المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأستاذ الفضيل الورتلاني * - آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي - جـ ٤

[البشير الإبراهيمي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الرابع

- ‌مقدمةمحمد الغزالي

- ‌السياق التاريخي (1952 - 1954)

- ‌في باكستان

- ‌رحلتي إلى الأقطار الإسلامية *

- ‌ 1

- ‌بواعث الرحلة

- ‌بدء الرحلة

- ‌ 2 *

- ‌إلى كراتشي

- ‌ 3 *

- ‌مشكلة اللغة

- ‌بدء الأعمال العامة

- ‌ 4 *

- ‌كلمة حق

- ‌الزيارات

- ‌ 5 *

- ‌بقية أعمالي في كراتشي

- ‌حفلة جمعية علماء باكستان

- ‌رحلتي إلى كشمير والدواخل

- ‌ 6 *

- ‌بقية أعمالي في كراتشي

- ‌أخوة الإسلام *

- ‌الرجوع إلى هدي القرآن والسنّة *

- ‌أصلح نظام لتسيير العالم الإنساني اليومهو الإسلام *

- ‌تقرير مرفوع إلى صاحب الدولةرئيس وزراء الحكومة الباكستانية *

- ‌في مؤتمر العالم الإسلامي

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌وحدة الصوم والعيد *

- ‌خماسيات عمر الأميري *

- ‌ديوان «مع الله» *

- ‌جواب على أسئلة ثلاثة *

- ‌في العراق

- ‌لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أوّلها *

- ‌تعارف المسلمين مدعاة لقوّتهم وعزّتهم *

- ‌في الموصل *

- ‌بغداد تكرّم المغرب العربي *

- ‌في المملكة العربيةالسعودية

- ‌وظيفة علماء الدين *

- ‌ 1

- ‌ 2 *

- ‌ 3 *

- ‌الشباب المحمّدي *

- ‌الشيخ محمّد نصيف *

- ‌إلى علماء نجد *

- ‌تعليم البنت *

- ‌في مصر

- ‌صوت من نجيب، فهل من مجيب

- ‌في ذكرى المولد النبوي الشريف *

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌الأستاذ الفضيل الورتلاني *

- ‌الأستاذ سيد قطب *

- ‌اِغتيال الزعيم التونسي فرحات حشّاد *

- ‌تحية الجزائر *

- ‌منزلة الأدب في الحياة *

- ‌مذكرة إيضاحية *

- ‌الشعب الجزائري

- ‌ جمعية العلماء

- ‌نشأة هذه الجمعية:

- ‌تشكيلات الجمعية في الوقت الحاضر:

- ‌العضوية في الجمعية:

- ‌جرائد الجمعية:

- ‌مالية جمعية العلماء:

- ‌أعمال الجمعية لحفظ الإسلام على مسلمي فرنسا:

- ‌مواقف مشهودة لجمعية العلماء:

- ‌موقفها من المبشّرين المسيحيين:

- ‌موقفها من الإلحاد:

- ‌موقفها من الخمر:

- ‌موقفها من تعليم المرأة:

- ‌موقفها من السياسة الجزائرية:

- ‌موقف فرنسا من الجمعية:

- ‌أمهات أعمال جمعية العلماء

- ‌أولًا- مقاومة الأمية:

- ‌ثانيًا- المحاضرات الدينية والاجتماعية:

- ‌ثالثًا- تأسيسها للنوادي العلمية:

- ‌رابعًا- بناء المدارس:

- ‌خامسًا- المعهد الباديسي:

- ‌مشروع جامعة عربية إسلامية في الجزائر

- ‌خلاصة النتائج الإيجابية من أعمال جمعية العلماء وتوجيهاتها

- ‌في المعنويات

- ‌في الماديات

- ‌خاتمة

- ‌تحية غائب كالآيب

- ‌من هو المودودي

- ‌نص البرقية التي أرسلناها إلى حاكم باكستانوإلى رئيس وزرائها في قضية المودودي

- ‌في الكويت وبغدادودمشق وعمّان ومكّة

- ‌حكمة الصوم في الإسلام *

- ‌تصدير لمجلة «الإرشاد» الكويتية *

- ‌الأستاذ كامل كيلاني *

- ‌في نادي القلم ببغداد *

- ‌حركتنا حركات أحياء *

- ‌‌‌حركة جمعية العلماءالجزائريينوواقع العالم الإسلامي *

- ‌حركة جمعية العلماء

- ‌واقع العالم الإسلامي:

