الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن المشروع منه أنواع، وهو أن يكون لإعلاء كلمة الله، وكلمة الله في جملتها هي توحيده الخالص والإذعان للأحكام التي جاء بها كتابه وبيّنها نبيّه، ومنها جمع البشر على ما يسعدهم ويرفع من بينهم أسباب الشرور والعداوات.
إن رأي الإسلام في الحرب أنها مفسدة لا ترتكب إلا لدفع مفسدة أعظم منها، وأعظم مفسدة هي الوثنية التي تعطّل العقول وجميع المواهب التابعة لها المتصرفة بأمرها، وإذا تعطل العقل تعطّلت ثمراته وفوائده وأصبح الناس في حكم المجانين، وتسلطت عليهم الأوهام، وأصبح نظرهم إلى الحقائق زائغًا منحرفًا، وحسبهم نتيجة لذلك أنهم يؤلهون أشياء كلها أحط من الإنسان، ومنها ما هو من صنعه، وقد بينّا سابقًا كيف حرّر الإسلام العقل منها لأنها بخس له ولقيمته.
المقاصد العامة في التشريع الإسلامي:
وللتشريع الإسلامي في كل قضية عامة تدعو حاجة الناس إليها وتدخل صميم حياتهم، مقاصد بعيدة المدى، شديدة المواقع، واضحة الآثار في المجتمع الإسلامي، وعلى هذه المقاصد بنيت الأحكام الفرعية، والذي يغفل عن هذه المقاصد لا يسلم من الخطإ في النظر إلى الجزئيات، ولا يضمن الإصابة في ترجيح دليل على دليل عند التعارض.
وباعتبار هذه المقاصد العامة في التشريع الإسلامي كانت الشريعة الإسلامية نظامًا اجتماعيًا كاملًا كافلًا لمصالح الجمهور ضابطًا لها، صالحًا لكل زمان ولكل مكان ولكل جنس.
وكل من يستقرئ أحكام الشريعة الإسلامية المنصوصة في المعاملات العامة، ثم يعمل نظره في استخراج هذه المقاصد، يخرج بحقيقة- ترمي إليها جميع النصوص-، وهي أن من مقاصد الإسلام إبطال الاسترقاق بالتدريج، لأن غضاضته لا تدفع إلا بإبطاله، وإذا كانت إباحته بحكمة فليكن إبطاله بحكمة.
ذلك أن الإسلام جاء بجلب المصالح ودرء المفاسد، فإذا وجدت قضية عامة يتجاذبها الصلاح والفساد- وهما ضدّان- فهنا تأتي حكمة الإسلام وبعد نظره ودقته في الترجيح، والإسلام لم يخترع الاسترقاق ولم ينشئه، وإنما وجده فاشيًا في العالم، درجت عليه الأمم كلها من أحقاب قديمة متطاولة، ودخل في حياتهم وتمكّن، ونزل منها منزلة الضرورات الحيوية، وتعوده الفريقان السادة والعبيد، وبنى كل واحد منهما أمره على ما قسم له من الأعمال، ورأى ان الخير فيه، وأن خروجه منه مضيعة له وقضاء على حياته، واطمأن إلى هذا كله من يوم أدرك وعقل، وقد فصلت الحياة وقوانينها والمواضعات العرفية وظائف
الفريقين في عشرات القرون، فأصبح الخروج عنها كالخروج من الحياة، ولكل من السيادة والعبودية آثار متطرفة في نفوس أصحابها لا يجمعها وسط، فالسادة تعوّدوا الاعتماد على العبيد في تصريف مصالحهم الحيوية المتنوّعة شريفها وخسيسها من منزلية وفلاحية، فإذا فارقهم العبيد ضاعت تلك المصالح كلها إذ لا يستطيع القيام بها بنفسه، فضاعت المصالح فاختلّ التوازن الاجتماعي، والعبيد تعوّدوا الاعتماد على السادة في معاشهم وكسوتهم وتدبير ضرورياتهم كلها فإذا فارقوهم وتحرّروا دفعة واحدة لم يستطيعوا الاستقلال بالحياة، واختلّ التوازن الاجتماعي أيضًا.
فجاء الإسلام بعلاج المعضلة، وهو أنه حرّم من أول يوم معاملة العبيد بالقسوة التي كانت مألوفة يرتكبها المالك لأنها شيء معتاد، ويتحمّلها العبد لأنها شيء معتاد فأوجب معاملتهم بالإحسان والرفق والرحمة، وبالغ نبي الإسلام في التلطّف والحنو على هذا الصنف حفظًا للكرامة الإنسانية، فسمّاهم إخوانًا للمالكين وفرض لهم المساواة معهم من المأكل والملبس وحدّد لهم مقدار العمل، فقال في حديثه المشهور الذي هو دستور كامل لهذه القضية في جمل قصيرة، ولفظه في حديث أبي ذر:«إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ جَعَلَ اللهُ تَحْتَ يَدِهِ أَحَدًا مِنْ إِخْوَانِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا يُكَلِّفْهُ مِنَ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُ» .
ومن عرف مقدار تأثّر الصحابة بالدين ومبالغتهم في امتثال أوامره واجتناب نواهيه ومسارعتهم في تنفيذها، عرف أنهم نفّذوا هذا الدستور بمجرد سماعه كما وقع لأبي ذر راوي الحديث، فإنه كان لا يستأثر بأكلة دون غلامه ولا يلبس حلة إلا ألبس غلامه مثلها.
