الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسالة إلى الأستاذ فاضل الجمالي *
الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
يوجّه التعليم في خدمة العروبة والإسلام في الجزائر
ــ
كان العلّامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء الجزائريين من كبار المجاهدين الذين عملوا على حماية العروبة والإسلام في الجزائر، وكان له الفضل في تعريف المشرق العربي بكفاح الجزائر من أجل الحرية والاستقلال. كان لي شرف التعرّف عليه لأول مرة في باريس سنة 1951 حيث اجتمعت الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وقد وجدت فيه آنذاك ينبوعًا فيّاضًا من ينابيع العلم والإيمان وكان يترجم علمه وإيمانه إلى لغة الجهاد والعمل، وما زلت أتذكّر الخطاب الذي ألقاه في حفل أقمته على شرف نيل ليبيا للاستقلال في باريس في بداية سنة 1952 حيث قال ما مآله ان الجزائر سوف تلحق بجهادها شقيقاتها وسوف تظهر من البطولات وتقدم من التضحيات من أجل حريتها واستقلالها ما سيرفع رأس العروبة والإسلام عاليًا، ومن باريس توطدت بيني وبين العلّامة المجاهد صلة أخوية متينة فكنت أقوم باستقباله والحفاوة به في بغداد كلّما قدم إليها وصار يعتمد عليّ في العراق ويعتبرني كسفير لحركة الكفاح الجزائري لدى الحكومة العراقية، وهذا ما حاولت القيام به بكل همة وأمانة، وقد وجدت بين أوراقي هذه الرسالة الموجّهة إلي والتي تعتبر من جهاد العلّامة في سبيل حماية العروبة والإسلام في الجزائر عن طريق نشر التعليم والثقافة، وها أنا أقدّمها كوثيقة تاريخية تفسّر لنا نهضة الجزائر المباركة اليوم في حماية العروبة والإسلام.
الدكتور محمد فاضل الجمالي
* مجلة "جوهر الإسلام"، السنة الرابعة، العدد 6، تونس، مارس 1972.
بغداد في 6 كانون الثاني (جانفي) سنة 1954.
حضرة صاحب الفخامة الدكتور محمد فاضل الجمالي
رئيس الوزارة العراقية ورئيس مجلس الجامعة العربية في دورتها الحالية المحترم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرجو من فخامتكم أن تقرأوا هذا البيان بإمعان وأن تعرضوه على مجلس الجامعة وأن تتولوا بيانه والدفاع عنه مشكورين.
كاتب هذا البيان إلى فخامتكم وإلى مجلس الجامعة الموقّر هو رسول أمة عربية مسلمة في الجزائر تعد أكثر من عشرة ملايين من النفوس وتجاهد الجهاد العنيف في سبيل عروبتها وإسلامها.
وهو قائد حركة ثقافية علمية أساسها العروبة والإسلام.
وهو رئيس جمعية منظّمة حقّقت في عقدين من السنين أشياء تعد من خوارق العادات في هذا العصر فشيّدت مائة وخمسين مدرسة ابتدائية عربية ومعهدًا ثانويًا فخمًا كامل الأدوات وعلمت مئات الآلاف من مجموع مليوني طفل محرومين من التعليم بجميع أنواعه، كل ذلك بمال طفيف تدفعه أمة فقيرة ولكن مؤمنة بمعاني الجهاد ونتائج الجهاد.
رسالتي التي أحملها من الأمة الجزائرية العربية إلى أخواتها العربيات في الشرق العربي هو شرح الحالة على حقيقتها وطلب النجدة السريعة بإعانات مالية تحفظ الموجود في الجزائر وتدفعه خطوات إلى الأمام وتعين هذه الجمعية على إكمال رسالتها التي لا تتم إلا بمئات أخرى من المدارس تستوعب أكبر عدد من الأطفال المحرومين الذين يريد لهم الاستعمار أن يبقوا مشرّدين، وبإيفاد مئات من الطلبة الحاصلين على الشهادة الابتدائية العربية إلى معاهد الشرق العربي ليكملوا دراساتهم فيها على نفقة حكوماتها وليرجعوا إلى أوطانهم معلّمين مجاهدين.
