الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بغداد تكرّم المغرب العربي *
أيها الإخوان:
التحايا مفاتيح القلوب، وذرائع الأمل المطلوب، وأشرف التحايا ما مازج النفوس، وخالط الأرواح، ووافق الأمزجة، وأيقظ العواطف النائمة، وحرّك الأوتار الحية بما يشجي ويطرب، ووصل خصائص الأجداد بخصائص الأحفاد فكان بينهما ما يكون من التقاء السالب بالموجب في القوانين الكهربائية: حركة وضوء وحرارة.
فلا أحييكم بما حيّا به المعرّي الحبيب وربعه، مخالف دينه وطبعه، إذْ يقول:
تَحِيَّةُ كِسْرَى فِي السَّنَاءَ وتُبَّعِ
…
لِرَبْعِكَ لَا أَرْضَى تَحِيَّةَ أَرْبُعِ
ولا أحيّيكم بما حيّا به ابن الرومي مأوى تشيّعه، ومهوى تسبّعه، حين يقول:
سَلَامٌ وَرَيْحَانٌ وَرَوْحٌ وَرَحْمَةٌ
…
عَلَيْك، وَمَمْدُودٌ مِنَ الظِّلِّ سَجْسَجُ
بل أرتقي صعدًا إلى تلك التحية الفطرية التي جاء بها دين الفطرة رمزًا للأمان، وعنوانًا للإيمان، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كلمات مفصّلة، ومعان محصّلة، تبعثها الروح إلى الروح، وتنضح الكبد المقروح بالبثّ المشروح.
أيها الإخوان: أحييكم بهذه التحية عن نفسي كما ينفح العطر من الجليس إلى الجليس، وعن أخويّ الكريمين ممثلي تونس المجاهدة الصابرة الحاضريْن في هذا الحفل الحافل: الأستاذين محمد بدرة وعلي البلهوان.
* من الكلمة التي ألقاها الإمام في حفل ببغداد أُقيم على شرفه بحضور الزعيمين التونسيين محمد بدرة وعلي البلهوان، يوليو 1952.
إن نفسي تحدثني ولا تكذبني أن هذا التكريم الذي تفتنّ فيه بغداد ليس مصروفًا لشخصي، إنما هو موجّه إلى وطني وأبناء وطني الذائدين عن حماه.
وأحييكم عن جمعية العلماء الجزائريين التي أتت بما يُشبه معجزة موسى في إنقاذ أمّة، وبما يُشبه معجزة عيسى في إحياء ميّت، وكانت هي في نفسها من معجزات محمّد صلى الله عليه وسلم في خدمة دينه وإحياء لسانه.
وأحييكم باسم الشمال الافريقي الجبّار على الأعداء وعلى العوادي، الثائر على الهوان والظلم منذ برأه الله، مقبرة الطغاة، وجحيم البغاة، لا مقصرًا إن شاء الله في جزائه، ولا مفرّقًا لأجزائه، ولا معترفًا بالحدود التي خطتها يد الظلم والعدوان.
أحييكم عن تلك الأقطار التي فرّقت بينها وبينكم الأقدار وأسمعكم من ألحانها الحزينة نجواها، وأبثّكم من أحوالها المؤلمة شكواها، بلسانها الحرّ الأصيل المعرب، وبيانها العذب الشجي المطرب، تحياتٍ تصافح مواطن الإحساس من نفوسكم، وتخالط معاقد الإيمان من قلوبكم، وتحرّك أوتار الحمية في صدوركم، وتنتظر رجع الصدى بإرواء الصادي، ودلالة الهدى من الدليل الهادي، ونعرة الفدا من الشقيق الفادي.
فحيّاكم الله وأحياكم وأدامكم وأبقاكم، وذخركم للعروبة تصلون أسبابها، وتردّون عليها نضرتها وشبابها، وللإسلام ترفعون أعلامه وتدفعون ظلّامه، وللشرق تؤدّون فرضه، وتردّون قرضه، وتصونون عرضه، وتصعدون سماءه فتحفظون أرضه.
أيها الإخوان:
إن الشمال الأفريقي كله فلذة من كبد الإسلام، وقطعة من وطن العروبة الكبير، وبقية مما فتح عقبة والمهاجر وحسّان، وإنّ هذا الوطن هو أحد أجنحتكم التي تطيرون بها إلى العلاء، وانه لامتداد لوطنكم الأكبر، وانه متصل بكم اتصال الكفّ بالساعد، تصلون إليه كما وصل أجدادكم مشيًا، ويصل إليكم كما وصل أسلافه حبوًا، فريشوا هذا الجناح المهيض حتى تقوى قوادمه على الطيران، وصونوا حماه فإنه حماكم، وذودوا عن حوضه فإنه حوضكم. إنّه يحمل أمانة الأجداد التي تحملونها فأعينوه على التحرير، وأنقذوه من سوء المصير.
إن في هذا الشمال الذي يحدثكم لسانه كنوزًا من تراث العربية والإسلام طمرها الاستعمار برطاناته عمدًا، وطمس محاسنها بحضارته قصدًا، فأعينونا بقوة تستخرج هذه الكنوز بإحياء الأخلاق والآداب والتاريخ.
إن بينكم وبينه صلات من اللغة والدين، وأرحامًا من الجنس والخصائص، فصلوا هذه الأرحام يكنْ بعضنا لبعض قوة.
إنكم لنا أئمة في الخير، وإنّا بكم مؤتمّون في الحق، فحقّقوا شروط الإمامة فيكم، وطالبونا بتحقيق شروط الاقتداء، وَئنُقِمِ الصفوف في معترك الحتوف تحت ظلال السيوف، وإلّا هلك الإمام والمأموم.
أما والله لن نفلت من مخالب الاستعمار فُرادى، ولا نفلت منه إلا يوم نصبح أمة واحدة تلقى عدوّها برأي واحد وقلب واحد، فإن لم نفعل، ولم نكفر بهذه الفوارق التي وضعها الشيطان بيننا، فلا نلم الاستعمار وَئنَلُمْ أنفسنا.
أيها الإخوان:
إن أضعف سلاح رَمانا به الاستعمار هو سلاح الحديد والنار. إن سلاح الحديد يقتل الأجسام فينقل الأرواح إلى مقام الشهادة، أما السلاح الفتّاك الذي رمانا به فهو يقتل الأرواح ويجردها من أسباب السعادة، هذا السلاح هو حضارته وعلومه التي اتخذها رمادًا يغطي به الصليبية الحقيقية التي لم تنطفئ نارها في هذه القرون كلها.