المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وإلى الأمة الجزائرية الباذلة لموجودها، في سبيل وجودها، التي أقرضتُها - آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي - جـ ٤

[البشير الإبراهيمي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الرابع

- ‌مقدمةمحمد الغزالي

- ‌السياق التاريخي (1952 - 1954)

- ‌في باكستان

- ‌رحلتي إلى الأقطار الإسلامية *

- ‌ 1

- ‌بواعث الرحلة

- ‌بدء الرحلة

- ‌ 2 *

- ‌إلى كراتشي

- ‌ 3 *

- ‌مشكلة اللغة

- ‌بدء الأعمال العامة

- ‌ 4 *

- ‌كلمة حق

- ‌الزيارات

- ‌ 5 *

- ‌بقية أعمالي في كراتشي

- ‌حفلة جمعية علماء باكستان

- ‌رحلتي إلى كشمير والدواخل

- ‌ 6 *

- ‌بقية أعمالي في كراتشي

- ‌أخوة الإسلام *

- ‌الرجوع إلى هدي القرآن والسنّة *

- ‌أصلح نظام لتسيير العالم الإنساني اليومهو الإسلام *

- ‌تقرير مرفوع إلى صاحب الدولةرئيس وزراء الحكومة الباكستانية *

- ‌في مؤتمر العالم الإسلامي

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌وحدة الصوم والعيد *

- ‌خماسيات عمر الأميري *

- ‌ديوان «مع الله» *

- ‌جواب على أسئلة ثلاثة *

- ‌في العراق

- ‌لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أوّلها *

- ‌تعارف المسلمين مدعاة لقوّتهم وعزّتهم *

- ‌في الموصل *

- ‌بغداد تكرّم المغرب العربي *

- ‌في المملكة العربيةالسعودية

- ‌وظيفة علماء الدين *

- ‌ 1

- ‌ 2 *

- ‌ 3 *

- ‌الشباب المحمّدي *

- ‌الشيخ محمّد نصيف *

- ‌إلى علماء نجد *

- ‌تعليم البنت *

- ‌في مصر

- ‌صوت من نجيب، فهل من مجيب

- ‌في ذكرى المولد النبوي الشريف *

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌الأستاذ الفضيل الورتلاني *

- ‌الأستاذ سيد قطب *

- ‌اِغتيال الزعيم التونسي فرحات حشّاد *

- ‌تحية الجزائر *

- ‌منزلة الأدب في الحياة *

- ‌مذكرة إيضاحية *

- ‌الشعب الجزائري

- ‌ جمعية العلماء

- ‌نشأة هذه الجمعية:

- ‌تشكيلات الجمعية في الوقت الحاضر:

- ‌العضوية في الجمعية:

- ‌جرائد الجمعية:

- ‌مالية جمعية العلماء:

- ‌أعمال الجمعية لحفظ الإسلام على مسلمي فرنسا:

- ‌مواقف مشهودة لجمعية العلماء:

- ‌موقفها من المبشّرين المسيحيين:

- ‌موقفها من الإلحاد:

- ‌موقفها من الخمر:

- ‌موقفها من تعليم المرأة:

- ‌موقفها من السياسة الجزائرية:

- ‌موقف فرنسا من الجمعية:

- ‌أمهات أعمال جمعية العلماء

- ‌أولًا- مقاومة الأمية:

- ‌ثانيًا- المحاضرات الدينية والاجتماعية:

- ‌ثالثًا- تأسيسها للنوادي العلمية:

- ‌رابعًا- بناء المدارس:

- ‌خامسًا- المعهد الباديسي:

- ‌مشروع جامعة عربية إسلامية في الجزائر

- ‌خلاصة النتائج الإيجابية من أعمال جمعية العلماء وتوجيهاتها

- ‌في المعنويات

- ‌في الماديات

- ‌خاتمة

- ‌تحية غائب كالآيب

- ‌من هو المودودي

- ‌نص البرقية التي أرسلناها إلى حاكم باكستانوإلى رئيس وزرائها في قضية المودودي

- ‌في الكويت وبغدادودمشق وعمّان ومكّة

- ‌حكمة الصوم في الإسلام *

- ‌تصدير لمجلة «الإرشاد» الكويتية *

- ‌الأستاذ كامل كيلاني *

- ‌في نادي القلم ببغداد *

- ‌حركتنا حركات أحياء *

- ‌‌‌حركة جمعية العلماءالجزائريينوواقع العالم الإسلامي *

- ‌حركة جمعية العلماء

- ‌واقع العالم الإسلامي:

