الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى الشباب *
أوجّه طلائع الحديث في هذه الليلة إلى الشباب الذين هم الساف الجديد في بناء الأمة، والدم المجدّد لحياتها، والامتداد الطبيعي لتاريخها، وهم الحلقات المحققة لمعنى الخلود الذي ينشده كل حيّ عاقل ويتمناه حتى إذا فاته في نفسه التمسه في نسله، وقربت له الأماني معنى من معنى، فتعلّل بالخيال عن الحقيقة، وتسلّى بشبه الشيء عن الشيء، ودأب جاهدًا في تدنيته وتوفير الراحة والهناء والسعادة له، ويعلّل نفسه بأنه سيرث اسمه وماله وهو لا يعلم أنه سيموت اسمه ويُبدّد ماله، وما زالت التعلات صارفة عن اليأس منذ طبع الله الطباع.
وأقول: الشباب. ولستُ أعني بهذا اللفظ معناه المصدري في عرف اللغة، ولا ذلك الطور الثالث من عمر هذا الصنف البشري في مقاييس الأعمار، وإنما أعني بهذا اللفظ طائفة من الأناسي انتهوا في الحياة إلى ذلك الطور الثالث بعد الطفولة واليفاعة، فجمعتهم اللغة على شبيبة وشبّان، ووصفتهم بالمعنى في نحو لطيف من أنحائها فقالت: شباب وشبيبة، كما وصف القرآن محمّدًا بأنه رحمة، وكما وصفت الخنساء الظبية بأنها إقبال وإدبار، ثم جمعتهم سنّة التكامل على القوة والفتوة، وجمعهم اتحاد السنّ أو تقاربه على التعاطف والأخوّة، وجمعهم الدين على التكاليف والواجبات، ووقفت بهم الحياة على جددها، تعرض عليهم السعادة في صور ملتبسة بالشقاء، والشقاء في صور ملتبسة بالسعادة، واكتنفتهم الملائكة والشياطين، أولائك يدعونهم إلى الجنّة محفوفةً بالمكاره، مسوقة بالصبر والألم، وهؤلاء يدعونهم إلى النار ملفوفة بالشهوات، مسوقةً بالإغراء والتزويق والتزيين- ووقفنا نحن معاشر الآباء من ورائهم، نتمنّى لهم ونتجنّى عليهم، ونقترف في حقهم ولا نعترف بظلمنا إياهم، ونُرخي في تربيتهم أو نشدّد، ولكننا لا نقارب ولا نسدّد، ونعطيهم من
* محاضرة ألقاها الإمام في أحد أندية الشباب بالقاهرة.
أفعالنا ما نمنعهم منه بأقوالنا: ننهاهم عن الكذب ونكذب أمامهم الكذب الحريت، وننهاهم عن الرذائل جملة وتفصيلًا، ثم نخالفهم إلى ما ننهاهم عنه، فيأخذون الرذيلة عنا بالقدوة والتأسّي، ويحتقروننا لأننا قبحنا لهم الكذب بالقول ثم أشهدناهم بالعمل على أننا كاذبون.
إلى هؤلاء الشباب الوارثين لحسناتنا وسيآتنا، المهيئين لخيرنا وشرنا، الحاملين لخصائصنا وألواننا إلى مَن بعدهم من أبنائهم، المتبرمين هنا بحالة هم مقدمون عليها كرهًا، فقد كنا مثلهم شبابًا وسيصبحون مثلنا شيوخًا، وسيلقون من أبنائهم ما لقينا نحن منهم، وسيلقى منهم أبناؤهم ما لقوه هم منّا، جزاءً وفاقًا وقصاصًا عدلًا، وسنّة أجراها الواحد القهّار، وجرى بها الفلك الدوار- إلى هذا الجيل الذي عودتنا الحياة المدبِرة أن نشفق عليه، وعوّدته الحياة المقبِلة أن يشفق منا، أتوجه وإياه أعني وإليه أسوق الحديث، داعيًا له بما دعا له شوقي في قوله:
إن أسأنا لكم أو لم نُسئ
…
نحن هلكى فلكم طول البقاء
متمنيًا له ما تمنّاه له شوقي في قوله:
هل يمدّ الله لي العيشَ، عَسَى
…
أن أراكم في الفريق السعداء
لا أخالف شوقي إلّا في التخصيص فقد خاطب بهذا شباب النيل، وأنا أهتف بشباب العرب، وبشباب الإسلام، أهتِفُ بشباب العرب أن يرعوا حق العروبة وأن يكونوا أوفياء لها، وأن يعلموا أنها ليست جنسية تميز، ولا نسبة تعرف، وأنها ليست جلدة تسمّر أو تحمّر، ولا بلدة تعمر وتقفر، وأنها ليست جزيرة يحيط بها البحر ولا قلادة تحيط بالنحر، وأنها ليست متاعًا ممّا يرث الوارثون، ولا أرضًا مما يحرث الحارثون، وإنما هي خلال وخصال، وهمم تتشقّق عن فعال، وإنما هي بناء مآثر، وتشييد أمجاد ومحامد، وإنما هي مساع من الكرام إلى المكارم، ودواع من العظماء إلى العظائم، وإنما هي عزائم، لا تعرف الهزائم، وإنما هي عزّة وكرامة، وشدّة في الحفاظ وصرامة، وإنما هي طموح وجموح: طموح إلى منازل العزّ وجموح عن مواطن الذلّ، وإنما هي رجولة وبطولة، وأصالة وفحولة، وإنما هي طبع أصيل ورأي جليل، ولسان بالبيان بليل، وعقل على الحكمة دليل، فمجموع هؤلاء هو العروبة، وجامع هؤلاء هو العربي، وما عداه فهو تعللّ بباطل، وتعلق بضلال، وتخلق يكذبه الخلق، وخيانة للعروبة في اسمها وفي وسمها، وعقوق للأجداد، كأنما عناهم المعزي بقوله:
