الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السياق التاريخي (1952 - 1954)
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد أتى على الجزائر حين من الدهر لم تكن- عند أخواتها- شيئًا مذكورًا، فَنُسِيت بعد أن كان اسمها على كل لسان، وجُهِلت بعد أن كانت معروفة لدى كل إنسان. ولو اقتصر الأمر على الجهل والنسيان لهان، ولكنه جاوز ذلك إلى تصديق كثير من العرب والمسلمين بأنها قطعة من فرنسا، وتسليمهم بأنها امتداد لها.
وقيَّض الله للجزائر من يُجَلِّي صورتها لأَخَواتِها، ويذكِّرُهُن بها، ويعرفها لهن بأجلى بيان وأفصح لسان، ذلكم هو الإمام محمد البشير الإبراهيمي، الذي كان يَرُدُّ - في المشرق- على من يَصفه بعلَّامة الجزائر بأنه "علَامة" الجزائر، وأنه علامة رَفْع، فقد جمع الله فيه "أقباسا من روح جمال الدين، ولمحات من إصلاح محمد عبده، وفيوضا من علم رشيد رضا"(1).
من عوامل نجاح أية حركة هو أن تُرتِّبَ مراحلها، وتضبط أطوارها، بحيث لا تسبق مرحلةٌ مرحلةً، ولا يجاوز طورٌ طورًا، ولا تُسْتَعْجَل نهاية فترة قبل أن تستوفِيَ أَمَدَها، ويحينَ أجلها، ولا تخترق سُنَن الله في النمو الطبيعي لأي كائن.
وكذلك كانت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فقد أعطت لكل مرحلة حقها، ولم تطلب منها ما لا تحتمله ظروفها الاجتماعية وأحوالها النفسية وأوضاعها السياسية، فلم تتجاوز مرحلة إلى التي بعدها إلا بعد الاطمئنان إلى تمام المرحلة السابقة، فأقامت كيانها طبقًا عن طبق، وأعلت بنيانها سافًا بعد سافٍ، مما جعلها تسلم من الانتكاس، وتنجو من الارتكاس.
1) من حديث الأستاذ العراقي محمد عبد الله الحسو عن زيارة الإمام الإبراهيمي للعراق، «البصائر» ، عدد 200، الجزائر في 8/ 9 /1952.
بلغت الجمعية- بعد عشرين سنة من تأسيسها- أشدها، واستوت على سوقها، واستغلظ عودها وتجذرت مبادئها في عقول الجزائريين، ورسخت في قلوبهم، بعد أن رأوا بأعينهم وأدركوا ببصائرهم حجم التغيير النفسي والتطور العلمي والوعي السياسي الذي أحدثته، فعلقوا عليها آمالهم:
جمعية العلماء المسلمين، ومَن
…
للمسلمين سواكِ اليوم منشود
خاب الرجآ في سواكِ اليوم، فاضطلعي
…
بِائعِبْءِ، مذ فرَّ دجال ورعديد
أمانة الشعب، قد شُدت بعاتقكم
…
فما لغيركمُ تُلقَى المقاليد (2)
وأدركت الجمعية أن المسؤولية الملقاة على عاتقها- دينيا وعلميًا وسياسيًا- أكبر من طاقتها، وأضخم من إمكاناتها، فولَّت وجهها إلى أخواتها، وقررت أن تستغل عمقها الاستراتيجي، وهو العالم العربي والإسلامي.
لقد بدأت جمعية العلماء هذه المرحلة بفتح مكتب لها في آخر سنة 1950 بالقاهرة، فهي أهم مركز حضاري وثقافي وسياسي في الشرق آنذاك، وهي مقر جامعة الدول العربية، وملتقى صفوةِ المفكرين وخِيرَةِ العلماء العرب.
ثم خطت الجمعية خطوة أخرى في خريف سنة 1951، فعينت كوكبة من العلماء ذوي السمعة الواسعة، والشهرة الذائعة، والمكانة الرائعة والمصداقية الكبيرة في أوطانهم وفي العالم الإسلامي، عينتهم رؤساء شرفيين لها (3)، ليقوموا بالتعريف بها وبالقضية الجزائرية التي تجاهد في سبيلها في أوساطهم ولدى المسؤولين في أوطانهم.
ثم اتصلت مباشرة- بواسطة رئيسها الإمام الإبراهيمي- في آخر سنة 1951 بالوفود العربية والإسلامية في مؤتمر الأمم المتحدة الذي عقد بباريس، حيث "اقترح عرض قضية الجزائر على الجمعية العامة في دورتها الحالية"(4).
