المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أعيادنا بين العادة والعبادة * - آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي - جـ ٤

[البشير الإبراهيمي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الرابع

- ‌مقدمةمحمد الغزالي

- ‌السياق التاريخي (1952 - 1954)

- ‌في باكستان

- ‌رحلتي إلى الأقطار الإسلامية *

- ‌ 1

- ‌بواعث الرحلة

- ‌بدء الرحلة

- ‌ 2 *

- ‌إلى كراتشي

- ‌ 3 *

- ‌مشكلة اللغة

- ‌بدء الأعمال العامة

- ‌ 4 *

- ‌كلمة حق

- ‌الزيارات

- ‌ 5 *

- ‌بقية أعمالي في كراتشي

- ‌حفلة جمعية علماء باكستان

- ‌رحلتي إلى كشمير والدواخل

- ‌ 6 *

- ‌بقية أعمالي في كراتشي

- ‌أخوة الإسلام *

- ‌الرجوع إلى هدي القرآن والسنّة *

- ‌أصلح نظام لتسيير العالم الإنساني اليومهو الإسلام *

- ‌تقرير مرفوع إلى صاحب الدولةرئيس وزراء الحكومة الباكستانية *

- ‌في مؤتمر العالم الإسلامي

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌وحدة الصوم والعيد *

- ‌خماسيات عمر الأميري *

- ‌ديوان «مع الله» *

- ‌جواب على أسئلة ثلاثة *

- ‌في العراق

- ‌لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أوّلها *

- ‌تعارف المسلمين مدعاة لقوّتهم وعزّتهم *

- ‌في الموصل *

- ‌بغداد تكرّم المغرب العربي *

- ‌في المملكة العربيةالسعودية

- ‌وظيفة علماء الدين *

- ‌ 1

- ‌ 2 *

- ‌ 3 *

- ‌الشباب المحمّدي *

- ‌الشيخ محمّد نصيف *

- ‌إلى علماء نجد *

- ‌تعليم البنت *

- ‌في مصر

- ‌صوت من نجيب، فهل من مجيب

- ‌في ذكرى المولد النبوي الشريف *

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌الأستاذ الفضيل الورتلاني *

- ‌الأستاذ سيد قطب *

- ‌اِغتيال الزعيم التونسي فرحات حشّاد *

- ‌تحية الجزائر *

- ‌منزلة الأدب في الحياة *

- ‌مذكرة إيضاحية *

- ‌الشعب الجزائري

- ‌ جمعية العلماء

- ‌نشأة هذه الجمعية:

- ‌تشكيلات الجمعية في الوقت الحاضر:

- ‌العضوية في الجمعية:

- ‌جرائد الجمعية:

- ‌مالية جمعية العلماء:

- ‌أعمال الجمعية لحفظ الإسلام على مسلمي فرنسا:

- ‌مواقف مشهودة لجمعية العلماء:

- ‌موقفها من المبشّرين المسيحيين:

- ‌موقفها من الإلحاد:

- ‌موقفها من الخمر:

- ‌موقفها من تعليم المرأة:

- ‌موقفها من السياسة الجزائرية:

- ‌موقف فرنسا من الجمعية:

- ‌أمهات أعمال جمعية العلماء

- ‌أولًا- مقاومة الأمية:

- ‌ثانيًا- المحاضرات الدينية والاجتماعية:

- ‌ثالثًا- تأسيسها للنوادي العلمية:

- ‌رابعًا- بناء المدارس:

- ‌خامسًا- المعهد الباديسي:

- ‌مشروع جامعة عربية إسلامية في الجزائر

- ‌خلاصة النتائج الإيجابية من أعمال جمعية العلماء وتوجيهاتها

- ‌في المعنويات

- ‌في الماديات

- ‌خاتمة

- ‌تحية غائب كالآيب

- ‌من هو المودودي

- ‌نص البرقية التي أرسلناها إلى حاكم باكستانوإلى رئيس وزرائها في قضية المودودي

- ‌في الكويت وبغدادودمشق وعمّان ومكّة

- ‌حكمة الصوم في الإسلام *

- ‌تصدير لمجلة «الإرشاد» الكويتية *

- ‌الأستاذ كامل كيلاني *

- ‌في نادي القلم ببغداد *

- ‌حركتنا حركات أحياء *

- ‌‌‌حركة جمعية العلماءالجزائريينوواقع العالم الإسلامي *

- ‌حركة جمعية العلماء

- ‌واقع العالم الإسلامي:

