الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
افتتاح دار الطلبة بقسنطينة *
وفاءً بالوعد، يسرّنا أن نحلي جريدة «البصائر» بالكلمة القيّمة التوجيهية، التي سجّلها حضرة الأستاذ الرئيس الجليل بالقاهرة، وأُلقيت في حفلة افتتاح دار الطلبة بقسنطينة. ولهذا الخطاب العظيم الأهمية، مقدّمة للأستاذ الكبير الشيخ الفضيل الورتلاني.
ــ
سجّلت هذه الكلمة للعلّامة الجليل حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ محمد البشير الإبراهيمي- حفظه الله- بمكتب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بالقاهرة في
أغسطس 1953، مشاركة من المكتب ورجاله للأمة الجزائرية في أفراحها بفتح "دار الطلبة" التابعة لمعهد خالد الذكر الأستاذ الإمام عبد الحميد بن باديس رضي الله عنه، أحيا الله الأمة الجزائرية مسلمة عربية مجاهدة وتحية لها عاطرة زكية مباركة طيّبة من ابنها الداعي لها بالتوفيق.
الفضيل الورتلاني
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلّا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيّدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين.
أيها الإخوان من مشائخ وتلاميذ وأنصار: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وتحياته الطيبات تغشاكم، وتعطر موقفكم في هذا المشهد الكريم وممشاكم، والدعوات الصالحات ترتفع إلى الله جل جلاله، أن يصل توفيقكم، ويجعل السداد رفيقكم، وأن يجعلكم دائمًا بهذه الخطا في الصالحات، سراع الأيدي إلى البذل في الباقيات، مجتمعي الكلمة على الحق والخير والنفع، مسددي الرأي فيما تأتون وما تذرون.
أيها الإخوان:
ما زالت تلوح في خيالي تلك الصور المشرقة من ماضيكم في الاحتفالات بفتح المدارس فأنتزع منها صورة مكبرة للاحتفال بفتح "دار الطلبة"، وما زلت أنثر الأزهار من ذكركم الطيّب
* «البصائر» ، العدد 250، السنة السادسة من السلسلة الثانية، 11 ديسمبر 1953.
في المجالس والأندية، ومن أعمالكم الجليلة في ميدان العلم، وما زلت أقرن هذه المعجزة بالتحدي، هذه المعجزة التي أظهرها الله على أيديكم، بل هذه المنقبة التي خصّكم الله بها، فما رأى الناس قبلكم أمة في مثل حالكم من الضعف والفقر والجهل والهوان تثب هذه الوثبة، بباعث من إيمانها، وتستيقظ فجأة على صوت الدعاة المخلصين من أبنائها فتبني نهضتها من أول يوم على أساس من الإسلام مكين، وحائط من العروبة متين، وعلى سبب من الحكمة رزين، وسند من العقل رصين، وتطوي العصور طيًا لتتصل بالقرآن فتتخذه دليلًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم فتتخذه إمامًا، وبالشرق في روحانيته النقية فتتخذه موئلًا، وبالتاريخ المحمدي في صحائفه الطاهرة فتتخذ منه مرشدًا. وما رأى الناس قبلكم أمة في مثل حالكم من ظلم الغريب، وجفاء القريب، وإضلال الهادي، وبغي العادي، ثم تُكوِّن في عشرين سنة من الحصا جبلًا شامخًا، ومن الأوشال بحرًا زاخرًا، وتبني بالفلس المقدّر، والعيش المقتّر، هذا العدد العديد من المدارس الضخمة ثم تتوّجها بهذا المعهد الفخم الذي تلوح عليه من مخايل عبد الحميد بن باديس سمات، وتهب عليه من روحه الطاهرة نسمات، ثم تهزّكم أريحية العرب، وسماح الإسلام، ونخوة الأجداد، فتكملون المفخرة بهذه الدار التي تجمع روعة الحرم إلى قوة الهرم.
أيها الإخوان الكرام:
إن لهذه الدار على قرب العهد من تشييدها لتاريخًا متصل الحلقات، ومن حلقاته التفكير والتقدير والرأي والتدبير، واليد واللسان، وان من عجائب الدهر تتابع هذه الحلقات بسرعة، وان أظهر صنع الله في هذا لباد، ولولا صنعه لما تمّ شيء من هذه الأعجوبة التي لم تستند على شيء من الوسائل المادية يوم تكوينها وإنما صحبها الإيمان والإرادة والعزيمة والحزم والتصميم، وهي وسائل ما اجتمعت في شيء إلا أتت بالعجائب وما تعاونت على شيء إلا أضفت عليه الوجود والخلود.
