الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في صميم القضية الصينية
بداية النهاية *
ــ
أيظن الخليون الغافلون من الفريقين أن المعارك بيننا وبين الحكومة الاستعمارية في قضية المساجد والأوقاف انتهت بهذه الطريقة الهازلة الشوهاء التي تمخّض بها المجلس الجزائري ووضعها لأقصى أمد الحمل سقطًا بعد آلام وأوجاع زاد في فظاعتها أن حمله بها كان عن سِفاح؟ ولا عجب إذا حملها كرهًا أن يضعها كرهًا.
إنما هذه نهاية طور من أطوارها الغريبة التي صاحبتها العقلية الفرنسية منذ كان الاستعمار في الجزائر، وقد تعوّدنا من هذه العقلية المذبذبة بين الدين والإلحاد، الملفحة بجراثيم اليهودية والمادية أنها كلّما عرضت لقضية الدين الإسلامي في الجزائر جالت بها في مثل هذه المجالات الملتبسة وعالجتها بنصوص لا يعرف فيها عموم من خصوص وتركت القضية دائرة والعقول معها حائرة، ولكنها لم تحشد لها في مرة من المرات مثل هذا الحشد.
كنا نقدّر هذه النهاية ونحن في مراحل العراك ونصوّرها بقريب مما وقعت عليه مما دلّتنا عليه التجارب ومما استقيناه من مقاصد هذه الحكومة وأنها نذرت على نفسها فوفت بالنذر أن تكون عدوًا للإسلام ما دام لها وجود، وخصمًا للمسلمين ما امتدّت بها الحياة، وحربًا على الحق في أي ميدان ظهر، ومن عجيب صنع الشيطان في هذه الحكومة أنها كلما ضعفت فيها النزعة الدينية بكثرة المذاهب العقلية وتيار الحضارة المادية أمدّها الشيطان بلقاح من اليهودية المعادية للإسلام والنصرانية معًا فأذكت فيها ما برد، وضربت منهما ما
* كتبت هذه الكلمة في القاهرة في أغسطس 1933 بعد اطلاع الشيخ على موقف المجلس الجزائري من قضية فصل الدين الإسلامي عن الحكومة الفرنسية، وعلى البرقية التي أرسلتها جمعية العلماء في الجزائر للحكومة الفرنسية بباريس والمنشورة في «البصائر» ، العدد 235، 3 يوليو 1953، وهي كلمة غير منشورة، ويمكن إضافتها إلى سلسلة المقالات التي نشرت في الجزء الثالث من الآثار تحت عنوان:"فصل الدين عن الحكومة".
ضعف بما قوي وشفت غيظها من الفريقين. أليس حاكم فرنسا اليوم والمتحكّم في مصائرها يهوديًا ومن ورائه يهود العالم؟
كنا نعلم هذه النهاية لقضية الإسلام في الجزائر من يوم عرفنا اليمين من الشمال، وبلونا أحزاب اليمين في فرنسا وأحزاب الشمال، لأننا عاصرناهم جميعًا وعاشرناهم قائلًا وسميعًا فما وجدنا منهم في جانبنا منصفًا، ووجدناهم يختلفون إلى درجة الشقاق ويشتجرون إلى نهاية اللجاج، حتى إذا لاح شبح من أشباحنا لعيونهم وعرضت قضية من قضايانا تحت أيديهم تألفت الأحزاب وتآلفت الآراء وتألبت الجموع لأننا نحن وديننا عدو مشترك في نظرهم، وكأن منافرة الضاد للهواتهم مستلزمة لمنافرة أهله لهم ومنافرة دينه لأذواقهم، واللهاة هي نهاية المقاطع الحرفية كما أنها نهاية الحاسّة الذائقة.