- ‌هل لمن أضاع فلسطين عيد

- ‌حالة المسلمين *

- ‌في مجمع اللغة العربية بدمشق *

- ‌دولة القرآن *

- ‌في مصر

- ‌برقيات احتجاج

- ‌كلمة إلى الشعب الليبي *

- ‌تقارب العرب…بشير اتحادهم *

- ‌افتتاح دار الطلبة بقسنطينة *

- ‌نصيحة وتحذير *

- ‌جمعية العلماء المسلمين الجزائريين *

- ‌المشاريع التي أنجزتها هذه الجمعية:

- ‌في صميم القضية الصينية

- ‌المرأة المسلمة في الجزائر *

- ‌إلى الشباب *

- ‌تكريم الأستاذ مسعود الجلّالي *

- ‌القدس وعمّان ودمشقوبغداد ومصر

- ‌رسالة إلى الأستاذ فاضل الجمالي *

- ‌أضعنا فلسطين *

- ‌الصراع بين الإسلام وأعدائه *

- ‌معنى الصوم *

- ‌أعيادنا بين العادة والعبادة *

- ‌متى يبلغ البنيان *

- ‌اتحاد المغرب العربي الكبير *

- ‌رسالة إلى الأستاذ خليل مردم بك *

- ‌حديث رمضان

- ‌داء المسلمين ودواؤهم *

- ‌مساعي جمعية العلماءفي قضية الزعيم الحبيب بورقيبة *

- ‌من عاذري

- ‌رسالة الأستاذ الورتلاني

- ‌المطبعة والمدفع

- ‌النظام ملاك العمل والحزم مساك النظام *

- ‌تعليق على كلمة الأستاذ الكبيرالشيخ محمد عبد اللطيف دراز *

- ‌ 1

- ‌ 2 *

- ‌مذكّرة عن جمعية العلماء إلى الجامعة العربية *

- ‌الشعب الجزائري:

- ‌أشنع أعمال فرنسا في الجزائر:

- ‌لمن يرجع الفضل

- ‌مبدأ جمعية العلماء وغاياتها:

- ‌أعمال جمعية العلماء في التعليم العربي للصغار:

- ‌بادروا لنجدة إخوانكم

- ‌الجزائر تعتزّ بعقيدتها وعروبتها:

- ‌وزير فرنسي ينكر على فرنسا أعمالها البربرية:

- ‌الجزائر محرومة من كل شيء:

- ‌«الزاب» في دائرة المعارف الإسلامية *

- ‌الرق في الإسلام *

- ‌تمهيد:

- ‌دين التحرير:

- ‌الاسترقاق في التاريخ:

- ‌عمل الإسلام في الرق:

- ‌المقاصد العامة في التشريع الإسلامي:

- ‌حكم التسرّي وحكمته في الإسلام:

- ‌الاسترقاق عند المسلمين اليوم:

