المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النظام ملاك العمل والحزم مساك النظام * - آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي - جـ ٤

[البشير الإبراهيمي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الرابع

- ‌مقدمةمحمد الغزالي

- ‌السياق التاريخي (1952 - 1954)

- ‌في باكستان

- ‌رحلتي إلى الأقطار الإسلامية *

- ‌ 1

- ‌بواعث الرحلة

- ‌بدء الرحلة

- ‌ 2 *

- ‌إلى كراتشي

- ‌ 3 *

- ‌مشكلة اللغة

- ‌بدء الأعمال العامة

- ‌ 4 *

- ‌كلمة حق

- ‌الزيارات

- ‌ 5 *

- ‌بقية أعمالي في كراتشي

- ‌حفلة جمعية علماء باكستان

- ‌رحلتي إلى كشمير والدواخل

- ‌ 6 *

- ‌بقية أعمالي في كراتشي

- ‌أخوة الإسلام *

- ‌الرجوع إلى هدي القرآن والسنّة *

- ‌أصلح نظام لتسيير العالم الإنساني اليومهو الإسلام *

- ‌تقرير مرفوع إلى صاحب الدولةرئيس وزراء الحكومة الباكستانية *

- ‌في مؤتمر العالم الإسلامي

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌وحدة الصوم والعيد *

- ‌خماسيات عمر الأميري *

- ‌ديوان «مع الله» *

- ‌جواب على أسئلة ثلاثة *

- ‌في العراق

- ‌لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أوّلها *

- ‌تعارف المسلمين مدعاة لقوّتهم وعزّتهم *

- ‌في الموصل *

- ‌بغداد تكرّم المغرب العربي *

- ‌في المملكة العربيةالسعودية

- ‌وظيفة علماء الدين *

- ‌ 1

- ‌ 2 *

- ‌ 3 *

- ‌الشباب المحمّدي *

- ‌الشيخ محمّد نصيف *

- ‌إلى علماء نجد *

- ‌تعليم البنت *

- ‌في مصر

- ‌صوت من نجيب، فهل من مجيب

- ‌في ذكرى المولد النبوي الشريف *

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌الأستاذ الفضيل الورتلاني *

- ‌الأستاذ سيد قطب *

- ‌اِغتيال الزعيم التونسي فرحات حشّاد *

- ‌تحية الجزائر *

- ‌منزلة الأدب في الحياة *

- ‌مذكرة إيضاحية *

- ‌الشعب الجزائري

- ‌ جمعية العلماء

- ‌نشأة هذه الجمعية:

- ‌تشكيلات الجمعية في الوقت الحاضر:

- ‌العضوية في الجمعية:

- ‌جرائد الجمعية:

- ‌مالية جمعية العلماء:

- ‌أعمال الجمعية لحفظ الإسلام على مسلمي فرنسا:

- ‌مواقف مشهودة لجمعية العلماء:

- ‌موقفها من المبشّرين المسيحيين:

- ‌موقفها من الإلحاد:

- ‌موقفها من الخمر:

- ‌موقفها من تعليم المرأة:

- ‌موقفها من السياسة الجزائرية:

- ‌موقف فرنسا من الجمعية:

- ‌أمهات أعمال جمعية العلماء

- ‌أولًا- مقاومة الأمية:

- ‌ثانيًا- المحاضرات الدينية والاجتماعية:

- ‌ثالثًا- تأسيسها للنوادي العلمية:

- ‌رابعًا- بناء المدارس:

- ‌خامسًا- المعهد الباديسي:

- ‌مشروع جامعة عربية إسلامية في الجزائر

- ‌خلاصة النتائج الإيجابية من أعمال جمعية العلماء وتوجيهاتها

- ‌في المعنويات

- ‌في الماديات

- ‌خاتمة

- ‌تحية غائب كالآيب

- ‌من هو المودودي

- ‌نص البرقية التي أرسلناها إلى حاكم باكستانوإلى رئيس وزرائها في قضية المودودي

- ‌في الكويت وبغدادودمشق وعمّان ومكّة

- ‌حكمة الصوم في الإسلام *

- ‌تصدير لمجلة «الإرشاد» الكويتية *

- ‌الأستاذ كامل كيلاني *

- ‌في نادي القلم ببغداد *

- ‌حركتنا حركات أحياء *

- ‌‌‌حركة جمعية العلماءالجزائريينوواقع العالم الإسلامي *

- ‌حركة جمعية العلماء

- ‌واقع العالم الإسلامي:

- ‌هل لمن أضاع فلسطين عيد

- ‌حالة المسلمين *

- ‌في مجمع اللغة العربية بدمشق *

- ‌دولة القرآن *

- ‌في مصر

- ‌برقيات احتجاج

- ‌كلمة إلى الشعب الليبي *

- ‌تقارب العرب…بشير اتحادهم *

- ‌افتتاح دار الطلبة بقسنطينة *

- ‌نصيحة وتحذير *

- ‌جمعية العلماء المسلمين الجزائريين *

- ‌المشاريع التي أنجزتها هذه الجمعية:

- ‌في صميم القضية الصينية

- ‌المرأة المسلمة في الجزائر *

- ‌إلى الشباب *

- ‌تكريم الأستاذ مسعود الجلّالي *

- ‌القدس وعمّان ودمشقوبغداد ومصر

- ‌رسالة إلى الأستاذ فاضل الجمالي *

- ‌أضعنا فلسطين *

- ‌الصراع بين الإسلام وأعدائه *

- ‌معنى الصوم *

- ‌أعيادنا بين العادة والعبادة *

- ‌متى يبلغ البنيان *

- ‌اتحاد المغرب العربي الكبير *

- ‌رسالة إلى الأستاذ خليل مردم بك *

- ‌حديث رمضان

- ‌داء المسلمين ودواؤهم *

- ‌مساعي جمعية العلماءفي قضية الزعيم الحبيب بورقيبة *

- ‌من عاذري

- ‌رسالة الأستاذ الورتلاني

- ‌المطبعة والمدفع

- ‌النظام ملاك العمل والحزم مساك النظام *

- ‌تعليق على كلمة الأستاذ الكبيرالشيخ محمد عبد اللطيف دراز *

- ‌ 1

- ‌ 2 *

- ‌مذكّرة عن جمعية العلماء إلى الجامعة العربية *

- ‌الشعب الجزائري:

- ‌أشنع أعمال فرنسا في الجزائر:

- ‌لمن يرجع الفضل

- ‌مبدأ جمعية العلماء وغاياتها:

- ‌أعمال جمعية العلماء في التعليم العربي للصغار:

- ‌بادروا لنجدة إخوانكم

- ‌الجزائر تعتزّ بعقيدتها وعروبتها:

- ‌وزير فرنسي ينكر على فرنسا أعمالها البربرية:

- ‌الجزائر محرومة من كل شيء:

- ‌«الزاب» في دائرة المعارف الإسلامية *

- ‌الرق في الإسلام *

- ‌تمهيد:

- ‌دين التحرير:

- ‌الاسترقاق في التاريخ:

- ‌عمل الإسلام في الرق:

- ‌المقاصد العامة في التشريع الإسلامي:

- ‌حكم التسرّي وحكمته في الإسلام:

- ‌الاسترقاق عند المسلمين اليوم:

- ‌كلمة لصحيفة "الأهرام

- ‌كلمة لِـ"مجلة الإذاعة المصرية

- ‌الجزائر وطن *

- ‌الإستعمار *

- ‌إلى الأستاذ عبد العزيز الميمني *

- ‌فلسطين واليهود *

- ‌مداعبات إخوانية

- ‌إلى ولدنا الأستاذ عبد الحميد الهاشمي *

- ‌كليّة" الأعظمي *

- ‌إلى ولدي الأديب عمر بهاء الدين الأميري *

- ‌إلى الدكتور فاضل الجمالي *

- ‌جمعية

- ‌الطائرة

- ‌إنْ أردتَ

- ‌إلى الأستاذ صالح الأشتر

- ‌غار على أحسابه

- ‌عبد العزيز العلي المطوع

الفصل: ‌النظام ملاك العمل والحزم مساك النظام *

‌النظام ملاك العمل والحزم مساك النظام *

الابتعاث عمل جديد من أعمال جمعية العلماء، وهو- في ظاهره الذي يراه الناس- نتيجة لازمة لتقدم الحركة التعليمية التي تديرها الجمعية، وتشبعها واتساعها واحتياجها إلى كفاءات علمية تباشرها، وكفاءات فنية تديرها، أما في واقعه وحقيقته المستمدة من روح جمعية العلماء ومبادئها- فهو تفسير عملي لقوله تعالى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} .