بلغت الرسالة على أكمل وجه وأدّيت الأمانة غير منقوصة وكرّرت وأعدت وكانت النتيجة أن استجابت معظم الحكومات العربية فقبلت أعدادًا محدودة من تلاميذ جمعية العلماء في معاهدها وعلى نفقتها.
وأنا مع شكري لهذه الحكومات فإنني ما زلت أطلب المزيد. ولو أن حكوماتنا العربية أنفقت على ألف تلميذ جزائري لما كان ذلك كثيرًا عليها ولا على الجزائر، ولو أن الأمانة العامة لجامعة الدول العربية أنفقت على ألف أخرى لما كان ذلك كثيرًا عليها ولا على الجزائر، وبرهان كلامي يتركّب من عدة مقدّمات يقينية يجب على كل عربي في الشرق أن
يفهمها وأن يؤمن بها، لا سيّما الحكومات والساسة وقادة الرأي، وأنا كفيل بشرحها وبيانها لأنه من أصول رسالتي:
الأول: إن الشعب الجزائري مؤلف من عشرة ملايين وزيادة كلهم عرب أصلاء، وكلهم مسلمون متصلبون، والاستعمار الفرنسي عامل على مسخهم وإخراجهم من عروبتهم وإسلامهم، ولولا خصال فطرية في التصلّب والاعتزاز بجنسيتهم ودينهم وشرقيتهم، ولولا جمعية العلماء وجهادها عشر سنين في التمهيد وعشرين سنة في العمل لبلغ الاستعمار منهم ما أراده، ولو ضاعوا لكان ضياعهم مصيبة على المجموعة العربية لأنه نقص في رأس مالها من الرجال المتشددين في عروبتهم، والزمان زمان تكتّل وتكاثر في العدد ونحن نرى أقوياءه يتكاثرون بمن ليس منهم ولا تجمعه بهم جامعة، فكيف بالأخ الأقرب المشارك في الدم واللسان والخصائص الجنسية.
الثاني: إن جامعة الدول العربية ملزمة بروح ميثاقها العام أن تحرّر كل عربي على وجه الأرض بالمستطاع من وسائلها التدريجية، ولا نشك أن للشعب الجزائري مكانته في نفس الجامعة، وقيمته في تقدير الجامعة و"خانته" في برنامج الجامعة، فإذا كانت الجامعة لا تستطيع أن تحرّر القطر الجزائري كوطن فهي تستطيع أن تحرّر العقول والأفكار بالعلم والمعرفة من الجهل والضلال اللذين هما أساس الاستعمار. والجامعة أول من يعلم أن الشعب الذي لم تتحرّر عقوله وأفكاره من قيود الجهل والوهم يستحيل أن تتحرّر أبدانه أو يعسر أن تتحرّر، وقد هيأت جمعية العلماء هذا الشعب للاستقلال بما لقّنته من معاني الحياة الشريفة وبما بثّت فيه من معاني العروبة والوطنية والحرية وبما ربطته بالشرق ربطًا محكمًا، وهي تُرَبّيهِ لا على المطالبة بحقّه بل أخذ حقّه بيده، كل ذلك بالفعل الذي قامت عليه الشواهد لا بالأقوال الفارغة التي لا عليها شاهد، وان هذه الجمعية تعلم أن ركب العرب لا يُحْدَى إلا بلغة العرب، ولا يطرب إلا على أغاني العروبة، وتعلم أن قافلة الإسلام لا تهدى إلا بدلالة القرآن، وكل هذا فعلته جمعية العلماء وما زالت تفعله، وقد صحّت التجربة وصدقت النتيجة، وعلى هذا فلجامعة الدول العربية من جمعية العلماء الجزائريين سند قويم ودليل هاد ومعين أمين.