جَمالَ ذي الأرضِ كانوا في الحياة وهُمْ
…
بَعْد المماتِ جَمالُ الكُتْبِ والسِّيَرِ
ثم أهتف بشباب الإسلام ليعلموا أن الإسلام ليس لفظًا تلوكه الألسنة المنفصلة عن القلوب، وتتناوله قوانين التعريف بموازينها الحرفية، وتقلّبه اشتقاقات اللغة على معانيها
الوضعية فينزل به إلى المعاني الوضيعة من السلم إلى الاستسلام
…
إلّا أن في الإسلام الشرعي نوعًا من معنى الإسلام اللغوي، ولكنه أرفع تلك المعاني وأعلاها، هو معنى تتقطع دونه الأفهام والأوهام، معنى لو طاف طائفه بعقول العرب أهل اللغة قبل الإسلام لَرفع هممهم عن عبادة الشجر والحجر، ولَسَما بهم حينما بُعث محمد صلى الله عليه وسلم عن الجدل بالباطل ليدحضوا به الحق: هو إسلام الوجه لله عنوانًا لإسلام القوى الباطنة له، هو المعنى الذي خالطت بشاشته قلب نبي التوحيد إبراهيم فقال: أسلمتُ وجهي، وتذوقته بلقيس حين هداها الله فقالت: وأسلمت، ألا وإن في الاستسلام نوعًا من المعاني لم يتخيله وضع ولا عرف، ولم يتداوله نقل ولا استعمال حتى جاء محمد بالهدى ودين الحق، ونقل اللغة من طور إلى طور، هو استسلام الجوارح- وسلطانها القلب- لله ولعظمته وقدرته وعلمه حتى توحّده وحده، وتعبده وحده، وتدعوه في النائبات وحده، وتنيب إليه وحده، وتذعن إلى سلطانه وحده، وتخشاه وحده، فتستقل عن الأغيار بقدر ذلك الاستسلام إليه، وتتحرّر بقدر العبودية له، وتتوحّد قواها بقدر إفراده بالألوهية، وتعتزّ بقدر التذلّل لعظموته، وتنجح في الحياة بقدر اتباعها لسننه، وتصفو من الكدرات الحيوانية بقدر اتّصالها به، وتتزكى سرائرها بقدر إيمانها به، وتبعد عن الشرور والآثام بقدر قربها منه، ثم تسود الكائنات بأمره، وتخضع الكون لسلطانها بسلطانه، وتكشف أسرار الوجود بصدق التأمّل في آياته والتفكر في بدائع ملكوته.
هذه بعض معاني هذا الدين العظيم دين الله السماوي الذي بلّغه محمد صلى الله عليه وسلم وفسّره بأقواله وشرحه بأفعاله، ووسعته لغة العرب، وحمله إلينا الأمناء الهداة، وعصمه القرآن آية الله الكبرى ومعجزة الدهر الخالدة وكتاب الكون الأبدي، وكنز الحكمة المعروض على العقول والأفكار وعلى الأسماع والأنظار لتأخذ منه كل جارحة حظها من الغذاء.
أيها الشباب: شاع بين الناس مبدأ فطري توارد عليه المحدثون والقدماء، ونصره الحس، وهو أن الكبير قريب من الموت يغذّ إليه السير مكرهًا كمختار وعجلان كمتريث، ومن ثم فهو قريب من الله، والقرب من الله مدعاة عند العاقل المتأله إلى الاستعداد لِلقائه، والتزوّد للدار الآخرة بأهبها وليوم الفاقة العظمى بالأعمال الصالحة، وقد قال شاعر حكيم يصوّر هذا القرب:
وإن امرءًا قد سار خمسين حجّة
…
إلى منهل من وِرْدِهِ لَقَرِيبُ
تواضعوا على هذا وأكثروا فيه القول، وأداروا عليه النصائح والمواعظ للجماعات المتدينة، يزجونها للشيوخ المسرعين إلى الموت، الذين طووا المراحل ودنوا من الساحل- حتى أوهموا الشبّان أن الشباب عصمة لهم من الموت، وأنتج لهم القياس الفاسد أنهم بعيدون عن الله، ولا يبعد في نظر المتوسم في غرائب النفوس أن يكون تخصيص الشيوخ
الهرمين بتلك المواعظ بعض السبب في اغترار الشبّان وانهماكهم في الشهوات واسترسالهم مع النزوات، وبعض السبب في إبعادهم عن الله مضافًا إلى جنون الشباب وسلطان الهوى وتنبه الغرائز الحيوانية.