ثم أوفدت رئيسها إلى المشرق في مارس 1952، سفيرًا للجزائر، وناطقًا باسم شعبها، ومعرفًا بقضيتها، ومطالبًا- وهو من لا يعجزه بيان ولا يخونه لسان- بحق الأخ على أخيه، ومذكِّرًا بواجب الأخ نحو أخيه، "وأنها- الجمعية- لا ترضى بما دون الواجب، ولا ترضى لنفسها بالتصدق والامتنان والمجاملة"(5).
2) مفدي زكريا: ديوان اللهب المقدس، الجزائر، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1983، [ص:268]. والمعروف أن مفدي زكريا هو أحد قادة حزب الشعب الجزائري.
3) انظر أسماءهم في السياق التاريخي للجزء الثاني من هذه الآثار.
4) محمد فاضل الجمالي: الشيخ البشير الإبراهيمي كما عرفته، مجلة الثقافة، عدد 87، الجزائر، مايو، يونيو 1985. [ص:123]. وكان فاضل الجمالي آنذاك وزيرًا للخارجية في الحكومة العراقية.
5) انظر مقال "مذكرة إيضاحية" في هذا الجزء من الآثار.
غادر الإمام الإبراهيمي الجزائر يوم 7 مارس 1952؛ موليًا وجهه شطر المشرق العربي، وكانت سمعته العلمية والسياسبة قد سبقته عن طريق ما سَلَفَ ذِكْرُه، وعن طريق جريدة البصائر التي كان الإمام يحرص على إرسالها إلى شخصيات مرموقة في المشرق، وعن طريق كثير من الطلاب العرب الذين كانوا يدرسون في فرنسا، وكانوا على صلة بشُعَب جمعبة العلماء فيها، وأصبحوا- بعد عودتهم- مسؤولين وأساتذة مثل محمد المبارك، وعمر بهاء الدين الأميري، وصبحي الصالح، وجميل صليبا.
كانت سفارة الإمام الإبراهيمي إلى المشرق متعددة المهام، متنوعة الجوانب. وقد جرى التركيز- حتى الآن- عند الحديث عن هذه السفارة على الجوانب التربوية والعلمية، وأُهمل الجانب السياسي المحلي والعري والإسلامي، وهو جانب لا يقل أهمية عن الجوانب، التربوية والعلمية إن لم يفقها.
إن الجانب السياسي لهذه السفارة سيتجلَّى إِنْ قُدِّر للوثائق الرسمية للدول التي زارها، ولجامعة الدول العربية أن تنشر، أو ظهرت مذكرات الشخصيات السياسية التي التقى بها، أو اُطُّلعِ على تقارير السفارات والقنصليات والمخابرات الفرنسية في تلك الدول في ذلك العهد.
إنه ليس معقولًا أن يلتقي الإمام الإبراهيمي- ذو النظرة الشمولية للقضايا- ملك دولة أو رئيسها مدة ساعة أو أكثر؛ ليقتصر في حديثه معه على قبول عددٍ من الطلبة الجزائريين في معاهد وجامعات بَلَدِ ذلك الملك أو الرئيس، كما أنه ليس معقولاً أن يقبل الإمام أن تطول سفارته حولين كاملين (52 - 54) من أجل الحصول على عددٍ من المنح مهما كَثُر، لو لم يكن السعي لتحرير الجزائر هو الهدف الحقيقي لرحلته.
إن الذي يقرأ- بتمعن- بعض ما كتبه الإمام الإبراهيمي في هذين السنتين يُحِسُّ البعد السياسي لمهمته، المتمثل في السعي لتحرير الجزائر، فقد جاء في مقاله الرائع "تحية غائب كالآيب"(6)، وهو يخاطب وطنه: "
…
وأما فِراقك فشدة يعقبها الفرج"، ويصف عمله في الشرق بأنه "سعيٌ في كشف غمتك"، ويَهوِّنُ عليه غيابه "فلا يَهُولَنَّك فراغك مني أيامًا، فعسى أن يكون المسك ختامًا، وعسي أن تسعد بآثار غيبتي أعوامًا"، ويبعث بتحياته إلى الشباب الجزائري ويُذَكِّر بالمهمة التي أُعِدُّوا لها "
…
ومن شُبَّان ربيناهم للجزائر أشبالًا، ووترناهم لعدوها قِسِيًّا ونِبالًا، وصوَّرنا منهم نماذج للجيل الزاحف، بالمصاحف، وعلمناهم كيف يُحْيُون الجزائر، وكيف يَحْيَون فيها".