…
جاهدنا في سبيل هذه القضية عشرين سنة أو تزيد لم يفل لنا فيها رأي ولم تفل عزيمة، ولم يكل لنا فيها قلم ولا لسان ووقفنا فيها مواقف صادقة خالصة لله ولدينه ولهذه الأمة التي كتب الله عليها أن يكون بعض أبنائها وبالًا عليها وعلى دينها وأعوانًا عليها مع الغاصب، وألجأنا الاستعمار مرات إلى إبرازها بعد أن كان حريصًا على إضمارها، وإلى الحديث عنها بعد أن كان الحديث عنها محرّمًا، وإلى نقلها من ميدان إلى ميدان، ومن وراء البحر إلى ما دون البحر، وشغلناه بها عن كثير من مهماته، ونقضنا شبهاته فيها بالحجج والبيّنات وأفادنا الاشتغال بها والاهتمام بالبحث فيها فوائد أقلّها الاطّلاع على الوثائق الأصلية التي أملاها التعصب الديني والحقد الصليبي، وأجلها افتضاح المارقين منّا الذين باعوا جوهر الدين بعرض الدنيا، وظنّ الاستعمار أنه يغالبنا بهم وبأسمائهم وألقابهم فخذله الله بهم وفضح بعضهم ببعض، وحصلنا من ذلك كله على ذخيرة مادية وأخرى معنوية، وسنترك القضية للأعقاب المجاهدين واضحة المعالم كاملة الوثائق، ناطقة بالحق على الأعوان والخوان، وكأن هذا الدور أخير- وما هو بالأخير- ولكنه انفرد بمظاهر هي التصميم والحزم منّا، والعناد والكيد من خصمنا. فقد بالغنا في التحدي فبالغ في التداهي والتحايل فلفّ القضية بلفافتين من الدستور الجزائري والمجلس الجزائري ونقلها ملفوفة بهما من فرنسا إلى الجزائر وحملت المجلس الجزائري على أن يحمل هذا الحل الأخير نَتْنًا ويضعه يَتْنًا.
وكان في هذا المجلس كثير ممن اسمه محمد وهو عدو لمحمد ودين محمد، وإننا لنجزم بأن هذا الحل المشوّه موضوع مع الدستور الجزائري في آن واحد، وإنما أخّروه
ليخرجوه إلى الناس باسم مجلس يجمع المذبح والمسبح، ويجمع السيد والعبد والزبد بلا زبد، وفيه جماعة ينطقون بالعين من مخرجها- مع علمنا بالنتائج قبل سوق مقدماتها-.
دعانا إلى خوض تلك المعارك وإلى إثارة ذلك النزاع المحتدم، عهد الله في نصرة دينه يجب أن نفي به، وعهد من محمد صلى الله عليه وسلم في الجهر بكلمة الحق في وجه من يثقل عليه سماعها، وقد جمجم بها الجبناء من أسلافنا فأضاعوا الحق وبَاءُوا بإثم الإضاعة، والجبناء من معاصرينا فكانوا حجة الباطل علينا ولله الحجة البالغة، وشيءآخر جعلنا نلج في خصومة الاستعمار وهو أنه يعد سكوت الساكت رضى بالمسكوت عليه، فيصبح حقًا مكتسبًا ثلاث مرات: مرة بالقوة التي يملك أسبابها، ومرة بالحيلة التي يفتح أبوابها، ومرة بسكوت أهل الحق على حقّهم. فأردنا أن لا يسجّل التاريخ علينا ما سجّله على الأقدمين من سلفنا من مهانة السكوت بعد الإضاعة أو السكوت الذي سبب الإضاعة، ومن وقاحة الاستعمار أنه يسمّي الحقوق المغتصبة حقوقًا مكتسبة، وقد أفحمناه مرارًا بأن أملاك الدولة المغلوبة قد تصبح بحكم السيف والمدفع أملاكًا مكتسبة للدولة، ما دام السيف سببًا رابعًا من أسباب الميراث، أما أملاك الله التي هي الأوقاف الدينية، وبيوته التي هي المساجد فهي ميراث للدين وأهله لا تغتصب ولا تكتسب، إلا لعدو لله يحاربه كما يحارب المخلوقين ثم يلجّ في طغيانه فيعتقد أنه انتصر عليه.