وأنا أرى أن الشبّان أحق الناس بذلك الوعظ وبالتوجيه إلى الله والتقريب منه، وبالتعهّد المنظّم والحراسة اليقظة حتى تكون أقوى الملكات التي تتربّى فيهم ملكة الخوف من الله، في وقت قابلية الملكات للثبوت والاستقرار في النفوس، وفي وقت تنازع الخير والشرّ للنفوس الجديدة، وإنها لكبيرة أن ينشّأ الشاب على الخير والاتصال بالله من الصغر، ولكن جزاءها عند الله أكبر، لما يصحبها من مغالبة للهوى في لجاجه وطغيانه، ومجاهدةٍ للغريزة في عنفوانها وسلطانها، ولهذا السرّ عدّ صلى الله عليه وسلم الشاب الذي ينشأ في طاعة الله أحد السبعة الذين يظلّلهم الله بظلّه يوم لا ظلَّ إلّا ظلّه، وعدّ الشيخ الزاني أحد الثلاثة الذين يلعنهم الله واللاعنون من عباده، لأن المعصية من مثله خالصة لوجه الشيطان لم تصحبها داعية ولم يخفّفها عذر، ولم تسبقها مغالبة ولا جهاد.
أيها الشباب: ساءَ مَثَلًا من أوهمكم أن بينكم وبين الموت فسحة وإمهالًا، لقد علمتم أن الموت لا يخاف الصغير ولا يعاف الكبير، وأسوأ منه نظرًا من توهّم أنكم لذلك أبعد عن الله من حيث المعاد، فإنكم أقرب إلى الله من حيث المبدأ، وان أثر يد الله فيكم لَأظهر، وان المسحة الإلاهية على شبابكم لأوضح، وان أغصانكمِ الغضّة المورقة لمطلولة بانداء السماء وقد وخزتها خضرته من كل جانب، وان نفحات الله لتشمّ من أعطافكم وشمائلكم، فلئن كنا قريبًا من لقاء الله بالموت فلَأنتم أقرب إليه بالحياة، ولئن صحبكم الاتصال به في جميع المراحل فيا بشراكم، ولئن كنا نقبل عليه كارهين متَسَخِّطين على الموت، فأنتم مقبلون من عنده فرحين بالحياة مستبشرين، فصلوا حبلكم بحبله واحفظوا عهده، وحذار أن تقطعكم عنه القواطع.
أيها الشباب: إن الشباب نسب بينكم ورحم وجامعة، ولا مؤثِّر في الشباب إلّا الشباب، فليكن بعضكم لبعض إمامًا، وئيعلّم المهتدون الضُلّال.
دينكم- أيها الشباب- لا يفتننكم عنه ناعق بإلحاد، ولا ناع بتنقّص.
وربّكم- أيها الشباب- لا يقطعنكم عنه خنّاس من الجنّة والناس.
وكتاب ربّكم- أيها الشباب- هو البرهان والنور، وهو الفَلَج والظهور، وهو الحجّة البالغة، والآية الدامغة، فلا يزهّدنكم فيه زنديق يؤول وجاهل يعطل ومستشرق خبيث الدخلة، يتخذه عضين، ليفتن الغافلين، ويلبّس على المستضعفين.
إن دينكم شوّهتْه الأضاليل، وإن سيرة نبيّكم غمرتها الأباطيل، وإن كتابكم ضيّعته التآويل، فهل لكم يا شباب الإسلام أن تمحوا بأيديكم الطاهرة الزيف والزيغ عنها، وتكتبوهُ في نفوس الناس جديدًا كما نزل وكما فهمه أصحاب رسول الله عن رسول الله، إنكم قد اهتديتم إلى سواء الصراط فاهدوا إلى سواء الصراط، إنكم لو عبدتم الله الليل والنهار لكان خيرًا من ذلك كله عند الله وأقرب زلفى إليه أن تجاهدوا في سبيله بهداية خلقه إليه.
إن تلك الفئة القليلة من أصحاب محمد ما فتحوا الكون بقوة العَدد والعُدد ولكن بقوة الروح، فانفخوا في هذه الأرواح الضعيفة التي أضعفها الضلال عن طريق الحق تنقلب نارًا متأججة.
حيّاكم الله وأحياكم وأبقاكم للإسلام تذودون عن حياضه وترودون في رياضه، وللغة العرب تصلون أسبابها، وتردون عليها نضرتها وشبابها، ولمواطن الإسلام تصونون عرضها وتردون قرضها، وتحفظون سماءها وأرضها.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.