- ‌هل لمن أضاع فلسطين عيد

- ‌حالة المسلمين *

- ‌في مجمع اللغة العربية بدمشق *

- ‌دولة القرآن *

- ‌في مصر

- ‌برقيات احتجاج

- ‌كلمة إلى الشعب الليبي *

- ‌تقارب العرب…بشير اتحادهم *

- ‌افتتاح دار الطلبة بقسنطينة *

- ‌نصيحة وتحذير *

- ‌جمعية العلماء المسلمين الجزائريين *

- ‌المشاريع التي أنجزتها هذه الجمعية:

- ‌في صميم القضية الصينية

- ‌المرأة المسلمة في الجزائر *

- ‌إلى الشباب *

- ‌تكريم الأستاذ مسعود الجلّالي *

- ‌القدس وعمّان ودمشقوبغداد ومصر

- ‌رسالة إلى الأستاذ فاضل الجمالي *

- ‌أضعنا فلسطين *

- ‌الصراع بين الإسلام وأعدائه *

- ‌معنى الصوم *

- ‌أعيادنا بين العادة والعبادة *

- ‌متى يبلغ البنيان *

- ‌اتحاد المغرب العربي الكبير *

- ‌رسالة إلى الأستاذ خليل مردم بك *

- ‌حديث رمضان

- ‌داء المسلمين ودواؤهم *

- ‌مساعي جمعية العلماءفي قضية الزعيم الحبيب بورقيبة *

- ‌من عاذري

- ‌رسالة الأستاذ الورتلاني

- ‌المطبعة والمدفع

- ‌النظام ملاك العمل والحزم مساك النظام *

- ‌تعليق على كلمة الأستاذ الكبيرالشيخ محمد عبد اللطيف دراز *

- ‌ 1

- ‌ 2 *

- ‌مذكّرة عن جمعية العلماء إلى الجامعة العربية *

- ‌الشعب الجزائري:

- ‌أشنع أعمال فرنسا في الجزائر:

- ‌لمن يرجع الفضل

- ‌مبدأ جمعية العلماء وغاياتها:

- ‌أعمال جمعية العلماء في التعليم العربي للصغار:

- ‌بادروا لنجدة إخوانكم

- ‌الجزائر تعتزّ بعقيدتها وعروبتها:

- ‌وزير فرنسي ينكر على فرنسا أعمالها البربرية:

- ‌الجزائر محرومة من كل شيء:

- ‌«الزاب» في دائرة المعارف الإسلامية *

- ‌الرق في الإسلام *

- ‌تمهيد:

- ‌دين التحرير:

- ‌الاسترقاق في التاريخ:

- ‌عمل الإسلام في الرق:

- ‌المقاصد العامة في التشريع الإسلامي:

- ‌حكم التسرّي وحكمته في الإسلام:

- ‌الاسترقاق عند المسلمين اليوم:

- ‌كلمة لصحيفة "الأهرام

- ‌كلمة لِـ"مجلة الإذاعة المصرية

- ‌الجزائر وطن *

- ‌الإستعمار *

- ‌إلى الأستاذ عبد العزيز الميمني *

- ‌فلسطين واليهود *

- ‌مداعبات إخوانية

- ‌إلى ولدنا الأستاذ عبد الحميد الهاشمي *

- ‌كليّة" الأعظمي *

- ‌إلى ولدي الأديب عمر بهاء الدين الأميري *

- ‌إلى الدكتور فاضل الجمالي *

- ‌جمعية

- ‌الطائرة

- ‌إنْ أردتَ

- ‌إلى الأستاذ صالح الأشتر

- ‌غار على أحسابه

- ‌عبد العزيز العلي المطوع

الفصل: ‌أعيادنا بين العادة والعبادة *

‌أعيادنا بين العادة والعبادة *

كلمتا العادة والعيد تجتمعان في أصل الاشتقاق اللفظي وتلتقيان على الاشتراك في المعنى الوضعي، ولكن الإسلام حينما شرع عيديه العظيمين بين بناء مشروعيتهما على معانٍ دينية جليلة وأبقى اللفظ للدلالة على الزمن الموقّت لتلك المعاني كما هو شأنه في جميع حقائقه وأحكامه القدرية والتكليفية والكونية المشهودة والمغيبة، يدل عليها بمفردات وتراكيب عربية مما يعرف الناس ويبقي لها جزءًا من المعنى يتصل بالمعاني الدينية أي اتصال أو يكون جزءًا منها ثم يصرف بقية الأجزاء من المعاني إلى الغرض الديني الكامل حتى لا يكون اللفظ منقولًا من معنى قديم أفرغ منه إفراغًا إلى معنى جديد شحن به شحنًا. وما كاد الإسلام يظلّل العرب بلوائه حتى كانت للألفاظ التي تصرف في معانيها الوضعية بالتخصيص أو التعميم أو غيرها من وجوه التصرّف مفهومة لا يلتوي فيها ذهن ولا يجافيها إدراك، وانتقلت مع الإسلام إلى الأمم الأخرى فإذا اللغة العربية قائمة بهذا الدين كأنما أعدّت له إعدادًا ووضعت وضعًا أوليًا خاصًا لمعانيه الدينية الجديدة، وكانت بذلك أحسن مؤد لحقائقه وأعظم حامل لأسراره، ويتلطف علماء البيان حينما يسمّون هذا النوع من التصرّف "الحقائق الشرعية"، يقابلون به الحقائق الوضعية. وهنا يتجلّى لطف الله وسماحة دينه إذ لم يجعل للدين لغة خاصة وللدنيا أخرى، بل جعل لغة الدنيا هي لغة الدين مع أن لغة الدنيا لا تتسع- في العادة- لحمل الحقائق العليا كصفات الله ولا لوصف الغيبيات المطلقة كالعوالم الروحانية وما بعد الموت ودار الجزاء.

لم يبقَ من معنى كلمة العيد في الإسلام إلا أنه يعود في زمن مقدّر، أما ما عدا ذلك فصرفه إلى معانٍ دينية مما ينفع الناس، ففي العيدين المشروعين أحكام تقمع الهوى، من

* مجلة "الأخوة الإسلامية"، العدد الحادي عشر، السنة الثانية، بغداد، 17 شوّال 1373هـ الموافق لـ 18 جوان 1954م.

ص: 291

ورائها حكم تغذّي العقل، من تحتها أسرار تصفي النفس، من بين يديها ذكريات تثمر التأسي، في الحق والخير، وفي أطوائها عِبَر تجلي الحقائق وأمثلة عملية في الإحسان وتقوية ملكته وقواعد متينة في التربية الفاضلة وموازين تقيم المعدلة بين الأصناف المتفاوتة من البشر ومقاصد سديدة في حفظ الوحدة وإصلاح الشأن ودروس تطبيقية عالية في التضحية والإيثار والرحمة والمحبة، وهما مع ذلك كله ميدان استباق إلى الخيرات ومنافسة في المكرمات.

قرن الإسلام كل واحد من العيدين بشعيرة من شعائره العامة لها جلالها الخطير في الروحانيات، ولها خطرها الجليل في الاجتماعيات ولها ريحها الهابّة بالخير والبر والإحسان والرحمة، ولها أثرها العميق في التربية الفردية والجماعية التي لا تكون الأمة أمة صالحة للوجود نافعة في الوجود إلا بها.

هاتان الشعيرتان هما شهر رمضان الذي جاء عيد الفطر مسك ختامه، وكلمة الشكر على تمامه، والحج الذي كان عيد الأضحى بعض أيامه، والظرف الموعي لمعظم أحكامه، وناهيك بالشعيرتين منزلة بين شعائر الإسلام. وإنهما مظهر الامتحان الذي هو أساس التكليف وان كليهما سوق امتيار يمتار منه الموفقون طرائف الخير والعاملون لله فيه بالصدق والوفاء، وما كل تاجر رابح، وما كل متجر ربيح وما كل بضاعة من أعمال العاملين تروج عنه الله، وان شر ما باء به تاجر في تجارة أن يجتمع عليه التعب والخسارة.

