الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
زادت معارفه العربية بملازمتي شهرين زيادة كبيرة. هذا المترجم هو الشيخ محمد عادل القدوسي من المتخرجين في النهضة التي أشرنا إليها، والتي مركزها مدينة ديوبند، ومن القائمين على تصحيح الكتب العربية التي طبعتها الجامعة العثمانية بحيدر أباد دكن، ثم هاجر بعد الانفصال وحلول الكارثة بإمارة حيدر أباد إلى كراتشي، فأصبح ملازمًا لي لا يفارقني إلا ساعات النوم، يتولّى الترجمة بيني وبين الزوّار ويتولّى المخاطبات التيليفوية بالأوردية، ويسفر عني إلى رجال الدولة، وقد صاحبني في الرحلة إلى كشمير وخيبر ومدن باكستان، وترجم عني جميع محاضراتي ودروسي وندواتي الصحافية وأجوبتي وآرائي وتقاريري، ورزقي الله منه بتلميذ مخلص، ومترجم حاذق ورفيق مؤنس في السفر، وقد عرف في الأوساط كلها بالنسبة إليّ فأصبحت أعطف عليه كأقرب المنتسبين إليّ، وعزّ عليّ فراقه كما عزّ عليه فراقي، وقد أوصيت به خيرًا من أثق به من الإخوان، فهو رجل حييّ عفيف شريف النفس، أتت كارثة الهندوس على ما يملك من أسباب الحياة، فنجا بدينه وبَدَنِهِ وأولاده، كان الله له ويسّر له الأسباب.
…
____
بدء الأعمال العامة
____
صلّيت الجمعة الثانية في مسجد غير المسجد الذي صلّيت فيه الجمعة الأولى، وهو مسجد جديد منسوب إلى الشيخ احتشام الحق، أحد أعضاء مؤتمر العلماء الذي انعقد في فبراير الماضي، وأحد العلماء المعروفين بالقرب من مشربنا في الإصلاح الديني، وإحياء السنن الصحيحة، وفي هذا المسجد ألقيت أول محاضرة قبل صلاة الجمعة، وكان الشيخ القدوسي واقفًا إلى جنبي يترجم عني مقطعًا مقطعًا، وكان موضوع المحاضرة وظيفة العالم الديني في الإسلام، فشرحت وفصلت، وبيّنت فأبلغت، ووسمت العلماء بالتقصير في أداء الأمانة، والتفريط في قيادة المسلمين حتى قادهم من لا يحسن القيادة، فقادهم إلى الهلاك، وبيّنت أن وظيفة العالم هي التربية والتعليم، وشرحت كيفيتهما بعمله صلى الله عليه وسلم، وأنه بعث ليعلّمنا ويزكينا، فتأثّر السامعون تأثّرًا دلَّ عليه وجومهم، وبدت آثاره على وجوههم، ثم قام الشيخ احتشام الحق فقرأ خطبة الجمعة بالعربية من كتاب، وكان موضوعها فضائل شهر رجب وأنه يصعد إلى السماء ويسأله الله عن أعمال عباده فيعتذر بأنه أصمّ، إلى آخر تلك المحاورة التي وضعها القصاصون بين الله وبين رجب، فلم أملك إلا الحوقلة والاسترجاع،
وحمدت الله على خفوت صوت الخطيب وجهل السامعين بالعربية، وإن هذا لمن المواطن التي يستحب فيها الجهل والصمم وكأن حضرة الخطيب جاء بتلك الخطبة شاهدًا لما وصمت به علماء الدين من إلهائهم للعامة بالقشور، وقد سبق التعارف بيني وبين الشيخ احتشام الحق أثناء الأسبوع الأول في دعوة عشاء بداره، وهو يحسن العربية فهمًا ونطقًا، ثم لم أجتمع به بعد تلك الجمعة، ولا أدري أينا الملوم.
ثم صلّيت الجمعة الثالثة في مسجد آخر، وألقيت قبل الصلاة محاضرة طويلة ترجمها المترجم فصلًا فصلًا، وكان التأثر بها عظيمًا، ولما فرغت طلب مني الإمام الراتب أن أخطب للجمعة وأصلّي بالناس، فخطبت خطبة الجمعة من غير ترجمة، ولكن إحساس المصلّين قام مقام الترجمة، فكان تأثّر، وكان خشوع، وكان اتصال روحاني بين السامع والمسموع، كل ذلك لأن حالة السامعين الحاضرة كانت هي الموضوع.
ثم صلّيت الجمعة الرابعة من إقامتي الأولى في كراتشي في جامع الميمن، وهو جديد لم يتم بناؤه ولم يسقف وإنما هو مغطّى بـ"قلوع " تدفع الحرّ، ولئن تمّ ليكونن أوسع مساجد كراتشي، والقائمون عليه هم تجّار الميمن، وهي طائفة مواطنها في شرق الهند، وهي أنشط طوائف مسلمي الهند في التجارة والتنقل في سبيلها، وقد حاضرت المصلّين كالعادة بالمترحم، وهم آلاف، فلما حانت الصلاة رغب إلي إمامهم وكبراؤهم أن أخطب للجمعة وأصلي بالناس، وهم لا يشترطون في الإمام الاستيطان، ولا في الجامع السقف، فخطبت وصلّيت. ولما كانت هذه المحاضرات وهذه الخطب الجمعية كلها وصفًا لداء المسلمين ودوائهم، كان التأثّر بها عظيمًا، وإن حالة المسلمين اليوم قد أصبحت من شدّة الوضوح مما يستوي في معرفته العالم والجاهل، وإن مسلمي باكستان والهند عمومًا ليزيدون على طوائف المسلمين التي عرفناها بشدّة التأثّر وسخاء الدمع إذا سمعوا كلام الله أو سمعوا التذكير به، لا سيّما إذا كان بالعربية ولو لم يفهموها، لما وقر في نفوسهم من علاقتها بالوحي والنبوّة وأنها لسان محمد وهم يحبونه، ولغة الجنة وهم يحبّونها ويتمنّونها، ولا عجب في تأثّرهم بما لا يفهمون فقد يطرب سامع الموسيقى إلى حدّ الخروج عن الاعتدال، وليس فيها شيء يفهم ولا يترجم، إنما هو فيض روحاني المأتى، فهو فوق العبارات، فلا تحدّه معاني العبارات، ولا يتوقف عليها.
ألا إن مسلمي باكستان والهند لينفردون بخاصية، سمّيتها بعد التأمل والدراسة "القابلية" وأعتقد أن هذا هو اسمها الحقيقي، فقابلية الخير والصلاح والإصلاح فيهم ظاهرة السمات، فلو رزقوا الموجّه المسدّد، والمشير الحكيم، لسبقوا طوائف المسلمين كلها إلى غاية الخير التي نرجوها للمسلمين، ولَلَوَوْا الأعنة سراعًا إلى هدي القرآن، وقالوا للمتخلفين البطاء: الحقوا فقد سبقنا، والموعد بيننا وبينكم "محمد".