- ‌كلمة لصحيفة "الأهرام

- ‌كلمة لِـ"مجلة الإذاعة المصرية

- ‌الجزائر وطن *

- ‌الإستعمار *

- ‌إلى الأستاذ عبد العزيز الميمني *

- ‌فلسطين واليهود *

- ‌مداعبات إخوانية

- ‌إلى ولدنا الأستاذ عبد الحميد الهاشمي *

- ‌كليّة" الأعظمي *

- ‌إلى ولدي الأديب عمر بهاء الدين الأميري *

- ‌إلى الدكتور فاضل الجمالي *

- ‌جمعية

- ‌الطائرة

- ‌إنْ أردتَ

- ‌إلى الأستاذ صالح الأشتر

- ‌غار على أحسابه

- ‌عبد العزيز العلي المطوع

الفصل: وإلى الأمة الجزائرية الباذلة لموجودها، في سبيل وجودها، التي أقرضتُها

وإلى الأمة الجزائرية الباذلة لموجودها، في سبيل وجودها، التي أقرضتُها القرض الحسن، فوفته اعترافًا، وهجرت في خدمتها الوسن، فمدّت عليّ من الحنوّ طرافًا، أعليت قدرها- ولا منّة- حاضرًا، وعرضت وجهها ناضرًا، ورفعت ذكرها غائبًا، وصيّرت مادحًا لها من كان عائبًا، وعرفت نكرها كاتبًا، وغاليت بقيمتها خاطبًا، وخلعت عليها وصفيها الخالدين: العروبة والإسلام، فزادهما بياني روعة وجلالًا، ثم جلوتها فيهما على أخواتها، فوقفت عليها العيون، وأكبرتها الصدور، وأشهد ما قارنتها بواحدة منهن في هذين فقصرت عن غاية، مع بعد الفارق، وعقوق المارق، وكيد الطارق، ولؤم السارق. فكيف لو أرخى لها الدهر من عنانه؟ وما قلت إنها عربية عريقة إلا أدّى كل حرف من هذه الجملة شهادته، وما قلت إنها كابدت البلاء في سبيل إسلامها إلا فاض الحنان، وثارت الأشجان، وما قلت إنها قهرت في المحافظة على ذينك الوصفين خصومًا لدًّا، وكسرت سواعًا وودًّا، إلا تمنّى كل سامع أن يكونها.

فمني للأمّة الجزائرية تحيات مباركات طيّبات تغمر أجزاءها، وتضمن عني جزاءها.

____

‌بواعث الرحلة

____

دواعي هذه الرحلة كثيرة، ولكنها ترجع إلى أصل واحد، ومثيراتها في نفسي قديمة العهد، تتصل بما ركب في طباعي من حب الاطلاع والبحث، خصوصًا في شؤون الشعوب الإسلامية، وكانت تذودني عن هذه الرحلة- كلما هممت بها- الأعمال الداخلية لجمعية العلماء، وما هي بالقليلة، وعدم موافقة إخواني عليها، حرصًا منهم على تلك الأعمال أن تختل أو تتعطّل، ونحن معشر هذه الطائفة نعدّ من سعادتنا وسرّ نجاحنا أننا لا نتحرّك إلا عن اتفاق، ولا نسكن- إذا سكنا- إلا عن اتفاق، فلما توافرت الدواعي أذن لي إخواني فكانت الرحلة.

والأصل الذي ترجع إليه تلك الدواعي يتشعّب إلى أربع شعب:

الأولى: دراسة أحوال المسلمين في مواطنهم، وبحث المقارنات والمفارقات القائمة بين تلك الأحوال، ونسبة دركات الانحطاط فيهم إلى درجات الاستعداد للنهوض، وتصحيح الميزان لما تستطيع كل طائفة منهم أن تقدّمه إلى الأخريات من العون والماعون، حتى يحصل التعاون بعد تحصيل أهم أسبابه، وهو التعارف.

ص: 24

الثانية: الاتصال المباشر بعلماء الدين، هذه الطائفة التي تجمعنا بها نسبة ووصف، وتشاركنا في العهد الإلهي المأخوذ علينا جميعًا، وفي حمل الأمانة، ولا ندري هل تشاركنا في الوفاء بذلك العهد، وأداء تلك الأمانة. وهذه الطائفة هي أحق الطوائف بقيادة المسلمين إلى السعادة، وجمع كلمتهم على الحق والخير، إذا تسلّحت بما لا ينافي الإسلام من وسائل زمنها، وأنّى يتمّ لهذه الطائفة أن تجمع كلمة المسلمين على الحق والخير، قبل أن تجمع هي نفسها كلمتها على الحق والخير؟ وقبل أن تتفق على مفهوم الحق والخير؟ وعلى كل حال فالاتصال بعلماء الدين ألزم لمثلي من الاتصال بغيرهم من الطبقات النابهة في الأمم الإسلامية، لتعرف طريقة فهمهم للدين وعملهم بالدين، وعملهم للدين، ومدى اقتدارهم البياني والاستدلالي على الدعوة إليه، ومدى استعدادهم للتضحية في سبيله، ومدى اتصالهم بطبقات الأمّة، واتصالهم بالطبقات الحاكمة، أو المستشرفة للحكم: أهو اتصال نفوذ ديني يأمر وينهى، أم اتصال مجاملات عرفية تخضع وتستخذي؟ وأن هذه النقطة هي المحك، وهي الميزان بين عالم وعالم، وأن العالم الديني الذي يعوّل عليه في هذا الباب هو الذي فهم دينه على وجهه الصحيح، وفهم نفسه بوزنها الصحيح، وفهم زمنه على وجهه الصحيح أيضًا، وعرف أمراض المسلمين، ووطن نفسه على علاجها، ونكب عن ذكر العواقب جانبًا، أما الخلاف المذهبي بين العلماء فهو أيسر من أن يقف عقبة في هذا السبيل، وعلاجه - إذا صحّت النيات وعقدت العزائم على توحيد المسلمين- في جملة واحدة: الاتفاق على المتفق عليه، والسكوت على المختلف فيه سكوتًا ينتهي مع طول الزمن إلى نسيان الخلاف، وما أرث الضغائن وأيقظ الفتن إلا الجدل واللجاج، وان المتفق عليه لشيء كثير، وان فيه لخيرًا كثيرًا، وان فيه الكفاية للإصلاح وزيادة.