هذا الربط الإلهي بين العيدين وبين الشعيرتين كافٍ في الحكم عليهما وكاشف عن وجه الحقيقة فيهما، وأنهما عيدان دينيان بكل ما شرع فيهما من سنن حتى ما ندب إليه الدين وهو في ظاهر أمره دنيوي كالتجمّل والتحلّي والتعطّر والتوسعة على العيال وإلطاف الضيوف والمرح واختيار المناعم والأطايب واللهو، مما لا يخرج إلى حد السرف والتغالي والتفاخر المذموم.

فمن تحرّر المحاسن في الإسلام أن المباحات إذا حسنت فيها النية وأريد بها تحقيق حكمة الله أو شكر نعمته انقلبت قربات، إلى الغاية التي نطق بها الحديث الصحيح:«حَتَّى اللُّقْمَةَ تَضَعُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ» .

كِلا طرفي العيد في معناه الإسلامي جلال وجمال، وتمام وكمال، وربط واتصال، وبشاشة تخالط القلوب، واطمئنان يلازم الجنوب، وبسط وانشراح، وهجر للهموم واطراح، وكأنه شباب وخطته النضرة، أو غصن عاوده الربيع فوخزته الخضرة. فلو وصف العيد نفسه وصف الخائل المزهو وخلع على نفسه كل ما انتهى إليه خيال الشعراء لكان مقصّرًا عن الغاية مما وصفه الإسلام به ولكان نازلًا عن المنزلة التي وضعه فيها، وليس السر في يومه الذي يبتدئ بطلوع شمس وينتهي بغروبها، وإنما السرّ فيما يعمر ذلك اليوم من أعمال، وما يغمره من إحسان وافضال، وما يغشى النفوس المستعدّة للخير فيه من سموّ وكمال.

ص: 292

العيد في نظرة الإسلام ملتقى عواطف تتقارب، بين طوائف كانت في أمسه تتحارب، ففيه يتنزل الغني المترف ويصعد الفقير المترب فيلتقيان في عالم من عوالم المثال كما يقول الصوفية، هو خير ما ظلّت الإنسانية تنشده فلا تجده، يتجلّى العيد بجلاله على الغني فينسى تألهه بالمال، ويذكر أن كل من حوله إخوانه أولًا وأعوانه ثانيًا فيمحو إساءة عام بإحسان يوم، ويتجلّى على الفقير بجماله فينسى متاعب العام ومكاره العام وتمحو بشاشة العيد من نفسه آثار الحقد والتبرّم والضيق ولا تتفتح أمام عينيه إلا الطريق الواصلة بالله المؤدية إلى الخير وتنهزم في نفسه دواعي اليأس على حين تنتصر بواعث الرجاء

هذه بعض معاني العيد كما نفهمها من الإسلام وكما حقّقها المسلمون الصادقون يوم كانوا، فكان هذا اليوم من العام زاد الرحلة بآثاره ثم بانتظاره للعام كله، وكانت آثاره في النفوس كآثار الحمّام في الأبدان رحضًا للأبدان وبعثًا للنشاط. فأين نحن اليوم من هذه الأعياد، وأين هذه الأعياد منّا؟ وأين آثار العبادة فيها من آثار العادة؟

آفة محاسن الإسلام- وما محاسن شيء كله حسن- هذه الظواهر المتقلبة التي يسمّون مجموعها عادة، فهي التي تتسلّط على تلك المحاسن بالطمس والتشويه حتى تمسخ الجمال ثم تنسخ التأثير ثم تفسخ العقد، فلا يبقى للجمال استهواء للنفوس ولا تأثير فيها ولا سلطان عليها، وقد تبدأ بالإلف يعقبه أنس، يعقبه تأثر، يعقبه اعتبار، يعقبه تحكّم، يعقبه تحكيم ثم ينتهي بأسوإ ما ينتهي إليه تعاقب الأطوار، وهو النزول عن حكم الدين في ثبوته والعقل في تقبيحه وتحسينه والفكر في تأنيه ووزنه وقياسه وترتيبه وتقديره لحكم العادة المضطربة المتقلبة، فتصبح هي الحاكمة المقبحة المحسنة المقدرة وهي صاحبة الاعتبار الأول في تقدير الحياة، ثم تتسامى إلى المسلّمات اليقينية فتمسّها بالتشكيك ثم إلى الحقائق الدينية فتبتليها بالتزهيد فيها أو بالتبغيض، وهذا هو شرّ ما وصل إليه المسلمون بالنسبة إلى شعائر دينهم: تهجر بين أقوام فيصبح هجرها عادة تخشى مخالفتها والخروج عنها، ويقيمها أقوام بحكم العادة لا بحكم الدين، وآية ذلك أن فاعلها يأتي بها متبرّمًا متثاقلًا مقدّرًا لعتاب الناس لا لعذاب الله، وهذا التناقض في آثار العادة واقع بين المسلمين مشهود مشهور