جمعية العلماء ليست حكومة تبعث البعثات لتسد بهم- بعد الرجوع- حاجتها فى الوظائف التي يقوم عليها الجهاز الحكومي الآلي، فلا تشترط على تلميذ صناعة ما إلا أن يرجع إليها بشهادة في تلك الصناعة، وإنما جمعية العلماء جمعية دينية قبل كل شيء، وبعد كل شيء، تبتديء بالدين وتنتهي إلى الدين، وتنقلب بين البداية والنهاية في الدين، حتى لو كان الدين حرفة ووظيفة لقلنا وقال الناس: إن حرفتها ووظيفتها الدين، آية ذلك وصفها:(جمعية العلماء المسلمين) فهذا الوصف هو الجزء الذاتي الأكبر من حقيقتها، وليس قيدا لاخراج العلماء غير المسلمين، والجزآن معاهما حقيقتها الكاملة، وآية أخرى أربعح وزنا وأعدل شهادة على أن الجمعية جمعية دينية، هي أن الدافع الوحيد لنشأتها هو تصميم الاستعمار الفرنسي على محو الإسلام من الجزائر، فكان من خيرة الله لدينه وغيرته عليه أن حرك لحمايته عقولا سددها وعزائم شددها، ونفوسا ملأها خشية منه، وغيرة على حرماته واستقامة على سننه في الدين والكون، وأرواحا أشرق عليها بنوره، أولئك هم رجال جمعية العلماء الذين رفعوا منارها، وأعلوا على صخرة الدين جدارها، وأولئك الذين تقاسموا على إحياء الإسلام أو الموت دونه، {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} .

* «البصائر» : العدد 284 - السنة السابعة من السلسلة الثانية- 10 سبتمبر 1954.

ص: 327

غير أن هذا الوصف الذاتي لجمعية العلماء اشتهر حتى خفي، وعلم حتى كاد يُجهل، وبدأ بعض أبناء هذا الجيل المرشّح للوراثة يغفل عنه أو يتغافل، كما يغفل الانسان عن كونه انسانًا فيتردّى في الحيوانية، ويكون سبب الغفلة عن الحقيقة هو الحقيقة نفسها، ومكّن لغفلة هؤلاء أو تغافلهم عدة عوارض زمنية، منها أنهم من جيل مخضرم لم يتخرّج كله في تربيته وسلوكه وعلمه على أيدي رجال جمعية العلماء، ومنها افتتان هذا الجيل من أبناء الأمة العربية بكلمات: العلم، والتعليم، والثقافة، والعرب والعروبة، والوطن، والوطنية، وهي كلمات تشعّ شعاعات تخطف البصر، وتنفض على النفس أصباغًا ذات أثر، وهي- على عمومها- سمات هذا العصر المتحلّل، ومواد الفصل الأول من قاموسه، يستعملها الأقوياء تعاليًا واجتهادًا، ويستعملها الضعفاء تعلّلًا وتقليدًا؛ ولما كانت معانيها عند الأولين مادية جافّة منقطعة الصلة بالروح، فمن الطبيعي أن ينقلها المقلّدون بجفافها وانقطاعها عن الروح.