…
أما جمعية العلماء فلم يجدّ عليها جديد وما رأت من نتائج جهادها إلا أنها كشفت الستر عن حقيقة الاستعمار للمغرورين فيه، وجرأت المكافحين الذين لا يخلو منهم زمان ولا مكان على الأخذ بتلابيبه حتى لا يستريح ولا يهدأ له بال، وعلى زعزعة أركانه إن لم يقدروا على إتيانها من القواعد. ولا ترى جمعية العلماء إلا أن المسألة ما زالت في النقطة التي منها بدأت وأن هذه الأصباغ الحائلة لم تنقل خطأ إلى صواب ولم تقر حقيقة في نصاب.
ولا نقول ربحنا أو خسرنا، فالربح والخسارة من مفردات قاموس التجّار، أما الجهاد الذي غايته تثبيت الحقائق الإلهية في الأرض وغرس البذور الروحية في الوجود فلغته سماوية لا تحمل معاني التراب، متسامية لا تسفّ إلى ما تحت السحاب، وأما المجاهدون في ذلك السبيل، فلا يعدون الربح والخسارة في آرابهم، ولا يدخلون الوقت- طال أم قصر- في حسابهم.
ولو كانت فرنسا تتقايض مع الناس بالضمائر والعقول والقيم والمثل والغايات لقلنا إنها - بتصرفها في القضية الإسلامية- خسرت تاريخها ومبادئها ومقوّماتها ودعاويها التي تذيعها في الناس وبضائعها المزوّرة التي تعرضها على العالم، ولكنها لا تتقايض- فيما تكشفت عنه
في العهد الأخير- إلا بالتنمّر للضعفاء والتذلل للأقوياء، والكيد فيما بين ذلك، ووالله لو أنها تركت في قلوبنا مكانًا للشفقة لأشفقنا عليها من هذا التخبّط الذي تعانيه، ومن هذا الإفلاس الذي أصابها في الرأي والرجال حتى أصبح أعداؤها هم الذين يسيرونها، والموثورون لها هم الذين يتحكمون في مصائرها.
إن فرنسا اليوم تتحرّك في سياستها معنا بطريقة الاحتراق الداخلي، ووقود ذلك الاحتراق هو الحقد، فهل ينفعها هذا الوقود؟ أم يعود فيحرق المحرِّك والمحرَّك، وهل تحفظ لها الحياة هذه الحركة؟ أم هي ذاهبة بها إلى الزوال؟ الحكم لله العلي الكبير.
…
وما ظن الاستعمار بجمعية العلماء؟ أيظن أنها تمل وتكل فتضعف فتستكين؟ لا والله، ولقد خاب ظنّه وطاش سهمه، إنما يكل من كان في ريب من أمره وفي عماية من عمله، أما من كان من أمره على بيّنة ومن عمله على بصيرة، ومن ربه على عهد فهيهات لما يظنّه به الظانون، وان جمعية العلماء لفي موقعها الثابت، وعلى عقيدتها الراسخة، وفي ميدانها الفسيح من الكفاح، ولقد جاهرنا هذه الحكومة مرارًا بأن هذه القضية دينية محضة فلتنفض يدها منها ولتبقِ المجل خالصًا لسياستها معنا ولنا مع سياستها، فأما إذا أبت إلا أن تجعل ديننا جزءًا من سياستها، فسننتقل معها إلى الميدان الذي أرادته واختارته لنفسها ولنا، وسنقود كتائب السياسة في أضيق موالجها جالبة علينا ما جلبت، وسوف تجدنا- إن شاء الله- عند سوء ظنّها، وسوف تجدنا- كما عرفتنا- حيث تكره لا حيث تحب، وسوف نعلمها فقهًا جديدًا وهو أن أرض الجزائر حتى سجونها مساجد لإقامة الصلوات، وأن كل عود فيها حتى المشانق منابر خطبة ومطية خطيب، وأن كل صخرة فيها مئذنة ينبعث منها "الله أكبر"، وسوف يريه بنا أن عاقبة المعتدي على الإسلام وخيمة.