ونحن لا ننكر أن عوائد الناس تابعة لأحوال الناس رقيًّا وانحطاطًا. فالأمة الراقية ترقى عاداتها في الغالب لأن عاداتها تتشعّب من مقوّماتها، والأمة المنحطة تنحط عاداتها، والمسلمون اليوم في أحط دركات الانحطاط، فلا عجب إذا كانت عاداتهم المتحكّمة فيهم من نوع حالتهم العامة. فمناشئ العادات فيهم هي أخصّ أحوالهم من الجهل والأمية والفقر والذلة والهوان وموت الشعور بالكرامة والشرف، ويقظة الشعور بالمهانة والنقص في النفس

ص: 293

وفي الجنس والنفور من القريب والخضوع لحكم الغريب، فقل ما شئت في عادات تتكوّن من هذه الأمشاج الخبيثة، ثم حدث ولا حرج عن الآثار السيئة لتحكّم هذه العادات في حياة المسلمين، ثم ابكهم مع الباكين، حينما تمدّ هذه العادات السخيفة مدّها فتنصبّ على الدين، فتصبح موازينه مأخوذة بالاعتبارات العادية، وأحكامه خاضعة للاعتبارات العادية، وأعماله تابعة للاعتبارات العادية، وواقعنا اليوم هو هذا. فليسلّم العقلاء منا بهذا الدافع وليعالجوا الحالة على ضوئه، وحذار من المكابرة فيه، فشرّ الخلال أن نركب الكبيرة ثم نكابر فيها فنصيرها كبيرتين وتحجبنا المكابرة عن العلاج فنكون من الهالكين.

بلونا أمر المسلمين في القرون الأخيرة شهادة للحاضر وتلقّفًا لأخبار الغائب، وبدأنا بأنفسنا فوجدنا أَنَّا ما أوتينا إلا من ضعف سلطان الدين على نفوسنا، ووزننا للأشياء كلها بالميزان العادي، وتحكيمنا للعادات السخيفة التي نبتت فينا في عصور الانحطاط.

هذه شعيرة الحج على جلالتها أصبحت متآثرة بالعوائد، فلا يحفز معظم المسلمين إليها ذلك الحافز الديني ولا تدفعهم إلى تحمّل لأوائها تلك الغاية السامية التي شرع الحج لتحقيقها، وإنما يحفز معظم الناس إليها الافتتان الشائع بالتلقيب، كأنهم يتبرمون بأسمائهم المجرّدة من كثرة التبذّل والاستعمال، فيسعون في إضافة لقب أو وصف كما يتهالك الخليون الفارغون على الألقاب الحكومية الزائفة ويبذلون فيها الجعائل، وإن ذلك لمن هذا، وفي الأمم إذا تداعت للسقوط مشابه من البناء إذا تداعى للانهيار.

وهذه شعيرة الصوم خلت بين المسلمين من روحها التي تزكي وتجلب الروْح والاطمئنان، وأصبحت وظيفة عادية يقوم بها القائمون تأثّرًا بالعادة لا انسياقًا للدين، ويتركها المنتهكون لحرمات الله فيشيع الترك فيكون هو العادة الجارية ويكون الصوم شذوذًا خارقًا للعادة، وكلا الأمرين واقع في الأقطار الإسلامية، فالمحافظة على الصوم تغلب في الجزائر مثلًا اتّباعًا لعادة المجتمع المتشدد مع المفطرين، وهذا المجتمع المتشدّد في الصوم متساهل إلى أقصى الحدود مع تاركي الصلاة، فلو كان للشعائر سلطانها الديني على النفوس لما أفطر في رمضان أحد، ولما ترك الصلاة أحد، ولما كان للعادة دخل في هذا المجال، ولو كان المتشددون مدفوعين بدافع ديني لكان تشدّدهم مع تاركي الصلاة أقوى وأشد وأولى وأوكد.