- ‌هل لمن أضاع فلسطين عيد

- ‌حالة المسلمين *

- ‌في مجمع اللغة العربية بدمشق *

- ‌دولة القرآن *

- ‌في مصر

- ‌برقيات احتجاج

- ‌كلمة إلى الشعب الليبي *

- ‌تقارب العرب…بشير اتحادهم *

- ‌افتتاح دار الطلبة بقسنطينة *

- ‌نصيحة وتحذير *

- ‌جمعية العلماء المسلمين الجزائريين *

- ‌المشاريع التي أنجزتها هذه الجمعية:

- ‌في صميم القضية الصينية

- ‌المرأة المسلمة في الجزائر *

- ‌إلى الشباب *

- ‌تكريم الأستاذ مسعود الجلّالي *

- ‌القدس وعمّان ودمشقوبغداد ومصر

- ‌رسالة إلى الأستاذ فاضل الجمالي *

- ‌أضعنا فلسطين *

- ‌الصراع بين الإسلام وأعدائه *

- ‌معنى الصوم *

- ‌أعيادنا بين العادة والعبادة *

- ‌متى يبلغ البنيان *

- ‌اتحاد المغرب العربي الكبير *

- ‌رسالة إلى الأستاذ خليل مردم بك *

- ‌حديث رمضان

- ‌داء المسلمين ودواؤهم *

- ‌مساعي جمعية العلماءفي قضية الزعيم الحبيب بورقيبة *

- ‌من عاذري

- ‌رسالة الأستاذ الورتلاني

- ‌المطبعة والمدفع

- ‌النظام ملاك العمل والحزم مساك النظام *

- ‌تعليق على كلمة الأستاذ الكبيرالشيخ محمد عبد اللطيف دراز *

- ‌ 1

- ‌ 2 *

- ‌مذكّرة عن جمعية العلماء إلى الجامعة العربية *

- ‌الشعب الجزائري:

- ‌أشنع أعمال فرنسا في الجزائر:

- ‌لمن يرجع الفضل

- ‌مبدأ جمعية العلماء وغاياتها:

- ‌أعمال جمعية العلماء في التعليم العربي للصغار:

- ‌بادروا لنجدة إخوانكم

- ‌الجزائر تعتزّ بعقيدتها وعروبتها:

- ‌وزير فرنسي ينكر على فرنسا أعمالها البربرية:

- ‌الجزائر محرومة من كل شيء:

- ‌«الزاب» في دائرة المعارف الإسلامية *

- ‌الرق في الإسلام *

- ‌تمهيد:

- ‌دين التحرير:

- ‌الاسترقاق في التاريخ:

- ‌عمل الإسلام في الرق:

- ‌المقاصد العامة في التشريع الإسلامي:

- ‌حكم التسرّي وحكمته في الإسلام:

- ‌الاسترقاق عند المسلمين اليوم:

- ‌كلمة لصحيفة "الأهرام

- ‌كلمة لِـ"مجلة الإذاعة المصرية

- ‌الجزائر وطن *

- ‌الإستعمار *

- ‌إلى الأستاذ عبد العزيز الميمني *

- ‌فلسطين واليهود *

- ‌مداعبات إخوانية

- ‌إلى ولدنا الأستاذ عبد الحميد الهاشمي *

- ‌كليّة" الأعظمي *

- ‌إلى ولدي الأديب عمر بهاء الدين الأميري *

- ‌إلى الدكتور فاضل الجمالي *

- ‌جمعية

- ‌الطائرة

- ‌إنْ أردتَ

- ‌إلى الأستاذ صالح الأشتر

- ‌غار على أحسابه

- ‌عبد العزيز العلي المطوع

الفصل: ‌الأستاذ الفضيل الورتلاني *

‌الأستاذ الفضيل الورتلاني *

بسم الله الرحمن الرحيم

أيها الإخوان:

ما فكرتُ في هذا الموقف، ولا دبرتُ طريق الخلاص من مفاجآته إلّا بعد أن دخلت القاعة وتراءت وجوه الإخوان وسبقني بعضهم بالحديث، فوجدت نفسي بين عاملين قويين متعاكسين: عامل الأدب العرفي الذي يعلو حتّى يصل إلى الغلو والاغراق، وينزل حتّى ينتهي إلى الإسفاف والعامية، وعامل الحقيقة الواقعة الذي هو دائمًا ميزان اعتدال.