الثالثة: دراسة أحوال الحكومات الإسلامية القديمة والناشئة، والأصول التي تبني عليها الحكم، والاتجاهات التي تتوجّه إليها من حيث هي حكومات، ومدى تغلغل المؤثّرات الخارجية في أجهزتها الحكومية. كل تلك الدراسة لنعرف أيها أقرب مسافة من روح الإسلام وروح الشرق، وأيها أصلح لأن تكون مثالًا قريبًا للحكم الإسلامي الصالح، حتى يسانده المصلحون بالرأي وحشد المؤهلات فيصبح في وقت قريب محقّقًا لرغائب المسلمين، رادًّا عليهم ما ضاع من أحكام القرآن التي سعد بها سلفهم وأسعد.

الرابعة: دراسة نفسية شباب الأمم الإسلامية المتباعدة الديار، ومبلغ تأثرهم بالعوامل الخارجية التي تبعدهم عن روح الإسلام، ليقدر بقدرها ما يجب لهذه الحالة من علاج، ان الشباب في جميع الأمم، وفي جميع العصور هم الدم المجدّد لحياتها، الناقل لخصائصها بالوراثة، فإذا طرأ على هذا الدم ما يفسده، أو عرض للخصائص ما يزيغها، تهوّر الشباب في عماية، وزعم التطوّر، في هذا التهوّر، فمسخ أمّته وأدغمها في غيرها، ثم لا تكون في ميزان

ص: 25

ذلك الغير إلا تابعة مسودة مستعبدة نازلة عن ذاتيتها، لأنها طارت بجناح مستعار، الطائر به واقع، وهذا هو المسخ، بل هذا هو الموت، ومن المؤلم أن يكون القاتل هنا هو الشباب مصدر الحياة والإحياء، وما ركب هذه الشنعاء إلا لأنه انحرف فغرّته التهاويل، وفتنته الأقاويل، ألا إن الشباب هم الساف الجديد في بناء الأمّة، فإذا أفرط في التأثّر رمى الجسم كله بالاعتلال.

هذه حقيقة، يجب أن تقف بجنبها حقيقة أخرى، وهي أن الشباب ليسوا هم المسؤولين عن هذه الجريمة الشنعاء، وإنما المسؤول هو المجتمع الإسلامي المنحلّ المختلّ المعتلّ الذاهل الغائب عن الدنيا، والمسؤول الأول من هذا المجتمع هم أولياء الأمر من آباء وقادة وحاكمين، وفي كلمة واحدة: المسؤول عن كل جيل، لاحق هو الجيل السابق، فإذا تداخلت الأجيال السابقة تعلّقت بهم التبعة جميعًا، ولا عذر يبرئ من هذا الذنب، وسيرى القارئ في أثناء هذه الدراسات شرح هذا الإجمال.