6) انظره في هذا الجزء من الآثار.
وقد بيَّن في مذكراته إلى جامعة الدول العربية أن غاية الجمعية "هي تحرير الشعب الجزائري"(7)، و"أنها بدأت بتحرير العقول تمهيدًا للتحرير النهائي"(8)، وأنها "تربيه لا على المطالبة بحقه؛ بل أخذ حقه بيده"(9)، وذكَّر هذه الجامعة بأنها "ملزمة- بروح ميثاقها- أن تحرر كل عربي بالمستطاع من وسائلها"(10)، وأنها "إذا كانت لا تستطيع تحرير الجزائر عسكريًا لاستحالة ذلك في الوقت الحاضر، فلا أقل من أن تعاوننا بالحظ الأوفر على تحرير العقول"(11)، مع مطالبة "حكوماتنا العربية أن تقف موقف الحزم والصلابة من فرنسا المتعنتة"(12)، وفي هذا الإطار يندرج اجتماعه باللجنة السياسية لجامعة الدول العربية وطلبه منها "أن تُعْنى عناية خاصة بالقضية الجزائرية، وتساعد الشعب الجزائري على الحصول على حقه في تقرير مصيره"(83).
والذي أراه هو أنه ما مَنعَ الإمام الإبراهيمي من إبراز هذا الجانب السياسي في سفارته، والتركيز عليه في كتاباته في الصحف والمجلات، وفي ندواته الصحفية، وأحاديثه الإذاعية، وخطبه الجماهيرية، إلا خشيته من انتقام فرنسا من مدارس جمعية العلماء بإغلاقها، وبطشها بمعلمي الجمعية بسجنهم، ونتيجة ذلك كله حرمان آلاف التلاميذ، وضمهم إلى أضعاف أضعافهم المشردين في الشوارع. أما في المجالس الخاصة فكان حديثه "عن استقلال الجزائر وتحريرها من نير الاستعمار"(14).
لم يُنْس الإمامَ الإبراهيمي همُّ وطنه همومَ أشقائه في المغرب وتونس، فبعث برقيات احتجاج وتنديد إلى المسؤولين الفرنسيين على موقفهم تجاه السلطان الشرعي للمغرب محمد الخامس، الذي بعث إليه برقية يذكِّرُه فيها "أن التفريط- في الأمانة- خيانة لله وللوطن والتاريخ"(15)، وطالب الجامعة العربية "اتخاذ موقف أسرع وأجرأ وأحزم"(16)، كما أثار القضية التونسية- في رحلته إلى باكستان- مع وزير خارجيتها، وخصها بكلام مؤثر في مؤتمره الصحفي هناك (17).
7) انظر مقال "مذكرة عن جمعية العلماء إلى الجامعة العربية" في هذا الجزء من الآثار.
8) نفس المقال.
9) انظر مقال "رسالة إلى الأستاذ فاضل الجمالي" في هذا الجزء من الآثار.
10) نفس المقال.
11) انظر مقال "مذكرة عن جمعية العلماء إلى الجامعة العربية" فى هذا الجزء من الآثار.
12) نفس المقال.
13) جريدة المنار، السنة الثالثة، عدد 40، الجزائر 10 أفريل 1953.
14) جميل صليبا: مقتطفات من مذكرات جميل صليبا عن الشيخ الإبراهيمي، مجلة الثقافة عدد 87، الجزائر، مايو- يونيو 1985، [ص:36].
15) انظر تلك البرقيات في هذا الجزء من الآثار.
16) نفس المقال.
17) انظر مقال "رحلتي إلى الأقطار الإسلامية، الحلقة 5" في هذا الجزء من الآثار.
إن الإمام الإبراهيمي يؤمن أن أكبر عللنا التي أطمعت أعداءنا فينا، وأطالت أيامهم في بلداننا هي تفرق كلمتنا، وتمزق شملنا، وتصدع صفنا؛ فقضى حياته داعيًا إلى الوحدة، جامعًا للشمل، راتِقًا للصف بين أبناء الوطن الواحد وبين أقطار الأمة. وقد صادف وجوده في المشرق بداية الخلاف بين حكومة الثورة المصرية وبين جماعة الإخوان المسلمين، فاستغل مكانته لدى الفريقين، وسعى- بوازعه الديني، وحسه السياسي- إلى رأب الصدع، فاجتهد "أن يسد- بينهما- الفجوة"(18).