بدت آثار هذه الغفلة من سنوات مضت، وبدأت ضعيفة خفية لم يدركها إلا قادة الجمعية الأيقاظ، ولكن السكوت عن الخطر هو أقوى أسباب استفحاله، لذلك وجب علينا أن نحارب هذا الخطر الجديد في بعض أبنائنا قبل أن يسري إلى جميعهم، وأن نكفكف من غلوائهم فيه بحزم لا تشموبه هوينا، وأن نأخذ بحجزهم عن التهوّر فيما يخالف مبدأ جمعيتهم، وأن نفهمهم أن المادة نافعة ولكن الروح التي تصرفها وتتصرف فيها أنفع، وأن العلم جميل، ولكنه مع الدين أجمل، وأن الثقافة كمال، ولكنها مع الفضيلة أكمل، وأن العروبة شرف، ولكنها زادت بالإسلام شرفًا على شرف، وأن الوطنية مكرمة، ولكن وطنية الإسلام اأكرم وميدانها أوسع، وصاحبها أعزّ نفرًا، وأقوى ناصرًا، وأكثر عديدًا.

وطاف طائف هذا الخطر بالشرق العربي، وزيّنه دعاة ينطوون للإسلام على حقد دفين، فهم ينتقمون منه بإفساد أجياله، والشرق العربي هو مسرح آمالنا، ومنتج طلّابنا وروّادنا، وسوق امتيارنا، فماذا يكون موقفنا منه، وهل نغض عن الشر لأنه نبت في الشرق، وان إخواننا المصلحين حرّاس الإسلام في الشرق يحاربون هذه المعاني العدوّة للإسلام حربًا لا هدنة فيها، فلننجدهم في حربها لئلا تطغى فتفسد عليهم وعلينا كل تدبير، وهبهم سكتوا عنه، أفنقلدهم في السكوت ونفتح الباب لأبنائنا أن يجنوا عواقب هذا السكوت؟ إن من أصول الفطرة أن نقلّد في الخير ولا نقلّد في الشر، ونأتمّ في الكمال ولا نأتم في النقص، وليس من كرامة الشرق علينا أن نقلّده في حرفين من اسمه.

جمعية العلماء حقيقة جلية، والسابقون الأولون من علماء الجمعية هم حرّاس هذه الحقيقة ووظيفتهم الأولى إبراز هذه الحقيقة إلى الوجود، والصورة المشخّصة لها هي إحياء

ص: 328

الإسلام بمعناه الكامل في النفوس، ومعناه الكامل هو عقائده النقية، وعباداته المأثورة، وفضائله المصلحة للبشر، وآدابه المقوّمة للنفس، وأحكامه الحافظة للحقوق حين يقدر على ذلك، ويكمل ذلك كله معرفة بسيَر رجاله تصحّح القدوة، ودرس لتاريخه يصوّر المجد.

ومن عهود جمعية العلماء مع الله أن تنشئ مجتمعًا إسلاميًا يشارف السلف في عقائده وعباداته وأخلاقه وصلته بمحمد صلى الله عليه وسلم وقربه من الله، وأن تسلك لذلك طريق التربية قبل طريق التعليم، لأنها تعلم أن العلم المجرد من التربية الصالحة لا ينفع، وقد يكون بلاء على صاحبه ووبالًا على الناس، كما هو مشهود في آثار العلوم الغربية في أصحابها وفي مقلديهم منّا.

وصفوة التفسير لمبدإ جمعية العلماء أن العلم وسيلة من وسائل الدين، وحسبه شرفًا أن الإسلام دعا إليه، ونوّه به، وحضّ عليه، وأن العربية لسان الدين المترجم من حقائقه، وحسبها شرفًا أن الله اختارها لغة لقرآنه، فلم تبقَ بعد ذلك لغة للعرب، ونحن نحبّها لأن الله أحبّها، وأن العرب قوم محمد والمجلي الأول لدعوته ولولا محمد لم يكونوا شيئًا مذكورًا، ولا نزيد على ذلك، وإذا كنا منهم اتصالاً في الأنساب، وتحدّرًا من الأصلاب، فما ذلك من كسبنا حتى يكون قربة تجر الأجر، أو مفخرة ترفع الذكر، وإنما يثاب العامل على كسبه ويفخر الفاخر بعمله.