الثالث: ان الشعب الجزائري العربي غريب في وضعه لا يقاس بشعب ولا يقاس به شعب عربي آخر لأن لكل شعب من الشعوب العربية المستقلّة رأس مال من الحرية والحكم والمال ومواريث الأسلاف من مدارس ومساجد ومعاهد وأوقاف. تونس ومراكش المحيطتان بالجزائر ما يزال فيهما شيء من تلك المواريث، ففيهما المساجد الكثيرة الضخمة، فيهما بقية أوقاف دارة وفيهما صور من الحكم وأنواع من الوظائف العليا، وفي تونس جامعة الزيتونة ثانية الجامعات الإسلامية بعد الأزهر، وفي مراكش جامعة القرويين ثالثة الجامعات الإسلامية بعد الأزهر والزيتونة ولكل واحدة من الجامعتين ميزانية ضخمة من الأوقاف ومن
الخزانة العامة، وكل واحدة منهما محفوظة ومسيّرة بميزانيتها القارة، أما الجزائر فلم يبق فيها أثر ولا عين من تلك المواريث، فالأوقاف الإسلامية العظيمة صادرها الاستعمار في السنة الأولى لاحتلاله والمساجد العظيمة صيّرها كنائس ومرافق عامة في السنوات العشر الأول انتقامًا من المقاومة التي كان يلقاها في الشعب الجزائري، وبقية المساجد هي ووظائفها تحت يده وسلطانه وهي كذلك إلى الآن وصيّر من وظائفها وسائل تجنّد للجوسسة، ومن رجالها ألسنة للتسبيح بحمد فرنسا، حتى يكون المسلمون بعضهم لبعض عدوًا، وهم الآن حرب على التعليم العربي وعلى جميع الحركات المناهضة لفرنسا وفي مقدمتها جمعية العلماء، وفرنسا ترصد مئات الملايين من ميزانيتها لحرب العربية والإسلام في الجزائر، وتجنّد الآلاف من أذنابها لمقاومتها والتزهيد فيها.
وفي هذا التصوير، وهو قليل من كثير، تتضح عظمة الأعمال التي قامت بها جمعية العلماء الجزائريين وفي وسط هذه الظلمات المعكرة بالظلم والجهل والفقر، وان جمعية توجد شيئًا من لا شيء لحقيقة بالتقدير والإعانة العملية
…
ان جمعية تشيد مائة وخمسين مدرسة ابتدائية وتعمرها بنحو خمسين ألف تلميذ من بنين وبنات يدرسون العربية والإسلام ثم تنشئ معهدًا ثانويًا يحتوي على ألف وخمسمائة تلميذ وتشيد سبعين مسجدًا لإقامة الشعائر الإسلامية، وتؤسّس مائة ناد وزيادة للمحاضرات العلمية والاجتماعية، وتنظّم البرامج الفعّالة لمكافحة الأمية ثم تمدّ نظرها إلى ما هو أعظم من ذلك، فهي عازمة مصمّمة إن تيسّرت لها الوسائل المادية أن تشيد ألف مدرسة تستوعب مئات الآلاف من الأطفال المشرّدين، وهذا المقدار من المدارس هو القدر الضروري الذي يفتقر إليه الشعب الجزائري ويستتبع ذلك عدة معاهد ثانوية ينتقل إليها الآلاف من المحصلين على الشهادة الابتدائية وعدة معاهد لتخريج المعلمين لهذا الجيش الجرّار من المتعلمين. كل هذا من الآمال التي تسعى جمعية العلماء لتحقيقها، وان جمعية تعمل مثل تلك الأعمال وتأمل مثل هذه الآمال لحقيقة بأن يؤخذ بيدها وأن تعان على تثبيت أعمالها وتحقيق آمالها.