لقد شغلت وحدةُ المسلمين فكر الإمام الإبراهيمي، وملكت عليه مشاعره، وأخذت نصيبًا موفورًا من كتاباته، ومحاضراته، ونصائحه للحكام ولقادة الأحزاب. وهو ينظر إليها- كما أسلفت- من زاويتين: الزاوية الدينية، فالمؤمنون إخوة، وأمة واحدة بنص القرآن الكريم، وهم جسم واحد بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛
والزاوبة السياسية لدرء الأخطار التي تحيط بهم، وجلب المنافع إليهم. وقد ضرب لهم المثل بالغرب الذي يفرقه كل شيء، ويوحِّدُه الكيدُ للمسلمين، حتى يصبح ذلك الكيد كَالرَّحِمِ "يرعاها الغربي للغربي" وأنه لولا- تلك الغَرْبِيَّة- ما استعبدت السبعة سبعين (19).
من أجل ذلك اعتبر الإمام الإبراهيمي "السبب الأكبر لرحلتي هذه بعد الدراسة والتعارف هو السعي في إحياء الجامعة الإسلامية التي هي خير ما يجتمع عليه الشرق وأممه وملله"(20)، فجدد- بذلك السعي- هذه الفكرة التي كان الغرب يرتعد لمجرد ذكرها، لأن معناها بروز كتلة سياسية على المسرح العالمي، تهتدي بالإسلام وتتخذه شرعة ومِنْهاجًا، ويتعاون أجزاءها للتخلص من السيطرة الأجنبية سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، بل وتقدم للبشرية مشروعًا حضاريًا قويمًا يحررها من إرهاب الشيوعية غير الفطرية، وينقذها من استغلال الرأسمالية غير الخلقية.
إن أولى الناس بالتجاوب مع الإمام الإبراهيمي في كل ما دعا إليه هم نُظراؤه من العلماء، ولكن يبدو أنه كان كمن يطرق حديدًا باردًا؛ نستشف ذلك من مقاله القيم "وظيفة علماء الدين"(2) ومقاله "متى يبلغ البنيان؟ "(22).
18) انظر مقدمة الشيخ محمد الغزالى لهذا الجزء من الآثار.
19) انظر مقال "عيد الأضحى" في الجزء الثالث من هذه الآثار، ويشير بالسبعة إلى الهولندينين الذين يبلغ عددهم سبعة ملايين، وبالسبعين إلى السبعين مليون أندونيسي.
20) انظر مقال "في الموصل" في هذا الجزء من الآثار.
21) انظره في هذا الجزء من الآثار.
22) انظره في هذا الجزء من الآثار.
لقد وصف هؤلاء القَعدَة من العلماء بأنهم "يتناولون الأمور الكبيرة بالعقول الصغيرة، والأنظار والقصيرة"(23)، وشنع عليهم تقصيرهم في واجب النزول إلى الميدان، وأخذ عليهم التزامهم بيوتهم أو مساجدهم، منتظرين إقبال الناس عليهم، متكئين على مقولة "العلم يُؤْتَى ولا يأتي"، وهي كلمة- كما يقول- لا تصدق في كل زمان، "وإنما تصدق هذه الكلمة في علم غير علم الدين، وإنما تصدق بالنسبة إليه في جيل عرف قيمة العلم فهو يسعى إليه، أما في زمننا وما قبله بقرون فإن التعليم والإرشاد والتذكير أصبحت بابا من أبواب الجهاد، والجهاد لا يكون في البيوت وزوايا المساجد، وإنما يكون في الميادين حيث يلتقي العدو بالعدو كفاحًا"(24). وحاول أحدهم أن يبرر تقصيره بقوله: "إن هذه الكلمة قالها مالك للرشيد"، فرد عليه الإمام:"إن هذا قياس مع الفارق في الزمان والعالم والمتعلم، أما زمانك هذا فإن هذه الخلة منك ومن مشائخك ومشائخهم أدت بالإسلام إلى الضياع وبالمسلمين إلى الهلاك"(23).
ومن أَشدِّ المآخذ التي أخذها الإمام الإبراهيمي على هذا الصنف من العلماء قبولهم الإعفاء "من الجندية التي هي حلية الرجال، وإن في قبول العلماء لهذا الإعفاء، وسعيهم له لشهادة يسجلونها على أنفسهم بفقد الرجولة
…
فهل يعلمون أن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من الملوك الصالحين ما كانوا ليعفوا عالمًا من بعوث الجهاد والفتح؟ وما كان مسلم فضلاً عن عالم ليطلب الإعفاء أو يتسبب له، أو يرضى به لو عرض عليه، بل كانوا يتسابقون إلى ميادين الجهاد، والعالم الديني- دائمًا- في المقدمة لا في الساقة، ولقد كانوا يعُدُّون الاعتذار عن الخروج من سمات المنافقين" (26).