هذه الدار ذات تاريخ، بل أصبحت اليوم فاصلًا بين تاريخ وتاريخ. بين تاريخ مؤلف من حالة الطالب البائسة المضطربة التي كان عليها بالأمس، وبين تاريخه اليوم وقد أصبح شمله جميعًا، وحياته منظّمة، وأحواله مرتّبة، وسكنه نظيفًا، وستصبح هذه الدار تاريخًا قائمًا بنفسه، يوم يؤتي النظام والاطمئنان آثارهما في حياة التلميذ.
إن بدايتكم هذه وأنتم الضعفاء، هي نهاية الأقوياء ذوي الطول والحول والدولة والصولة والعراقة والأصالة في العلم وأسبابه، فما بدأوا في التفكير والاهتمام بحال التلميذ وإقراره فيما يناسب شرفه، إلا منذ عقود قليلة من السنين، وإذا كانت الغاية هي راحة طالب العلم، وتسهيل السبيل في طريقه إلى العلم، وتمهيد الوسائل له فإنهم لم يصلوا إلى تحقيق هذه الغاية إلا بعد مرور قرون على نهضتهم العلمية.
أما أنتم فقد حقّقتم شيئًا منها في أوائل النهضة، وان نهضة تقترن مبادئها بتحقيق بعض الغايات منها لنهضة حقيقة بالتمجيد والاحترام.
افخروا أيها الإخوان الشاهدون ما شئتم بهذه الدار: فقد بنيتم بأيديكم وبمالكم ولوطنكم، ودينكم، ولغتكم، ولأبنائكم، ونرجو أن يوزعهم الله شكران هذه الأيادي ويجنبهم كفرانها. افخروا فقد حزتم الفخار من أطرافه، انكم لم تبنوا دارًا، وإنما بنيتم أجيالًا، وأقمتم دينًا، وكتبتم تاريخًا وثبتم نهضة، ولا منة عليكم إلا لله.
إن النهضات أيها الإخوان، كيفما كان لونها، هي بناء وتعمير، وهذا لعمري هو البناء وهذا هو التعمير، وفي مثل هذا فليتنافس المتنافسون، إن نهضة تبتدئ بمثل ما بدأتم لحرية أن تنتهي إلى الأمد الذي تنتهي إليه النهضات الخالدة.
هذا هو البناء الذي فيه من كل كبد فلذة، وفيه من كل كيس فلس، وفيه من كل عقل رأي، وفيه من كل فكر شعبة من شعب الفكر، وفيه من كل عزيمة أثر من آثار العزائم. أعيذكم أيها الإخوان الكرام، أن تقنعوا في نهضتكم بغاية، أو تقفوا عند حد. إن القناعة إنما تحصل فيما يقيم الجسم لا فيما يقيم الأمة، وان آية الأمة المهيأة للخير أن لا تفرغ من مأثرة، إلا لتبدأ مأثرة، ولا تنفض أيديها من عمل إلا لتضعها في عمل، فكونوا دائمًا مستعدّين، واجعلوا هدفكم دائمًا العظائم لا الصغائر، وقد جرّبتم الإيمان وماذا يصنع، وجربتم التعاون وأنه ينفع، وجرّبتم الثقة بالله فأتت بالعجائب. شدّوا الحيازيم واعتمدوا على الله وثقوا بعونه وما أنفقتم من خير فهو يخلفه وهو خير الرازقين.
الحاجة يا إخواني إلى العلم ملحّة والخصم في القضية لدود، فلا ترهبوا الظالمين ولا تسمعوا للمرجفين ولا تلتفتوا إلى الناعقين، فإن فيهم الحسود وفيهم الحقود وفيهم المسخر وكلهم عدو لكم فأغيظوهم بالعمل الصالح واحذروهم كما تحذرون الشيطان.
أيها الإخوان الكرام:
عهدتكم مستجيبين لدعوة الحق، لبّيتموها يوم كانت دعوة إلى توحيد الله، ويوم كانت تثويبًا بتوحيد الصفوف في سبيله، ويوم كانت ترغيبًا في العلم ويوم كانت أذانًا بتشييد المدارس، ويوم كانت حداء بالأجيال الناشئة إليه، ويوم أصبحت سباقًا إلى التغالي فيه والتعالي به، ويوم أمست مساعي حثيثة في قطع مراحله وصعود درجاته، إلى هذا اليوم الذي استحالت الدعوة فيه إلى بناء العظائم والآثار وتمهيد العقبات في طريق طلّابه.