هذا هو المنهج الذي نسير عليه، وهذا هو الغرض الذي نرمي إليه، لا غالين ولا مقصّرين، وإجماله- للتوضيح- أننا نطلب العلم لإحياء الإسلام، ونقرأ العربية لفهم الإسلام، ونلوذ بأكناف الشرق العربي لأنه مطلع النبوّة ومنبت الإسلام، ولأنه القطعة المتّصلة من الأرض بالسماء، فالبدء- كما ترى- من الإسلام، والانتهاء إلى الإسلام، وبين البدء والنهاية مجالات لنفوس عامرة بالإيمان وآثار الإيمان.

أما المفردات التي أصبح أبناؤنا يلوكونها مجردة من الإضافة إليه، من علم، وثقافة، وعروبة، ووطن، فنحن نعدّها وقوفًا على "ويل للمصلّين".

وأما النتائج المحققة- التي نكاد نراها بالعين ونلمسها باليد- لهذا السلوك الذي وفّقنا الله إليه، فقد تضمّنها الوعد الكريم في قوله تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} .

يحزننا أن ينحرف الفهم عن الإصابة فينحرف العمل عن الإفادة، ويحزننا- أكثر من ذلك- أن يبدأ الانحراف من هذا الجيل الذي كوّناه بأيدينا وصنعناه على أعيننا، ورجونا أن

ص: 329

يرثنا فيزيد في التراث، ويخلفنا فيحسن الخلافة، ويتعلم فيكون أوسع منا علمًا، ويعمل فيكون أضخم منّا أعمالًا، ويحامي عن الإسلام وفضائله فيكون بعمله وقوله أصدق منّا محاماة، فإذا تهاونّا في شأنه وغلبتنا عليه العوامل الدخيلة، جنينا جناية نبوء بخزيها في الدنيا قبل الآخرة، وخنّا الأمانة التي استحفظنا عليها وحملناها طائعين، وأعطينا للأمة عليها صفقة أَيْماننا مختارين، لأننا حرّكنا القافلة إلى السير، ولم نوجّهها في الطريق القاصد إلى الغرض السديد، فلجت في بيداء طامسة فكانت غنيمة باردة للصوص العقول والأفكار.

أما بعد، فنحن في أشد الحاجة إلى الاتصال بإخواننا في الشرق لأن بيننا وبينهم أرحامًا يجب أن تتعاطف، وأسبابًا يجب أن تتلاقى، وحبالًا من التاريخ رمتها الأيدي العادية بالوهن والارتخاء حتى أوشكت أن تتقطع، ونحن في حاجة شديدة إلى إمدادهم إيانا بما نحن أفقر فيه منهم، وهم في حاجة إلى التنبيه على موقعهم منّا وموقعنا منهم، وإلى معرفة أحوالنا، حتى نتعارف على بصيرة، وقد فعلنا كل هذا وأربينا فيه على الغاية والحمد لله.

وان أوثق أسباب هذا الاتصال هو هذه البعثات العلمية التي نجهزها للشرق العربي كما نجهز البعوث ليمتزج أفرادها بإخوانهم فتتقارب الأمزجة، ويتحد الشعور، وتنمو الفضائل الأصلية في الفريقين وهي فضائل الإسلام، وتمحى الرذائل الدخيلة التي ابتلانا بها الغرب ليهلكنا ويملكنا، وليقول أحدهما للآخر: أنت أخي في الإسلام والعروبة فهلمّ نطر إلى المجد بجناحين، ولا يقول له: أنت أخي في العروبة فقط، فكأنما يقول له: هلم نطر بجناح واحد

فيكونان كالقاضيين الأعورين في شعر الشاعر البغدادي

أكبر جوالب الامتزاج من جهتنا أن يكون العنوان الذي يقرأه إخواننا من صحيفتنا دالًا دلالة صادقة على حقيقة ما وراءه، وأن تكون الطلائع الأولى من طلّابنا هي ذلك العنوان، وأن يكون صورة مصغرة من جمعية العلماء في إيمانها وجهادها وثباتها وصبرها وصلاحها وإصلاحها، وصورة أخرى من الأمة الجزائرية في جدّها وسلامة فطرتها، وتصلبها في إسلامها وعروبتها وصبرها على المكاره في سبيلهما، وفي شجاعتها وكرم شمائلها والمحافظة على مقوّماتها وخصائصها، وتشوّفها لحياة سعيدة تبنيها بأيديها على منوالها، بأحجارها، على هدى تاريخها. كل ذلك ليرجعوا يوم يرجعون بإيمان أقوى وإسلام أكمل وعقيدة في الله أثبت، وإرادة في العمل أصلب، ونزعة في الأخوة أعرق، وعزيمة في التعاون أصدق

ومع ذلك كله شيء من العلم مهما يقل فإنه أنفع.