إن فكرة الجامعة الإسلامية التي آمن الإمام الإبراهيمي بها، ودعا إليها، وسعى في سبيلها، وحث على إحيائها قد تجسدت- فيما بعد- في "منظمة المؤتمر الإسلامي". وإذا كان أثر هذه المنظمة ضعيفًا، وعملها قليلاً، فما ذلك إلا لأن كثيرًا من المسؤولين في العالم الإسلامي يقولون فيها بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ويؤمنون بها وجه النهار ويكفرون بها آخره، ويقولون للشعوب الإسلامية أشياء، وإذا خلوا إلى أسيادهم قالوا إنا معكم، إنما نحن مستهزئون. أما الإمام الإبراهيمي فما عليه- كعالم- إلا البلاغ، وقد بلغَّ، وما عليه إلا التذكير وقد ذَكَّر، وما عليه إلا البيان وقد بيَّن، لم يَتَلَجْلَجْ له في ذلك لسان.
23) انظر مقال "متى يبلغ البنيان؟ " في هذا الجزء.
24) من مقال "وظيفة علماء الدين، الحلقة 3" في هذا الجزء.
25) نفس المقال.
26) نفس المرجع والمقال.
أما المهمة الأخرى التي قام بها الإمام الإبراهيمي في سفارته إلى المشرق، فهي السعي لدى حكوماته لقبول عدد من الطلبة الجزائريين في معاهد بلدانها وجامعاتها، وتخفيف العبء في هذا الميدان عن جمعية العلماء. ويبدو أن هدف الإمام في هذا المجال ليس- فقط- حصول أولئك الطلبة على نصيب من العلم ومقدار من المعارف، ولكنَّه- أيضًا- ربط الصلة بينهم وبين لِدَاتهم في الدول العربية الأخرى، ونَقْبُ ذلك السور الذي ضربته فرنسا بين أبناء الجزائر وإخوانهم في البلدان العربية والإسلامية، فالتعارف مدعاة للتآلف، والتناكر مدعاة للتخالف، وقد واصلت الثورة الجزائرية تنفيذ هذه الفكرة.
وقد أسفرت جهوده في هذا الميدان على قبول أكثر من 200 طالب جزائري في معاهد وجامعات مصر والعراق، وسوريا والكويت والسعودية (27).
كما استطاع أن يحصل على الاعتراف بشهادات جمعية العلماء، "ومن نِعم الله علينا- ثم بفضل مساعي الأستاذ الرئيس- أن اعترفت المعاهد الشرقية رسميًا بالشهادات التي تعطيها جمعية العلماء ومؤسساتها لتلاميذنا، وجعلها مساوية لمثيلاتها من المعاهد الرسمية التي تشرف عليها الحكومات الإسلامية تونس، ومصر، وسوريا، والعراق"(28).
إن ذلك الاعتراف لم يكن مجاملة للجمعية ولرئيسها، فما في العلم من مجاملة، وليس الإمام الإبراهيمي بالذي يقبل المجاملة في العلم. فالاعتراف- إذن- هو نتيجة اقتناع مسؤولي التربية والتعليم في تلك الدول بجهود جمعية العلماء في هذا الميدان، واعتراف بفعالية تنظيمها، وجدية نظامها والمستوى الجيد لطلابها ومعلميها.
وقد تمكن الإمام الإبراهيمي أن يزود معهد الإمام عبد الحميد بن باديس بمجموعة من الكتب، منها ألف مجلد تبرع بها الأمير سعود بن عبد العزيز ولي عهد المملكة العربية السعودية (29). وذكر الدكتور جميل صليبا- أحد تلامذة الإمام الإبراهيمي في دمشق بين سنتي 1917 - 1920 - أنه جمع لفائدة جمعية العلماء- بطلب من الإمام- "عددًا كبيرًا من الكتب المدرسية وغير المدرسية"، ولاحظ الإمام أن ما جُمع ليس بينه مجلة واحدة فقال: "إن المجلات تهمه أكثر من الكتب، لأنها تعبر عن الحركة الأدبية والنشاط الفكري أكثر
27) انظر تفصيل ذلك في مقال "مشكلة العروبة في الجزائر" في الجزء الخامس من هذه الآثار.