تواضع الناس على أن مدْحَ المرء لنفسه ذمّ، وتندر العرب في ذلك بالكلمة الساخرة: مادِحُ نفسه يُقرئك السلام، وتواضعوا على أن إطراء المرء لولده ذمّ، فإن لم يكن ذمًّا فهجنة، وإن اعتذر عن ذلك بعض الناس الخارجين عن القياس بأن هذا من مقتضيات الفطرة، فهو تنفس بشيء من معاني العواطف التي تنطوي عليها كلّ نفْس، والفطريات الوجدانية لا تخضع لهذه القوانين التي يسنها المجتمع، ومن كلمات العرب السائرة في هذا الباب: المرء مفتون بابنه، وزاد البحتري: وبشعره، وهو صادق: فإن فتنة الشاعر بشعره أعظم من افتتان الوالد بولده.

وأنا أرى أنه ما أكّد هذا القانون العرفي في نفوس الناس إلا غلوّهم في الإطراء، ومبالغتهم في المدح والثناء، حتّى لا يكون المدح عندهم مدحًا إلا هكذا، ولا يكون أدب المواجهة أدبًا إلّا إذا كان من هذه الآداب الزائفة المنافقة التي أصبحت مادّة لحياة الناس لا يتعارفون إلّا بها ولا يتعايشون إلّا عليها ولا يديرون ألسنتهم إلّا بها، من تحية الصباح إلى أن يخيط النوم أجفانهم، وأصبحت عمارة المجالس وبضاعة الأندية وقاعدة السلوك، يعدّون الخارج عنها خارجًا عنهم، ولو أنهم سلكوا القصد والتزموا الحق ووزنوا كلامهم بميزان

* كلمة أُلقيت في الحفل الذي أُقيم في فندق "سميراميس" بالقاهرة تكريمًا للأستاذ الفضيل الورتلاني، في شهر نوفمبر 1952.

ص: 147

الصدق لسقط تسعة أعشار هذه اللغة الرائجة في المقابلات والتحايا والتمادح، ولسقط مثلها من قاموس التواضع الزائف مثل العبد الضعيف، العاجز، الفاني.

فإذا لم نُئغِ هذا العامل فالأستاذ الفضيل الورتلاني الذي يحتفي به إخوانه وعارفو فضله من أهل العلم والأدب والوجاهة والقلم واللسان- هو ولدي روحيًا وتلميذي فكريًا، وهو ثمرة طيبة من بواكير الحركة الإصلاحية العلمية التي أنا أحد المحركين لها والغارسين لبذورها، زكاه الله صبيًا ويافعًا وشابًا وآتاه من المواهب في الصغر ما شارك به أساتذته في وضع الأساس لهذه الحركة المباركة، بحيث لم يزيدوا عليه فيها- وأنا أحدهم- إلّا بالسنّ، فإذا أطريته الليلة تمشيًا مع أدب التكريم أكون قد مدحت نفسي وانحرفت عن الأدب العرفي.

لكلٍّ من الإخوان الحاضرين علاقة بالأستاذ الفضيل هي التي حركته لحضور الحفلة، وهي التي تُملي عليه إذا تكلّم فيها معلنًا أو ناجَى مخافتًا، ولكن علاقتي به تزيد على ذلك كله: هي علاقة الوالد بالولد، وهو لِوَفائه وانصافه يفخر بها، وأنا به أشد فخرًا وأكثر مباهاة وأكثر اعتزازًا.

ونحن- بفضل الله وتوفيقه- قد بنينا حركتنا من أوّل يوم على قواعد، منها القصد في الآداب المرعية بين التلاميذ وشيوخهم، لأن القصد أقرب إلى الصدق حتّى كأنه مقلوبه كما يقول علماء البديع، ومنها تفصيل الاحترام الظاهري على مقدار ما تكنّه النفس من معانيه وأسبابه، ومنها تنزيل الاحترام والتقدير على الأعمال لا على المرتبة ولا على السنّ، ومنها تسمية الأشياء بأسمائها من غير محاباة ولا إجحاف، ومنها اعتبار الوقت رأس مال فهو أجلّ من أن ينفق إلّا في المفيد.

أما العامل الثاني وهو عامل الحقيقة والواقع فهو المقدم عندي وعند جميع العقلاء في الاعتبار، ولذلك فأنا أقتحم الموضوع من غير استئذان للأدب العرفي ولا توقف عليه، وأقول في ولدي وتلميذي وخالصتي الأستاذ الفضيل الورتلاني ما يقوله الوالد العاقل الحساس في ولده البرّ، وما يقوله الشريك الأمين في شريكه الأمين، وما يقوله الزميل الشريف في زميله الشريف، وأقول فيه في المشهد ما أقوله في المغيب، ولا أقول- إن شاء الله- إلّا حقًا.