إن مجتمعنا- كغيره من المجتمعات- فيه الصالح والطالح، والطيّب والخبيث، وهذا شيء نعلمه عن إخواننا كما يعلمونه عنّا، لأنه قدر مشترك بين الجماعات البشرية، ولكن الذي يندب إليه الدين، وتقتضيه المصلحة ويستحليه الذوق السليم في مثل هذه القضايا التى

ص: 330

تجمع معاني السفارة والدعاية أن يختار لها الأصلح، فالصالح فالقابل للإصلاح بالسمع والطاعة لأوامر الجمعية واحترام نظمها والتأثّر بنصائحها وأن يطرح ما عدا هذه الأصناف ويبقى في بلاده مستورًا لأن الناقص الفاسد عورة في المجتمع، وعورات المجتمع أحق بالستر من عورات الأفراد.

وجمعية العلماء لم تغفل ذلك، ولم تنسَ أن حسن الاختيار مفتاح السداد، وأن ميزان الكمال دائمًا هو الدين، وأن الجانب الديني والخلقي له الاعتبار الأول في تلميذ البعثة لأنه سفير أمة، فهو إما رافع لقدرها وإما خافض؛ وهو شاهدها، فإما لها وإما عليها، وهو وجهها فإما شائه مشوّه، وإما جميل مجمّل.

ولكن احتياط جمعية العلماء في هذا الباب لم يخلُ من ثُغر سببها حسن الظن وإنها خطوة بداية مصحوبة بالتعجّل، وتجربة لم يسبق لها مثال، فلذلك وقع من بعض تلامذة البعثات إخلال متفاوت، وظهرت على بعضهم أمراض خلقية وفكرية، منها الشديد ومنها الخفيف وأشدها وأبعدها ما يمسّ الدين، وأشدّ الشديد منها ما يرجع إلى صميم الدين كالعقائد والشعائر، فوجب عليها أمران اثنان لمعالجة هذه الحالة ومعاجلتها بما يمنع استشراءها ويقطع دابرها: أحدهما أن تبالغ في الاحتياط وتتشدّد في حسن الاختيار، وأن تجعل التقدير الأول للدين والأخلاق والسلوك الاجتماعي، لا للذكاء والحرص على التحصيل، والأمر الثاني الفصل الناجز لكل تلميذ يخرج عن سنن الجمعية ويشوّه سمعتها ويصوّرها بقوله أو بفعله بغير صورتها، ولا يحقّق غاياتها التي وضحناها وقرّرناها في هذه الكلمة.

أما الأمر الأول فإنه موكول إلى المكتب الدائم بالجزائر وإلى من يستعين بهم من اللجان والأشخاص، وأما الأمر الثاني فقد تولّاه كاتب هذه السطور بما له من حق الرياسة المسؤولة المؤتمنة، وبما عليه من واجب المحافظة على مبادئ الجمعية وصيانة شرفها، وعلى سمعة الأمة الجزائرية وكرامتها وثقة الشرق بها، وعلى حق الله قبل ذلك كله في استرعاء بعض عباده على بعض.