1 -
نحن سياسيون منذ خلقنا، لأننا مسلمون منذ نشأنا، وما الإسلام الصحيح بجميع مظاهره إلا السياسة في أشرف مظاهرها، وما المسلم الصحيح إلا المرشح الإلهي لتسيير دفّتها أو لترجيح كفّتها، فإذا نام النائمون منا حتى سلبت منهم القيادة ثم نزعت منهم السيادة، فنحن- إن شاء الله- كفّارة الذنب، وحبل الطُّنْب.
2 -
نحن سياسيون طبعًا وجبلة، ونحن الذين أيقظنا الشعور بهذا الحق الإلهي المسلوب، فما سار سائر في السياسة إلا على هدانا، وما ارتفعت فيها صيحة إلا وكانت صدى مرددًا لصيحاتنا، ولكننا كنّا لا نريد أن نخلط شيئًا كل وسائله حق، بشيء بعض وسائله باطل، وأن نميّز بين ما لا جدال فيه ممّا فيه جدال، وكنّا نريد أن نبدأ بأصل
السياسات كلّها وهو الدين لنبني عليه كل ما يأتي بعده، فنسالم ونحن مسلمون ونخاصم ونحن مسلمون ونصادق أو نعادي ونحن مسلمون، فيكون في إسلامنا ضمان للمعدلة حتى مع خصومنا، فمن كان من أبنائنا في ريب من الحكمة في سلوكنا فلينظر تشدد الاستعمار معنا، وشدة "تمسّكه"، إنه لا يعاديكم فيسرف في العداوة، ويظلمنا فيمعن في الظلم إلا لأنكم مسلمون، ولأن هذا الإسلام منبع قوة تقتل الضعف، ومبعث روحانية تقهر المادة، فهل لكم أن تقابلوا "تمسّكه" بالمعنى الذي يريده، بتمسّك من جهتكم بالمعنى الذي يريده الله؟
3 -
نحن سياسيون لأن ديننا يعد السياسة جزءًا من العقيدة، ولأن زمننا يعتبر السياسة هي الحياة، ولأنها آية البطولة، ولأن وضعها يصير السياسة ألزم للحياة من الماء والهواء، ولأن السياسة نوع من الجهاد ونحن مجاهدون بالطبيعة فنحن سياسيون بالطبيعة، ولأن الاستعمار الفرنسي بظلمه وعسفه لم يغرس في الجزائر إلا ثمرتين: بغض كل جزائري لفرنسا حتى الأطفال، وصيرورة كل جزائري سياسيًا حتى الأئمة.
ليت الاستعمار يأخذ من هذه الصراحة ما يغريه بزيادة التشدّد ظنًا منه أنه يشغلنا بجانب عن جانب ويلهينا بديننا عن دنيانا، حتى يعلم أننا أصبحنا- والفضل له- لا يلهينا شيء عن شيء، وأننا إذا لم نستطع شيئًا استطعنا أشياء، وأننا إذا لم نستطع أن نكون عطشًا لخصمنا كنا كدرًا في الماء، وأننا إذا حرمنا قمح الأرض زرعناها أشواكًا، وأنه لم يبقَ قلب في الجزائر يتّسع لذرة من حب فرنسا، أو يتّسع لخيط أمل فيها، وليعلم أخيرًا أن الله للظالمين بالمرصاد.
…
إن كانت مهزلة المجلس الجزائري وقراراته في قضيتنا هي نهاية البداية في ظنّه، فإنها بداية النهاية في يقيننا، وان درسها الأول كلمتان: شحذ الرأي وتصميمه ومواصلة الكفاح وتعميمه
…
إن الاستعمار الفرنسي استعمار صليبي بنى أمره من أول يوم على ابتلاع الأوقاف الإسلامية ليجرّد الإسلام من السلاح المادي فيتسلّط على معابده ورجاله ويقودهم بزمام الحاجة إلى حيث يريد، ولولا فهمنا لهذه الحقائق لما تشددنا كل هذا التشدّد في قضية الأوقاف.