أقول: إنه رجل أي رجل، أو إنه الرجل كل الرجل، بالمعنى الذي تعرفه العرب من هذين التركيبين القصيرين الجاريين مجرى لغة البرقيات في زمننا، تجمع ضيق اللفظ واتساع الدلالة، ولعلّ من الإحسان إلى الإخوان الذين عرفوا الورتلاني في الشرق وهو في أواخر

ص: 148

شبيبته وأوائل كهولته- أن أعرّفهم بشيء من نشأته، فإن ملكات القوة إنما تثبت إذا كان وضعها صحيحًا وعلى أصل صحيح، وإن العئم بهذا شيء أنفردُ به دون الإخوان، فمن الجوامع بيني وبين الورتلاني قرب البلدين وقرب الميلادين، بين ميلادي وميلاده في الزمان بضع عشرة سنة، وبين مولدي ومولده في المكان مسافة لا تزيد على ثمانين ميلًا.

وأقول إنه رجل تضافر على تكوينه قوة الاستعداد للخير، وحسن الإعداد له، أما الاستعداد للخير فهو من أثر يد الله في عبده إذا أراد به خيرًا، وقد خلق الرجل مستعدًا للعظائم، مهيّأً لمعالي الأمور، مرشحًا للقيادة، يَلمح فيه المتفرس- وهو صغير- ملامح البطولة، ومخايل الاعتداد بالنفس والاعتزاز بالذاتية، والذكاء الذي يكاد يحتدم في جوانب صاحبه، ويرى فيه المتوسّم- وهو شاب طرير- جرأة على المكاره يصحبها رأي عاقل وعزم صادق، وجرأة على الطغيان والظلم يصحبها قول مسدّد وعمل دائم، وحركة غير معتادة في لداته من الشبان، وطموحًا نزّاعًا إلى العُلى، وعزّة نفس متسامية إلى الكمال، وثورة على الذين يصفون للأمّة الجزائرية سعادة الآخرة ولا يسلكون بها سبيلها، وعلى الذين يصفون لها سعادة الدنيا ويسلكون بها غير سبيلها.

وأما الإعداد فيبدأ من البيت الذي فيه وُلد، والقرية التي فيها درج، والمحيط الذي فتح فيه عينيه، والمضطرب الذي اضطرب فيه طفلًا وشارخًا، والنشأة التي عليها نشأ.

نشأ الأستاذ الفضيل في بيت يجمع حاشيتي النسب والحسب، والخلق الموروث والمكتسب، ويتصل سند العلم فيه إلى أجداد، نبغ منهم في القرون الثلاثة الأخيرة آحاد، ويمتاز هذا البيت بالتدين المتين والروحانية المتألقة والتربية الربانية والاتّصال القويّ بالله والتقلّب في مراضيه، والجري على الفطرة السليمة التي لم يمسسها زيغ، والاستقامة الشرعية التي لم يلابسها عوج، يحوط كلَّ ذلك علم متسع الجوانب بالنسبة إلى زمانها ومكانها.

ثم درج أول ما درج في قرية تحيط بها قرى، تحيط بهنَّ مجاميع من القرى لم يطرقها دخيل منذ دخل الإسلام، وكلّها متساندة على حماية الدين والعرض والخلق والمال في نظام ذي نزعة جمهورية يقوم بتنفيذه في كل قرية جماعة منتخبون من أهل الفضل والعقل والعدل، ويسمونهم العقلاء أو الأمناء، ولهم في كل قرية دار الأمناء يجتمعون فيها كل يوم ثلاثاء لدرء المفاسد وجلب المصالح، فلا يلمُّ بالقرية شرّ، ولا تنجم فيها بدعة، ولا يقع اعتداء من شخص على شخص، ولا تشم رائحة مما يمسّ عرض الغائب أو الحاضر، إلّا بادروا ذلك بالصلح أو بالحسم أو بالعقاب، ولهم في ذلك أحكام نافذة السلطان تقوم بالمصلحة ولا تجافي أحكام الدين ولا تدع المجال لِتَدَخُّل الحكومة الاستعمارية وأعوانها،