ومن سوء حظ الأمم الإسلامية (وهو في نظرنا وحكمنا من سوء تصرّفها إذ لا مدخل للحظ في مصاير الأمم) أن تطوّرها لا ينشأ في هذا العصر عن استعدادها الطبيعي، وليس لها في أسبابه يد حتى تبنيه طبقًا عن طبق بنظام تدريجي يكمّل فيه الأخير ما بدأه الأول، ولكنها مغلوبة على أمرها، تابعة لغيرها في كل شيء وقد أصبح تيار الحضارة الغربية جارفًا لا يمهل ولا ينتظر، وأصبح شباب الأمم الإسلامية معرضًا لهذا التيار من أول خطوة في الحياة، وقد أخذ عليه الحياة من أقطارها، فتآثر بهذه الحضارة وأعشته أنوارها فأحرقته نارها، والآباء بين غافل، لأنه جاهل، وبين متذمر يدرك العواقب ولكنه لا يصنع لاتقائها شيئًا، والحكومات الإسلامية فيما بلونا من أمرها إما مأخوذة بهذا السحر، فهي تجري وراء الساحر على غير بصيرة، وقد أوحى إليها فيما أوحى أن القيام على الحقول والبقول، ألزم لحياتها من القيام على العقول، وإما متخلفة عن قوافل الزمان، عاكفة على الدمن، معتمدة في العصر الذرّي على سيوف الهند واليمن.

لذلك كله أصبح من الواجب على قادة النهضة الإسلامية وحماتها أن يرسلوا صيحة جهيرة وراء هذا الجيل الراحل عن الديار بروحه وعقله وهواه، ليرجع إليها، وليس براجع إلا إذا عرف لماذا يرجع، وماذا يجد إذا رجع، فلنعرفه أنه سيجد ماضيًا مشرقًا يتصل بحاضره اتصال الأصل بالفرع، وسيجد تاريخًا حافلًا، وذخائر عقلية، ومجالات روحية تمكن له في الإنسالية الكاملة، وتضمن له جميع المتع العقلية والفكرية والروحية والبدنية، إلا هذه الشهوات السطحية والنزوات الحيوانية فليس لها مكان عندنا، ولا قرار في شرقنا، فإذا رجع هذا الشباب من غربته العقلية، وعاد إلى مستقرّه الشرقي، واطمأن إليه أمِنّا على تاريخنا الانقطاع، وأمِنّا على ذخائرنا الضياع، لأنه سيأخذها بقوّة الشباب، ويقين العقيدة، وتزكية

ص: 26

العلم، وصدق الشعور، وحيوية الإحساس، ويمسح عنها صدأ الإهمال، ويتناولها بآلات جديدة لم يفسدها الترك والاطراح، ولم يثلمها التقليد كما ثلمها في عقول آبائه وأرواحهم.

هذه هي النقطة التي يجب أن تبدأ منها أعمال المصلحين من حماة الإسلام، وتلتقي عليها جهودهم، وإلا فإنهم يضربون في حديد بارد، فإن كانوا فاعلين فليبدأوا العمل في ميدانين: في البيت الذي هو معمل التكوين، وفي المدرسة التي هي معمل التلوين، وليتعاهدوا البيت بالتطهير وتقوية التربية الدينية في من يلي تربية هذا الجيل من آباء وأمهات، وليحملوا القائمين على هذه المدارس التي يضطرب فيها الجيل على إقرار الدين فيها علمًا وعملًا إلى جانب الدنيا.

هذا هو الجهاد الأكبر الذي لا يعذر المصلحون في العالم الإسلامي في التخلف عن ميدانه، وهو في حقيقته وواقعه معركة بين الإيمان والكفر على شبابنا، فمن ظفر فيها غنمه، وبوادر هذه المعركة تدلّ على أن النصر ليس في جانبنا، ولئن لم نستعدّ للجولة الثانية، إنا إذًا لخاسرون، والجولة الأخيرة ستبتدئ من الصبية قبل الشبيبة، فعلى المصلحين أن يبادروا بتلقيحهم "بالمصل الواقي" وما هو إلا التربية الإسلامية الصحيحة الكاملة، فإن المحافظة على الأرواح ليست أقل شأنًا من المحافظة على الأبدان، وأن يصرفوا عنايتهم واهتمامهم كله إلى هذه الناحية، ولا يتشاغلوا بالآباء ووعظهم فإن هذا عمل لا غناء فيه في مسألتنا، وحسبهم من هذه الطبقات- التي جفّت على عوج، وانطمست فيها آية الفطرة- إصلاح يمنع انتشار العدوى، ويحول دون استشراء الداء، ودون تعطيل الإصلاح.