28) محمد خير الدين: مذكرات ج 1 [ص:224].
29) انظر مقال "مذكرة إيضاحية" في هذا الجزء من الآثار.
من الكتب المترجمة أو المطبوعة لغرض ثقافي معين، فجمعتُ له ما توافر لدي من أعداد مجلة الثقافة، ومجلة المعلم العربي ومجلة المجمع العلمي العربي وغيرها" (30).
وحصل الإمام على مساعدات مالية لجمعية العلماء "أُرْسلت من أقطار عربية مختلفة وفي أزمنة متفاوتة إلى مركز جمعية العلماء بالجزائر، وأرسلت الإيصالات إلى أصحابها مقرونة بالشكر"(31).
وفي أثناء هذه الفترة 52 - 54 جاب- رغم تقدم السن وآلام المرض- عددًا من الأقطار هي باكستان، والعراق، ومصر، وسوريا، والأردن، والضفة الغربية، والحجاز، والكويت، ولم يكتف في زيارة هذه البلدان بعواصمها؛ بل كان يتنقل بين مدنها، وقد تردد عليها أكثر من مرة.
فالتقى المسؤولين السياسيين في تلك الدول، واجتمع بزعماء أحزابها ورؤساء جمعياتها، وكبار علمائها، وعِئية القوم من أبنائها، وأصحاب الأقلام فيها، واحتك بجماهيرها. فرفع المذكِّرات السياسية، وقدم التقارير العلمية عن حالة الجزائر، فصوَّر معاناتها وأوضح عمق محنتها، ودرَّس في المساجد، وحاضر في النوادي والجامعات، وخطب في التجمعات والمؤتمرات، وتحدث في الإذاعات، وكتب في الصحف والمجلات، وعلى القارئ أن يتصور مبلغ الجهد الذي بذله، ومقدار العمل الذي قام به في هذين السنتين عندما يعرف أنه ألقى بباكستان وحدها- في مدة ثلاثة أشهر- 70 محاضرة (32).
إن المحاور الأساسية التي أدار عليها الإمام الإبراهيمي نشاطه هي:
1) الجزائر: فهو سفيرها، والناطق باسمها، والمصور لمحنتها، والمعبر عن آمالها، فكان يهتبل الفرص للحديث عنها، ويخلق الأجواء للتذكير بها، فهي دائمة الحضور في عقله، جارية على لسانه، حاضرة حتَّى في لباسه، وأَنَّى له نسيانها وهو "يعتقد أن في كل جزيرة قطعة من الحسن وفيك الحسن جميعه، لذلك كُنَّ مفردات وكنت جَمْعا. فإذا قالوا: (الجزائر الخالدات)، رجعنا فيك إلى: توحيد الصفة وقلنا (الجزائر الخالدة) (33)، وما كان يُهوِّن عليه أتعاب السفر، ويخفف عنه لغوب الحَضَر، إلا يقينه أن ذلك "مزيد في قيمة الجزائر"، التي "لو تبرَّجَتْ لي المواطن في حُلَلِها، وتطامنت لي الجبال بقللها، لتفتنني عنك
30) جميل صليبا: مقتطفات من مذكرات جميل صليبا عن الشيخ الإبراهيمي
…
مجلة الثقافة عدد 87، الجزائر، مايو- يونيو 1985. [ص:57].
31) انظر مقال "مشكلة العروبة في الجزائر" في الجزء الخامس من هذه الآثار.
32) انظر مقال "من أنا؟ " في الجزء الخامس من هذه الآثار.
33) انظر مقال "تحية غائب كالآيب" في هذا الجزء من الآثار.
لما رأيت لك عديلًا، ولا اتخذت بك بديلًا" (34). وكان يشيد برجولة أبنائها، واعتزازهم بنسبهم العربي، واعتصامهم بحبل الله، وكان يذكِّر الجميع بحق الجزائر عليهم، وبأن واجبهم نحوها واجب عيني لا كفائي، لأنها ثغر من ثغورهم، ورباط من رباطاتهم، وحصن متقدم من حصونهم. وقد كان يفعل ذلك في عزة المؤمن، وصراحة الإنسان الجزائري، وهمة العالم، "ولقد عشتُ معه شهرًا بالشرق، وحضرت بعض زياراته لبعض الرؤساء والملوك العرب، فكانت تتجلى فيه صفة العالم المسلم؛ يخاطبهم بأسمائهم، ويكلمهم بصراحة لم يتعودوها" (35).