ص: 149

وان سبعين في المائة من قضاياهم لا تسمع بها الحكومة، وقد أدركتُ وأدرك الأستاذ بقية من شيوخ تلك القرى عاشوا الثمانين والتسعين من أعمارهم ولم تَرَ أعينهم فرنسيًا واحدًا في ذلك العمر المديد، ويعاون هؤلاء الأمناء على تربية الجمهور أن في كل قرية جامعًا للجمعة ومساجد للخمس وخطباء من أنفسهم يختارونهم بأنفسهم، وفي كل مسجد حلقًا لتحفيظ القرآن وأخرى لدروس الدين والعربية، لا سلطان للحكومة على هذه المساجد ولا على هذا التعليم المسجدي في هذه القرى دون سائر القطر الجزائري: فإن الحكومة الفرنسية استولت على جميع مساجده وأوقافه واحتكرت لنفسها التصرف في أئمته وخطبائه، وان هذا لموضوع طويل جاهدت جمعية العلماء في ميدانه عشرين سنة وما زالت تجاهد.

في هذه القرى السالمة يتزوّج الرجل الصالح بالمرأة الصالحة فيلدان الولد الأصلح، وإذا كان الطفل يتقلّب بين أحضان الصالحين وحجور الصالحات، ويرجع من أخدان صباه وعشراء داره وزملاء ملاعبه إلى طفولة طاهرة راشدة تحرسُها أعين المجتمع كله، فأخلق به أن يكون مثالًا للإنسان الكامل.

ثم فتح الأستاذ عينيه أول ما فتح على شماريخ الأطلس الأصغر وقممها الشمّاء، وشناخيبها المتناوحة وغاباتها الطبيعية التي تكسو سطوحها، وغابات الشجرتين المباركتين- التين والزيتون- التي تجلل سفوحها، وعلى الوديان العميقة التي تخترقها هدارة السيول، وعلى مناظر الثلوج التي تكسو تلك القمم ثلث السنة، فاكتسب من كل ذلك هدوء التأمل، ومتانة الفكر، وصلابة العقيدة، وركانة العقل، وثبات الصبغة، ووعورة الجدّ حتّى لا محلّ معه لهزل ولا لهزال، وإنّ التوعّر لَألزم الخلال للرجل، لا سيّما في هذا العصر الهازل المتخنث.

ثم انتقل من ذلك المحيط بعد أن أتقن القرآن الكريم حفظًا، وألمّ بمبادئ العلوم إلى مدينة قسنطينة، وهدتْه بصيرته النيّرة وقريحته العطشى إلى الاتصال بباني النهضة الجزائرية بجميع فروعها ومربّي الأجيال الحديثة فيها على هدي القرآن وخُلُق محمد عليه السلام، أخطب علماء الإسلام في عصرنا وأقواهم بيانًا لمحاسن الإسلام المرحوم الشيخ عبد الحميد ابن باديس، سليل تلك الأسرة التي خلفت الفاطميين على مملكة افريقية، وللمرحوم طريقة غريبة في وصل تلامذته بالله وتفقيههم في حقائق سُنَنه في الأنفس والآفاق، وله قدرة عجيبة في استلال النقائص من نفوسهم، وفي ترويضهم على الكمالات النفسية واللسانية والبدنية، وفي إعدادهم لمراتب الرجولة التي لا تخضع إلّا لله، وفي تعويدهم على أساليب الدعاية وتزويدهم بدلائل الحق.

ص: 150

وجد التلميذ أجنيته في الشيخ ووجد الشيخ بغيته في التلميذ، فقطع به مراتب التربية والتعليم في سنوات، وحضر عليه معظم دروس التفسير، وقد ختم الشيخ القرآن الكريم كله تفسيرًا في خمس وعشرين سنة، ولم يختمه- فيما نعلم- في مغاربنا الثلاثة إلّا أبو عبد الله الشريف التلمساني، في أوائل المائة الثامنة.

غبر الأستاذ الورتلاني في وجوه السابقين فأصبح مساعدًا لأستاذه في إلقاء الدروس للتلامذة وكانوا يجاوزون ثلاثمائة طالب هم عماد الحركة اليوم، وفي تلك المدّة كان يقضي الصيف جوّالًا صوالًا في القطر، واعظًا مذكرًا، مثيرًا للهمم الراكدة.

وله في الجزائر اليوم تلامذة وزملاء ما زالوا يحملون الذكريات العاطرة لعهده (1).

1) لم نعثر على بقية الكلمة.

ص: 151