من لي بالباحث الغربي المنصف المُبَرَّإِ من وصمة الغرض والحقد والهوى ليعلم مواقع الإنسانية في دين الإسلام- وما أكثرها- ثم يعلنها في قومه، وإذًا لأعلن كثير منهم إسلامه بإعلانها. ومن مواقع الإنسانية في الإسلام ما شرعه هذا الحديث العظيم في معاملة العبيد، فليعلم هؤلاء الباحثون الجاهلون لمحاسن الإسلام، أو المتجاهلون لها، وليعلم من بعدهم الواضعون للقوانين من بني جلدتهم، والمسيّرون لشعوبهم من الحكام ليعلموا جميعًا- فيما يعلمون- أن محمدًا صلى الله عليه وسلم سبقهم من أربعة عشر قرنًا إلى إعلان حقوق الإنسان التي ما زالوا يتخبطون فيها بين السلب والإيجاب، وما زالوا ينقضون بالفعل ما أبرموه فيها بالقول، وليعلموا جميعًا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم سبقهم كذلك إلى إعلان حقوق العبيد وإقرار الكرامة الإنسانية لأول مرة في تاريخ العالم- بل نقولها جهيرة مدوية لا تتوارى بحجاب ولا تستتر بجلباب، أنه أعلن بحديثه السابق ولأول مرة في تاريخ الحضارة البشرية إلغاء الرق الذي يتبجحون بابتكاره، ولكن بمعنى حكيم غير الذي يفهمونه من الإلغاء المسطّر على الأوراق في قوانينهم: أنه محا آثار الرق في نفوس الأرقاء، وآثار الاسترقاق في نفوس السادة، وأي
معنى يبقى للرق بعد هذا؟ أي معنى يبقى لهذه الكلمة بعد أن فقدت معناها أو تصافت نفوس الفريقين وتلاقت على الأخوة والمساواة، واستشعر كل فريق منهما عزة النفس، وحظّه من تلك العزّة، وكرامة الإنسان ونصيبه من تلك الكرامة؟
إن كلمة العبقرية في ذلك الحديث هي كلمة "إخوانكم" وقد جاءت في أول الجملة لتكون أول ما يقرع الأسماع فتفعل فعلها في النفوس، وخصوصًا في ذلك الزمان. فالعبد حين يسمع تلك الكلمة يحسّ كأن نفسه الذليلة انتقلت في رحلة روحية من عالم إلى عالم، وكأنه استلم صك التحرير فجأة بيده وأنه أصبح أخًا لسيّده لا عبدًا له، وهذا ما لم تسمعه أذن في أطوار الحضارات التي من شأنها أن ترقي العقول، ولا في أطوار النبوّات التي من شأنها أن ترقي الأرواح، والسيد المالك حين يسمعها تتطامن نفسه الشرهة وأخلاقه الشرسة وغرائزه المتشبعة بحب التملّك والتسلّط ويتنزّل من عالم الاستعلاء إلى عالم الاستواء، فيرى ببصيرته أن هذا المخلوق أخ، وليس من الرجولة ولا من الإنسانية أن يمتهن الأخ أخاه.
وأي معنى يبقى للرق بعد هذا؟
على أن التشريع الإسلامي عند تكامله انتهى إلى تشريع أحكام كثيرة كلها في مصلحة الرقيق وترجيح جانبه وإعلاء كلمته، وكلها ترمي إلى بطلان الرق من ذاته تدريجيًا، والتدرّج سمة واضحة الحكمة من سمات التشريع الإسلامي تظهر في التفاوت الزمني بين العبادات، فقد شرعت الصلاة بمكة ولم تشرع بقيتها إلا بعد الهجرة، وفي أزمنة متفاوتة أيضًا، وتظهر في تحريم الخمر وتحريم الربا، وتظهر في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حينما بعثه إلى اليمن وأوصاه بعرض شرائع الإسلام عليهم واحدة واحدة وأن لا يعرض عليهم الثانية حتى يتقبّلوا الأولى.
وهذه التشريعات المنصوصة وما تفرّع عنها بالاجتهاد أو القياس هي الدليل القاطع على ان إبطال الاسترقاق وقطع دابره كانا من مقاصد الإسلام، ولكن بطريقته التدريجية الحكيمة كما وقع في تحريم الخمر، ولو أن المسلمين بعد خلافة عمر نفّذوا تلك التشريعات بحزم لما بقي للاسترقاق بينهم أثر. رأى محمد صلى الله عليه وسلم أن إبطال الرق دفعة واحدة يفضي إلى مفاسد اجتماعية وإلى شلل محقق في المرافق الحيوية كما أسلفنا القول فيه، فجاء بذلك الدستور الذي أزهق روحه، بحيث أصبح رقيق ذلك الزمن أسعد حالًا وأوفر كرامة بآلاف المرات من أحرار هذا الزمن الذين يسامون سوء العذاب من الأقوياء المتحضرة، بدأ محمد صلى الله عليه وسلم الحملة على الاسترقاق بالترغيب في العتق، وأحاديثه في ذلك لا تكاد تحصر، حتى أنه جعل العتق أصلًا يقاس عليه جميع القربات، فكثيرًا ما كان يقول: من فعل كذا فكأنما أعتق رقبة، فكأن الإسلام يعد عتق العبيد أشرف أعمال الخير، يقدّر ثوابها بثوابه، ولا دليل أدلّ من هذا