وقد ظهر أثر عمل الإمام الإبراهيمي في تلك الاستجابة التلقائية للبلدان العربية والإسلامية- قادة وشعوبًا- لاحتضان الجهاد الجزائري الذي اندلع في نوفمبر 1954، ودعم المجاهدين الجزائريين بجميع أنواع الدعم المادي والمعنوي، ولولا ذلك العمل الكبير الذي ذكَّر العقول، وهيأ النفوس، وحرك الأحاسيس لما كان تحرُّك العرب لفائدة القضية الجزائرية بتلك السرعة، ولما كان دعمهم لها على ذلك المستوى. لقد بَلَّغَ الإمام والله أثبت، وقد زرع والله أنبت.
2) الإسلام وحقائقه، وعظمة تشريعه وواقعيته، ونبل مقاصده، وسمو مبادئه، وقدرته لا على حل مشكلات المسلمين فقط، بل على حل مشكلات البشرية جميعها. ولذلك كان الإمام كثير المؤاخذة للعلماء الذين يأخذون الإسلام تفاريق، ويخضعون كلياته لجزئيات مذاهبهم، ويصرفون المسلمين عن القرآن بدعوى "أنه عالٍ على الأفهام، وما دروا بأن لازم هذا المذهب كفر، وهو أنه إذا كان لا يفهم فإنزاله عبث، وأَنَّى يكون هذا؟ ومنزله- تعالت أسماؤه- يصفه بأنه عربي مبين، وأنه غير ذي عوج، وأنه ميسر للذكر، وينعته بأنه يهدي للتي هي أقوم، وكيف يهدي إذا كان لا يفهم؟ "(36).
3) حاضر المسلمين السيئ، وواقعهم المزري، وتشتتهم الفظيع، وتدابرهم المريع، مما سهل على الدول الأجنبية استعبادهم، بل وضرب بعضهم ببعض. فكان يدعو إلى توحيد الكلمة، وَلَمِّ الشمل، ورأب الصدع، ورتق الشق، فإذا فعلوا ذلك استطاعوا- رغم ضعفهم المادي- أن ينالوا من عدوهم، وأن يخدشوا إن لم يقدروا على أن يبطشوا، وأن يكونوا- بموقعهم- غصة في حلقه، وجلطة في دمه. لقد كان يصور بحق، ويعبر بصدق.
34) نفس المقال.
35) حمزة بُوكُوشَة: "لحظات مع الشيخ الإبراهيمي" جريدة الشعب، عدد 2309، الجزائر في 21/ 5/ 1970.
36) انظر مقال "دولة القرآن" في هذا الجزء من الآثار.
4) العناية باللغة العربية، وجعلها لغة المسلمين كما كانت في صدر الإسلام، لأنها الوسيلة التي تُبقي صلة المسلمين بمصدري دينهم وبتراثهم قائمة. وكان يقول للمسلمين من غير العرب "إن اللغة العربية ليست لغة العرب حتى توضع في موازين الترجيح، وتتعاورها العصبيات بين جنس وجنس، أو تعلو إليها الأنظار الشعوبية، ولكنها لغة القرآن، وخِيَرَةُ الله لكتابه، وإذا كان للعرب عدو أو منافس ينازعهم المفاخر، أو يجاذبهم المحامد، أو يغض منهم، أو ينكر عليهم، فليس للقرآن عدو بين المسلمين، وعدو القرآن ليس من أمة القرآن، ففي هذه المنزلة أنزلوا هذه اللغة، وعلى هذه الأصل فخذوها"(37).
لقد أنزل العرب والمسلمون الذين التقوا بالإمام الإبراهيمي وتعرفوا إليه، أَنْزَلوه المنزلة اللائقة، وأحلوه الصدارة من مجالسهم، فقد رأى فيه الحكام صدق القول، وإخلاص القصد، وإباء للمشارب الكدرة، وترفعًا عن المطامع، وسموًا عن الصغائر.