وهذا مجمل من حقيقة هذه الجمعية كنت قدمت تفصيله في مذكّرتين للأمانة العامة لجامعة الدول العربية من نحو سنة مضت، كما بيّنته أبلغ بيان لإخواني العرب شعوبًا وحكومات في هذه الرحلة التي استغرقت من وقتي ما يقرب من السنتين، وقد برأت بهذا التبليغ إلى الله وإلى التاريخ وإلى ضميري وأمانتي، ولم يبق إلا واجب الإخوان لإخوانهم، وقد بدأت بوادره في هذه العشرات من الطلّاب الذين قبلتهم الحكومات العربية في معاهدها على نفقتها وفي مبلغ مائة وعشرين جنيهًا مصريًا قرّرته الأمانة العامة إعانة لمكتب جمعية العلماء في القاهرة، وذلك المكتب الذي أسّسته ليكون واسطة بين الشرق العربي وغربه، وسفيرًا أمينًا بين الجزائر وأخواتها العربيات شعوبًا وحكومات.
أنا راجع إلى الجزائر بعد مدة تطول أو تقصر
…
راجع إلى ميدان جهادي وأعمالي وهو الميدان الذي يعزّ علي أن أفارقه، وأتمنّى أن أموت فيه إن شاء الله مقبلًا غير مدبر
…
وآكد أمل يعمر خاطري أن يفهم إخواننا العرب شعوبًا وحكومات حقيقتنا كما هي كأنهم يرونها بأعينهم، وأن يتبيّنوا أعمالنا وآمالنا، فيكون سرورهم بالأعمال مدعاة لإعانتنا على تحقيق الآمال، فإذا فهمونا على حقيقتنا علموا أن هذا الشعب المجاهد لا زال في حاجة إلى مئات من المدارس الابتدائية تنقذ ذلك العدد المعرض للكفر والاستعجام من أبنائه، وما زال مفتقرًا إلى عدد من المدارس الثانوية ترضي رغبات الآلاف من الحاملين للشهادة الابتدائية، وما زال في حاجة إلى عدة معاهد من صنف دور المعلمين.
وليس كثيرًا على جامعة الدول العربية أن تبني باسمها وبمالها دارًا للمعلّمين وأخرى للمعلّمات في الجزائر ومعهدًا ثانويًا أو معهدين تخفيفًا للعبء الثقيل الذي تحمله جمعية العلماء والأمة من ورائها.
وليس كثيرًا على الحكومات العربية أن تعلم في معاهدها وعلى نفقتها بضع مئات من أبناء الجزائر ليصبحوا معلّمين لأبناء شعبهم ورسل ثقافة بين المشرق العربي والمغرب العربي.
إن مكتب جمعية العلماء بالقاهرة هو جمعية العلماء ممثلة في القاهرة، فهو لسانها الناطق بأعمالها، المصوّر لحقيقتها وأمانيها، وهو السفير الأمين بين الشعب الجزائري وبين الشرق العربي كله، وهو المبلغ الصادق بين الطرفين، وهو الذي يشرف على هذه البعثات الرسمية المنظّمة مهما كثر عددها، وهو متحمّل في هذا السبيل لأعباء لا قبل له بها ولكنها واجبات، وهو في هذا اليوم مسؤول عن نفقات عشرات من الطلّاب لم يلتحقوا بالهيئات الرسمية، وهو كأصله لا ينفق فلسًا من المال ولا دقيقة من الوقت في الشخصيات، وانه منفق كل جهوده في نفع المجموع الجزائري، وهو يمد رجله على قدر الكساء فإن وجد السعة توسّع في البعوث.
أيها الإخوان: إنني أعتقد أنني لا أملك إلا التبليغ وقد بلّغت، ولا أستطيع إلا الإفهام وقد أفهمت، ولي من خصائص العروبة حظ في البيان وقد بيّنت، ولي من حقيقة العالم المسلم النصح وقد نصحت، فاللهمّ اشهد.
محمد البشير الإبراهيمي
رئيس جمعية العلماء الجزائريين