والعجب من ملوك الإسلام وكبراء الشرق، أنهم لا يلتفتون إلى هذه الناحية بل يتركون الشبان تتخطفهم ذئاب الآراء ونسور العقول، ويلهون أنفسهم بهذه الطوائف المدبرة، يهتمون بها ترغيبًا للمصلحة، أو ترهيبًا لدفع المفسدة، فأما العضو الحي الذي سيحمل الأمانة غدًا، ويضطلع بالدولة، ويقود المسلمين إما إلى جنة وإما إلى نار، فإنهم لا يلقون له بالًا، ولو اعتنوا به وأحاطوه بالرعاية لعاشوا به سعداء راضين مطمئنين، وماتوا قبله آمنين على هذه الأمانة.

ويح المسلمين! يولد مولودهم، فإما أن يهمل ولا يعلم- وهذا هو الأكثر- فيستقبل الحياة بلا دين ولا دنيا، وإما أن يعلم هذا التعليم الشائع فيجمد وتخمد فيه جذوة الإسلام،

ص: 27

وإما أن يسلك به المسلك الثالث وهو التعليم الأوربي أو المطبوع بالطابع الأوربي فيلحد ويحتقر آباءه وأمّته ودينه ولغته ووطنه، فمن للمسلمين؟

هنا شكوى متردّدة بين جنبات الشرق، وتهمة مترادّة بين شيوخه وشبابه، أولئك يشكون من هؤلاء أنهم تمرّدوا على الدين فلا يقيمون شعائره، وعلى الفضائل فلا يقيمون لها وزنًا، وهؤلاء يشكون من أولئك أنهم رجعيون جامدون لا يسيرون مع الزمن ولا يتركونهم يسيرون، تسمع هذه الشكوى، وما ثم إلا الشكوى، فأما العمل لإزالتها، والسعي في علاجها، والتقريب بين طرفيها فلا تسمع عنه خبرًا، ولا ترى له أثرًا.

وقد أتاحت لي إقامتي شهرين في باكستان أن أدرس بنفسي حالة شبانها، فرأيت الحالة مشابهة لما عندنا، ثم اجتمعت في كراتشي بنفر من رجالات الشرق النابهين فأخبروني عن أوطانهم متألمين أن حالة الشبّان واحدة، ثم شهد المؤثمر الأخير عدّة وفود من الأقطار الإسلامية، فتهيّأ لي أن أدرس عدة نواح منها هذه، فخرجت بهذه الزفرات التي بثثتها في هذه الكلمات، فإذا أطلت في هذه النقطة فعذري هو هذا، على أنني لم أنته إلى الرأي المفصّل، وسأفصله في "الرحلة" فإنني الآن إنما أكتب إلى «البصائر» وهي صحيفة.

هذه هي المقاصد الأساسية لرحلتي، وإن وراءها لنوافل كثيرة أهمها التعريف بجمعية العلماء وأعمالها للإسلام والعربية، والتعريف بالجزائر والشمال الافريقي كله، فإن إخواننا في الشرق لا يعلمون عنا إلا القليل المشوّه، وقد قمت بهذا التعريف في دواخل باكستان على أكمل وجه، فأصبحت أحوالنا وأعمالنا معروفة على حقيقتها، وأصبحت في نظر المجتمعات التي سمعت عرضها وبيانها مني مما تجب العناية به، ومن تلك النوافل المؤكّدة تصحيح أخطاء السماع بالعيان، ومنها توكيد التعارف بين أجزاء العالم الإسلامي وفتح الباب لتبادل الزيارات، ولم تزل هذه الرحلات عند أسلافنا أخذًا وعطاءً وإفادة واستفادة، وإذا يسّر الله إكمال هذه الرحلة يسّر كتابتها على النحو الذي شرعت فيه، ودوّنت المرحلة الأولى منه، فستكون رحلة عامرة بالمعلومات الصحيحة، والآراء الممحصة إن شاء الله، وسيكون أول مستفيد منها أبناء الشمال الافريقي.

إن هذه المقالات التي أكتبها متتابعة في «البصائر» هي خلاصة المذكرات التي أعددتها لكتاب الرحلة، ومعذرة لإخواننا الشرقيين إذا قرأوا فيها سردًا لتنقلاتي، أو توسّعًا في شيء معلوم عندهم، فإنني إنما أكتب لقومي ومن يليهم، وهم في حاجة شديدة إلى مثل هذه الأخبار، لانقطاعهم عن الشرق وتشوّفهم إلى كل ما يرد منه أو عنه، ومعذرة أخرى إلى قرّاء

ص: 28