إنني فصلت طائفة من أفراد البعثات بعد أن تعاهدتهم أنا وغيري من عباد الله الصالحين بالنصائح المتنوّعة، فلم ينتفعوا بها، وبالإنذارات المتكررة فلم يرتدعوا عنها، وأصبح السكوت عليهم إقرارًا للشرّ، واعترافًا بالمنكر، وغبنًا لذوي الاستقامة منهم حينما يرون أنه لا فضل لمستقيم على معوجّ، وغشا للأمة بهم إذا رجعوا إليها بعقول مريضة وأخلاق شاذة وأفكار ملحدة عن صراط الله ناكبة عن مبادئ جمعية العلماء ثم تولّوا تعليم أبنائها فبثّوا فيهم

ص: 331

تلك السموم من الأفكار الزائفة والآراء الضالّة والأخلاق الفاسدة. انه لغش ما بعده من غش، وتغرير بالأجيال التي ستأخذ عن مثل هؤلاء.

والله يعلم أننا بذلنا الجهد في تقويم أخلاق هؤلاء الشواذ من التلامذة بالنصح والموعظة الحسنة اللطيفة، ثم بالخُشْنَة الشديدة وبتفهيمهم الغاية التي جاؤوا من أجلها، وذكرناهم بحق الله عليهم، وبحق الأمة التي أوفدتهم وحاطتهم بالعطف وعلّقت آمالها بمستقبلهم وبحق الجمعية التي هيّأت لهم طريق العلم وسخّرت لخدمتهم الشعوب والحكومات

توليت ذلك بنفسي، ثم طلبت من الأستاذ الفضيل الورتلاني أن يتولّاه عنّي، وعنده من لطف التوصّل إلى مسالك النفوس وجرّها إلى الخير إن كان فيها استعداد له طرائق عجيبة، فتولّى- حفظه الله- ذلك عني بعزيمة صادقة وضحّى في سبيله بمصالح عامّة من هذا النوع كانت أنفع وأشمل، وعقد لبعثة مصر مجالس وعظ وإرشاد وحكمة دامت أشهرًا وسمعوا منه في باب التذكير الديني المتّصل بالأرواح ما لم يسمعوه من أحد، ثم سافر لأجل ذلك إلى الكويت وإلى بغداد وإلى دمشق في الشتاء الأخير، وعقد للبعثات المجالس المتعددة، فأما الصالحون والمستعدّون للصلاح فزادتهم تلك المجالس صلاحًا، وكانت لأرواحهم غذاء، وأما هؤلاء الشواذ الذين فصلتهم أخيرًا فلم تؤثر فيهم فتيلًا، وما زادهم ذلك إلا مرضًا وكفرًا بأنعم الله ثم بأنعم الجمعية والأمة عليهم وحرصًا على إفساد الصالحين.

هذا التصرّف بسيط وواجب وحكيم، أما بساطته فهو أنه تصرّف رئيس مسؤول لله فيما استرعاه عنه، ومسؤول للأمة التي اختارته لقيادة هذه الحركة وائتمنته عليها، وأما وجوبه فهو أنه قيام بحق الله الذي أمر بالصلاح ونهى عن الفساد، وأما حكمته فهو أنه تأديب بعد أن لم تنفع النصيحة والاعذار والإنذار، وإصلاح للتلميذ المفصول إن كانت فيه بقية استعداد للصلاح وإصلاح لبقية التلامذة الذين بدأت عدوى المرض تسري إليهم وإفهام لهم أنه لا يستوي المحسن والمسيء في الجزاء، فربّما سرى إلى أذهانهم أنه لا فضيلة للمحسن على المسيء ما دام لم يمسّه التأديب، وأنه بعد ذلك إرضاء للأمة الجزائرية التي تحرص على الفضيلة، وتعاون الجمعية على إقرارها وقمع عوامل الفساد حماية للصالحين من أبنائها، وحكمته الأخيرة أنه إنذار معجّل لتلامذة البعثات المقبلة.

ما كانت هذه القضية البسيطة تحتاج إلى هذا التبسّط في الحديث عنها على المتعارف في أوضاع الجمعيات، ولكن وقوعها لأول مرة في تاريخ الجمعية سوّغ هذا البيان والتحليل

ص: 332

ليكون دستورًا للمستقبل وبلاغًا عامًا للطلبة وأوليائهم ومعلّميهم، وزيادة في الاستبصار وقطعًا للألسنة التي تسدي في الباطل وتلحم وقمعًا للنزعات العاطفية التي تغشى القضية.