أيها الإخوان في العلم، اليوم قضيت الحاجة واطمأن المشفقون، فلتهنأ جمعية العلماء بهذا النجاح، وليهنأ المعهد العظيم بهذه التكملة بل بهذا الكمال، ولتهنأ الأمة بهذه
الثمرات لجهودها الخالصة المخلصة وئيَهْنَأ التلاميذ بهذا القرار المكين الذي أعدته لهم الأمة، وليجعلوا حمد الله على هذه النعمة اجتهادًا في العلم وإخلاصًا لله فيه واعترافًا للجمعية بالجميل وموثقًا يعطونه على أنفسهم للأمة، ليخلصن في خدمتها ونفعها ولينصرن دينها وليقيمن عقائده وعباداته وأحكامه وفضائله ولغته وليصدقن الله ما عاهدوه عليه في ذلك كله.
أيها الإخوان:
يعزّ علي أن أكون غائبًا عنكم بشخصي ويسلّيني أن أشارككم بصوتي فاعجبوا للغائب الحاضر واعجبوا للعلم الذي قرب البعيد، وأتى بالعجيب، ونقل الصوت إليكم في سلك. أما روحي فهي حاضرة معكم في كل حين، وأما سمعي فهو مرهف دائمًا لتلقّف أخباركم حتى كأني معكم أرى وأسمع وما أنا بالنامي ولا أنا بالجاحد.
وحيا الله إخواني أعضاء جمعية العلماء وقد وفوا بالعهد وأدّوا الأمانة وأحسنوا المناب، وما كنت يوم كنت بينهم إلا بهم، وما أنا اليوم إلا ناشر فضلهم، ومذيع مفاخرهم. فجزاهم الله عن دينهم وأمّتهم ووطنهم أفضل ما يجزي عاملًا عن عمله.
أيها الإخوان:
كأني أراكم بعيني كعهدي بكم تتسابقون إلى البذل في سبيل العلم، وتجودون بالغالي في سبيل الأغلى وبالثمين قيمة للأثمن وبعرض الدنيا قيمة لما عند الله من منازل الكرامة، فحقّقوا ظني أيها الإخوان ولا تفترقوا إلا والدار داركم ودار أبنائكم حسًا ومعنى، وقولًا وفعلًا، واعرفوا قيمة صفقةٍ الله فيها هو البائع، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم.
أيها الإخوان الشاهدون:
عطّروا سمعتكم في الداخل بمثل هذه الأعمال، ومكّنوا صلتكم بجمعية العلماء، بإمدادها بالعون المادي وطاعتها في المعروف والائتمام بها في العلم والدين والفضيلة. أما في الخارج وأعني بالخارج الشرقين: العربي والإسلامي، فالله أرحم بالجزائر من أن يتركها نهبًا للظنون وعرضًا لقالة السوء، فقد رزقها الرحمن الرحيم ابنًا شرّفها بعد الضعة وعرفها من التنكير، وصرفها الجمود وكان عليها عنوانًا مطرزًا ولها رمزًا موشّى وعليها دليلًا هاديًا، ذلكم فاعرفوه هو الأستاذ العبقري الفضيل الورتلاني الذي خدم الجزائر ولم يمنّ عليها وأعطاها من دون أن يأخذ منها والذي عرف الشرق كله عجمه وعربه قيمته وفضله واعترف باستحقاقه للأستاذية واستكماله لشرائط الزعامة؛ ولعمر الحق أنه لأذكى نبات جزائري جنى الشرق ثمراته حينما حرمته الجزائر وانه لأزكى زهر ضوع شذاه في الشرق بعد ما تفتّح في الجزائر، وأن مواهبه وتجاربه تجارتا فيه إلى غاية واحدة فجاء منه رجل، أي رجل وتضافرتا على
إحلاله مقامًا تقصر عنه أعناق المتطاولين للزعامة، وإني حين أهنئ به الجزائر صادقًا مخلصًا أحجم عن تهنئته بالجزائر لأنني أعتقد صادقًا مخلصًا أنها لم تعرف ما عرف الشرقان له من مكانة وتقدير.
إنني أحييكم باسمه وباسمي تحية تكافئ ما نكنّه للجزائر معًا من حب وما نحمله معًا لجمعية العلماء من إعظام وأشهد لنفسي وله أننا لم نمن عليها ذكرًا لها رفعناه، ولا فضلًا لها كان كامنًا فأذعناه.
وتحيّاتنا العاطرة بأنفاس الريحان تهب على جمعكم هذا ودعواتنا إلى الله في مظان الإجابة تتنزل وتصعد إلى معارج القدس بالتوفيق، وبسلوك أحسن طريق، وننصر دين الله في أرجائها، ولينصرن الله من ينصره والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.