صفحات كلها عبر ووخز إبَر، وجُمَل من الحوادث سمعنا بمبتداها وما زلنا في انتظار الخبر؟ .. هل أنتم شاعرون مثلي بأنّ آمال المسلمين، من يوم تركناها بالافتراق إلى يوم لقيناها بالاجتماع، تحققت ولكن بالخيبة، وأن أعمالهم نجحت ولكن بالفشل، أما آمالهم فما زالت كموتًا يسقيه وعد، وأما أعمالهم فما زالت إبلا يوردها سعد {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .
ايه أيها الرفاق: إن الزمان فرّقنا شبابًا وجمعنا شيبًا، ولئن أساء لي هذا فلقد أحسن في أننا اجتمعنا أصلب ما كنّا قناةً في عقيدة الحق، وأجرى ما كنّا أئسِنَةً في كلمة الحق، وأجرأ
ما كنا رأيًا في تأييد الحق، وأثبت ما كنا عزيمةً في الدفاع عن الحق. إنّ الهمم لا تشيب وإن العزائم لا تهرم، وليس هذا البياض غبار وقائع الدهر كما يقول الشاعر، وإنما هو غبار الوقائع مع الدهر، فلا تهنوا ولا تفشلوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين.
…
أيها الإخوان: إنّي أتوسّمُ في هذه الوجوه وأتلمّحُ ما وراءها من علم ومكارم، لا أقول فيهما بالتقليد ولكنني خبرت وبلوت فاجد مصداق الحديث، هذه مكّة رمت إليكم بأفلاذ كبدها، بل أقول هذا الحجاز رمى إليكم بأفلاذ كبده، ومَن غير أستاذنا الجليل محمد نصيف يستطيع أن يجمع العالم في دار، أو يدّخر كنزًا ثمينًا تحت جدار، ومن عجب أن القضيتين متعاندتان: فالذي يستطيع أن يجمع عالمًا في دار لا يستطيع أن يجمع كنزًا تحت جدار، وما دامت الموائد تُنصب، واللقم ترفع، والصحون تُجرّ، والأفواه تفتح وتضم، والطعام كرات، والملاعق مخاريق بأيدي لاعبينا، فإن حال أستاذنا معنا حال أبي دلامة من شيوخ بني تميم إذ يقول:
نحن شيوخ بني تميم
…
وأنت- يا أستاذنا- أبو دلامة، فاجهد جهدك، وان شيوخ بني تميم موفون بعهدهم فاوفِ بعهدك، وإن هذه الدار مهدنا فإنْ برمت أو ضجرت فاجعل غيرها مهدك. وإن دار الشيخ نصيف لم تبرم بنا ولم تضجر، فأعانك الله على هذا الجند أيها الشيخ الحصيف الكريم.
أيها الإخوان: إذا ما لم ينصف الحجاز شيخه ومخلد مجده ورافع رايته أستاذنا الشيخ نصيفا، فإن العالم الإسلامي كله ينصفه، فكلنا أَئسِنة شاهدة بأنّه مجموعة فضائل نعدّ منها ولا نعدّدها، وانه مجمع يلتقي عنده علماء الإسلام وقادته وزعماؤه فيردون ظماء ويصدرون رواء، وإنني أقولها بصيحة صريحة وأؤدّيها شهادة للحق والتاريخ بأنّه محيي السنّة في الحجاز من يوم كان علماؤه- ومنهم أشياخنا- متهورين في الضلالة، وأنه صنع للسلفية وإحياء آثارها ما تعجز عنه الجمعيات بل والحكومات، وانه أنفق عمره وماله في نصرها ونشرها، في هدوء المخلصين وسكون الحكماء، وسيسجّل التاريخ العادل آثاره في عقول المسلمين، وسيشكر له الله غزوه للبدع بجيوش السنن المتمثلة في كتبها وعلوم أئمتها، وجمعية العلماء نفسُها مَدِينة له، فإن الكتب السلفية لم تصلنا إلا عن يده، وسيسجّل أنه مفخرة من مفاخر الإسلام وأنه كفّارة عن تقصير العلماء، وانه زهرة فوّاحة في أرض الحجاز وأنه جماله الذي يغطّي كل شين. إني كنتُ قلت في الشيخ نصيف أبياتًا منها:
قُئ لِلَّذِي عَابَ ائحِجَا
…
زَ وَجَانَبَ ائمَثَلَ ائحَصِيفَا
هَيْهَاتَ لَسْتَ بِبَالِغِ
…
مُدَّ ائحِجَازَ وَلَا "نَصِيفَا"