ورأى فيه العلماء وأرباب الفكر- بالإضافة إلى ما سلف- علمًا غزيرًا، وفكر منيرًا، ورأيا سديدًا، وبصرًا حديدًا، وسعيًا في الخير بريئًا، ولسانًا في الحق جريئًا، واكتشفوا فيه الفقيه الذكي (38)، والعالم اللغوي (39)، والخبير الاجتماعي، والمؤرخ البعيد النظر، العميق التحليل، والأديب المتمكن، والناقد البصير، والكاتب القدير، والخطيب المصقع والسياسي البارع، فذكَّرهم- بذلك كله- بأعلام المغرب العربي وأساطينه وجهابذته، ذكَّرهم بابن رشيق المسيلى في عمدته، وبالمقري في نفحه، وبالونشرسي في معياره، وبالشاطبي في موافقاته، وبابن خلدون في مقدمته، وبابن معطي الزواوي في ألفيته، وبعبد الرحمن الأخضري في جوهره، وبابن رشد في فصل مقاله، وبابن عبد ربه في عقده وغيرهم، مما جعل "أدباء القاهرة وعلماءها يهرعون إليه ويتزاحمون عليه (40)، وأدباء العراق وعلماءه يعترفون "ونحن فى العراق هز عواطفنا وألهب أحاسيسنا في محاضراته وأحاديثه، لم نشهد أديبًا أو داعية بمقدرته وطول نفسه، وإجادته لفن القول وسعة اطلاعه" (41)، ويؤكد ذلك كله الشيخ عبد الحميد السائح، الرئيس السابق للمجلس الوطني الفلسطيني، فيقول: "
…
أما العلَّامة محمد البشير الإبراهيمي فقد لقيته وخبرته، وسبرته، وكاشفني وكاشفته، حتى عرفت صدق عزيمته، وصافي طويته
…
لقيته متحدثًا حديث المؤمنين الصادقين،
37) انظر مقال "رحلتي إلى الأقطار الإسلامية، الحلقة 5" في هذا الجزء من الآثار.
38) انظر تعليق الإمام الإبراهيمي على ضياع أضاحي المسلمين في مِنًى، في مقدمة الشيخ محمد الغزالي لهذا الجزء من الآثار.
39) انظر مراجعته للأستاذ عبد العزيز الميمني في هذا الجزء من الآثار.
40) انظر مقدمة الشيخ الغزالي لهذا الجزء من الآثار.
41) جمال الدين الألوسي: الجزائر بلد المليون شهيد، بغداد، مطبعة الجمهورية، 1970، [ص:153].
وسمعته محاضرًا كالسيل الهادر، وخبرته ثائرًا لا يقر له قرار، ما دام للاستعمار أثر في ديار الإسلام، وعرفته داعية صادقًا للإسلام في صفائه وإشراقاته، ومبشرًا بسمو مبادئه، وعرفته حكيمًا حازمًا في إدارة الجلسات، وإدراك ما يدور فيها من اقتراحات ومناقشات، يضع كلا في نصابه ومكانه المناسب مما جعل له في نفسي مكانة لا تبارى، ومنزلة في الذؤابة لا تجارى
…
هو المصلي في الميدان والمبرز بين الأقران" (42).
كل أولئك أهَّله لدخول المجمع العلمي بدمشق، ومجمع اللغة العربية بالقاهرة، ومجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، ولو لم ينهكه المرض، ويشغله جهاد الجزائر، وما يوجبه عليه من سعي دائب لدعمه وحشد التأييد له؛ لكانت مساهمته في المجمعين متميزة، فهو "من بقايا حراس لغة العرب"(43). ورغم ذلك فقد "كنا نعول التعويل كله على مساهمته والإفادة من علمه وفضله"(44).
وإذا كانت العادة قد جرت بأن يُهَنَّأَ المختارون لعضوية مثل هذه المؤسسات، فإن الأستاذ محمود جبر- شاعر آل البيت، وشاعر جمعية الشبان المسلمين- قد خرق هذه العادة، وهنأ مصر والمجمع اللغوي بذلك الاختيار، فكتب مخاطبًا الإمام الإبراهيمي: "أَشُدُّ على يدك، فخورًا بك، وأهنئ مصر بتوفيقها إليك .. إن نسبة المجمع اللغوي إليك فخر له وذخر
…
فأنت موسوعة الموسوعات، ومعهد العلماء، وحسن الأدب وحقيقته" (45).
محمد الهادي الحسني
البليدة (الجزائر)، 28 أكتوبر 1996.
42) عبد الحميد السايح: عالم ثائر، مجلة الثقافة، عدد 87، الجزائر، مايو- يونيو 1985، [ص:103].
43) انظر "رسالة إلى الأستاذ خليل مردم" في هذا الجزء من الآثار.
44) إبراهيم مدكور: المرحوم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، مجلة مجمع اللغة العربية، الجزء13، القاهرة 1962، [ص:129].
45) انظر نص الرسالة في: محمد خير الدين، مذكرات، ج 1، [ص:373].