والكلمة الأخيرة من هذا الفصل الطويل أوجّهها إلى أولياء التلامذة المفصولين، لأنني أعلم أن فصل أبنائهم سيقع منهم موقعًا سيئًا وأعلم من تربيتنا العامة أننا ما زلنا نُحكّم العواطف الدنيا حتى في المقاصد العليا، وتعمينا عن النظر إلى المصلحة العامة.

فليعلموا- أرشدهم الله- أن هؤلاء المفصولين هم أبناء الأمة لا أبناؤهم، وقد فارقوهم يوم اختاروا لهم هذا المسلك، فكأنهم حكموا عليهم "بالتأميم" وأسلموهم إلى أيدٍ أمينة تتعب ليستريح الآباء والأبناء، وتسهر ليناموا جميعًا، وتقضي بالنظر البعيد على أنظارهم القصيرة، وتزنهم ضررًا ونفعًا بميزان المجتمع لا بميزان الفرد، فالمجتمع هو الذي يتلقّى خيرهم أو شرّهم يوم يرجعون إليه، وما الآباء إلا جزء من الشعب يجب أن يذوّب مصلحته الشخصية في مصلحة مجتمعه، فالمجتمع أولى بهؤلاء الأبناء، ومحال أن يرضى مجتمع صالح بمن يشوّه سمعته أو يلوّث شرفه، فإذا رضيت لهؤلاء الأولياء مذهب الأنانية، فهل يرضون مني أن ينقلب إليهم أبناؤهم ملاحدة أو فجّارًا أو فسقة أو حملة أفكار هدّامة للدين والدنيا؟ إنهم سيحملونني تبعة التفريط الذي أدّى إلى ذلك، وسيحاسبونني حسابًا عسيرًا أنا حقيق به، زيادة على حساب الله وتسجيل التاريخ.

وليعلم هؤلاء الأولياء- كتبهم الله في أوليائه- أني أرحم منهم بأبنائهم وأكثر شفقة عليهم من الأم على ولدها، ولكنني أنظر منهم إلى غير ما ينظرون، ومن الرحمة بهم وبأوليائهم وبالأمة أنني فصلتهم فأحسنت إلى الجميع، والغصن الأعوج الذي لا يقوّمه الثقاف يقومه الفصل من الشجرة.

وإن في الأقطار العربية إخوانًا لنا في الصلاح والإصلاح يفرحون لفرحنا ويستاءون لمساءتنا ويغضبون لسمعة الجزائر أن تشوّه من قريب أو من غريب، وقد اعتمدت في كل قطر عربي لنا فيه بعثة طائفة من هؤلاء الإخوان يتعاهدون أبناءنا ويرشدونهم إلى التي هي أقوم ويراقبونهم في السر والعلن، احتياطًا مني لدفع الشرور المتربّصة بأبنائنا، وأعطيتهم من الحق أن يأمروا وينهوا وأن يشيروا علي فأنفّذ إشارتهم مشكورين، فالواجب على أفراد بعثاتنا السابقة واللاحقة أن ينزلوا هؤلاء الإخوان الأفاضل منزلة المسيّرين للجمعية وأن يحترموهم احترامًا قلبيًا وأن يعتبروهم أساتذتهم الحقيقيين، وأن يقفوا عند أمرهم ونهيهم فيما يرجع إلى التديّن والتخلّق وحسن السلوك، ويعلموا أن جمعية العلماء ذات مبدإٍ جليل، فالأقربون إليها

ص: 333

في كل قطر إسلامي هم أصحاب مبدئها قبل غيرهم فلا ترضى لأبنائها المبعوثين إلا أن يحذوا حذوها في هذا الباب، وتوجب عليهم أن يتّصلوا بمن هو على شاكلتهم.

والله سبحانه وتعالى يتولانا جميعًا بهداه وتوفيقه، ويجنبنا فتن الغرور والزيغ والضلال، ويقينا شرور أنفسنا، ويعصمنا من الآراء المضلّة، ويثبّتنا على الحق والهداية حتى نلقاه لا وانين ولا مقصّرين، ولا مبدلين ولا مغيرين.

ص: 334