وعمود هذه الكلمة هو الأعياد ولكن ضرورة التمثيل خرجت بنا عن الجدد إلى الحيد بعض الشيء، فلنعد إلى العيد، ولنقل ان المسلمين جرّدوا هذه الأعياد من حليتها الدينية، وعطّلوها من تلك المعاني الروحية الفوّارة التي كانت تفيض على النفوس بالبهجة مع تجهّم

ص: 294

الأحداث وبالبشر مع عبوس الزمن، وأصبحوا يلقون أعيادهم بهمم فاترة وحس بليد وشعور بارد وأَسِرَّة عابسة وكأنها عملية تجارية تتبع الخصب والجدب وتتأثر بالعسر واليسر والنفاق والكساد، لا صبغة روحية ذاتية تؤثر ولا تتأثر. ولولا نفحات فطرية تهب على نفوس الصغار القريبين من الفطرة فتتجلى فيها بعض معاني العيد فتطفح بشرًا على وجوههم وتنبعث فرحًا في شمائلهم ونشاطًا في حركاتهم واجتماعًا على المحبّة في زمرهم واتجاهًا إلى المبهجات في مجتمعاتهم، لولا ذلك لكانت المآتم أعمر بالحركة وأدلّ على الحياة من أعيادنا.

العادات محكمة

كلمة يقولها فلاسفة الاجتماع وفقهاء التشريع، ويريدون فيها أن للعادات الثابتة الصالحة دخلًا في تكييف أحكام المعاملات وقوانين الاجتماع البشري بحيث تبلغ من القوة والاستمرار أن تصبح مرجعًا للقضاة في أحكامهم على ما يشجر بين الناس من خلاف في أسباب معايشهم، ومرجعًا للباحثين في أحكامهم على الظواهر الاجتماعية في الشعوب، ويقيّد الفقهاء إطلاق العادة بأن تكون محققة لمصلحة أو دافعة لمفسدة وبأن لا تنقض نصًا شرعيًا ولا تعاند حكمًا إجماعيًا، فإن لم تكن كذلك كانت باطلة مردودة ونحن نقول: إن عاداتنا مع سخافتها، أصبحت حاكمة يرجع الناس إليها عن عقولهم وأفكارهم ومصالحهم وعن دينهم أيضًا.

لو أوتينا الرشد لكان لنا من أعيادنا الدينية الجليلة مواقف لتصحيح الانتساب، ومواقيت لتصفية الحساب، ولعلمنا أن نفس المؤمن تتّسع للدين والدنيا، وأن وجودها مرتبط بعضه ببعضه، وأن وجود أحدهما رهن بوجود الآخر، وأن كمال أحدهما كفيل بكمال الآخر، وأن طروق الضعف لأحدهما مؤذن بطروقه للآخر. ويوم كان الدين كاملًا في النفوس كانت الدنيا مملوكة لتلك النفوس، ويوم أضعنا الدين أضعنا الدنيا. فلا يذهب الخرّاصون مذاهبهم في العلل والأسباب؛ فهم بعض تلك الأسباب، ولا يتعبوا أنفسهم في "الوصفات" لدواء أمراضنا فهم بعض أمراضنا، ونحن أعرف بدائنا ودوائنا. ومن آداب النبوّة فينا "ائحِمْيَةُ رَأْسُ الدَّوَاءِ" فأنجع الأدوية لأدوائنا الحمية

الحمية من المطامع والشهوات فهي التي أفسدت علينا ديننا ودنيانا، وإذا فعلت هذه الحمية فعلها خفّت الأخلاط فخفّت الأغلاط، فتجدد النشاط، فهدينا إلى سواء الصراط.

الحمية رأس الدواء والحمية لا تفتقر إلى إرشاد طبيب. فلنخرس هذه الببغاوات المرددة لفرية أعداء الإسلام بأن الداء آتٍ من الإسلام وأن الدواء في التحلّل منه، وليربع كل ناعق من هؤلاء على خلعه، وليعلم أنه فينا كالضرس المؤوف كل الخير في قلعه.

ص: 295