الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلمة لِـ"مجلة الإذاعة المصرية
" *
"ودّعنا عامًا فطوينا صفحة من تاريخنا، وبدأنا عامًا جديدًا وصفحة جديدة، فماذا حقّقت بلادنا من ناحية، ومن ناحية أخرى ماذا حقّقت بلادنا العربية من أمانيها في هذا العام الفائت، وماذا نأمل من عامنا الجديد؟ ".
ــ
هذه الجملة بألفاظها وجّهتها إليَّ "مجلة الإذاعة المصرية" الغرّاء، طالبة رأي فيما تضمنته جملتها الأخيرة وهي تعني (ببلادنا) بلاد المجيب الخاصة.
والرأي المجمل في القضية أن أماني البلاد العربية كلها ترجع إلى واحدة يتدرّج إليها من الاستقلال إلى الاستقرار، إلى الاتحاد، إلى الوحدة، وهي النقطة التي تنتهي إليها الآمال، وهي مناط العزة والقوة والسعادة وكل المعاني التي تطلبها العروبة الصحيحة من العرب وتحثّهم على سلوك سبلها.
وتتفاوت الشعوب العربية بعد الأمنية العامة في الأماني الخاصة المحققة لها، فالمغرب العربي أمنيته الخاصة هي الاستقلال، وأمنية سوريا هي الاستقرار، وأمنية اليمن انتشار التعليم وإفاضة العدل.
أما الواقع الذي تفتح عليه العين، وتوضع عليه اليد فهو أن كل الشعوب العربية لم تتحقق لها أمنية واحدة من الأماني الكثيرة، ومضى العام المودع وأعوام قبله متشابهة المبادئ والخواتم، ولم تلمع فيها بارقة أمل في بلوغ أمنية من الأماني المرجوّة، وليس في الأفق بشائر تدل على قرب تحققها إلا هذا الوعي المتأجج الذي يزداد على الأيام، وتزيد في تأججه الحوادث المتتالية، وإلا هذه الفورات المتجددة في المغارب الثلاثة: تونس والجزائر ومراكش، وإلا هذه القلوب التي أصبحت تتواصل بعد انقطاع، وتتألّف بعد انصداع، وتتعارف بعد تناكر طال أمده، وإلا هذه المظاهر المتمثلة في المؤتمرات المتلاحقة من علماء الشعوب العربية وساستهم وأولي الأمر فيهم، وليقل الناس في هذه المؤتمرات ما شاءوا، فرأينا فيها أنها ارهاصات لأمر خطير.
* جرى هذا الحديث في أكتوبر 1954.
يجب أن تتضافر الشعوب العربية على إلحاق آخر قافلتهم بأولها، فإن بين الطرفين بعدًا بعيدًا في الثقافة والتفكير والاتصال بالعصر وأسباب الثروة وفهم الحياة وأوضاع الاجتماع، وان هذا التباعد هو أقوى أسباب التنافر بينهم.
ويجب عليهم أن يجتهدوا في تكوين رأي عام في كل شعب عربي ليسهل عليهم تكوين رأي أعمّ يوجّه ويرشد وينشئ ويخاف ويرجى، فإن بعض الشعوب العربية لم يتكوّن فيها رأي عام إلى الآن، وما زالت تسيطر عليها النزعات الفردية التي هي علامة التفكّك، وأساس التخاذل، وبعض شعوبهم وجد فيها رأي عام ولكنه لم ينضج. والرأي العام لا ينضج إلا في ظل الاستقرار والثقافة الهادئة الموحّدة، وسدّ الأبواب عن التيارات الأجنبية الهادمة مثل الشيوعية، والمذاهب الفكرية الأوربية التي تبلبل الأفكار.
…
نعم ودّعنا عامًا. ولكننا ودّعنا هذا العام غير مأسوف عليه لأنه لم يأتنا بشيء جديد ولم يطلع علينا شموس أيامه وأقمار لياليه بمفيد، ورمتنا أحداثه بما يؤخر ولا يقدم، ويبعد الآمال ولا يقربها، ولم يرنا في أعدائنا المستعمرين ما يسرّ، فلا يزالون متنمّرين علينا ممعنين في استعبادنا، وأضعفهم- وهي فرنسا- لا تزيد على الضعف إلا فتكًا بنا واستعبادًا لنا، وخنقًا لحريتنا الشخصية، فضلًا عن الحرية العامة، وتصاممًا عن طلباتنا، نسالمها حينًا عسى أن نصل إلى حقوقنا الطبيعية بالسلم والعقل فتقتلنا باسم المدنية والتمدين، ونثور عليها فتقتلنا باسم الثورة والخروج عن السيادة، ولم يبق لنا بعد أن سدّت علينا منافذ الحياة إلا أن نموت شرفاء، وإن لنا معها ليومًا، وان ساعة الحساب لقريبة إن شاء الله.
نعم
…
وطوينا صفحة من حياتنا، ولكننا لم نسجّل فيها كلمة شرف ولا جملة فخر. ان الأمة المستعدة للحياة هي التي تكتب تاريخها بيدها كلمة كلمة وسطرًا سطرًا وصحيفة صحيفة، من مقدمته إلى خاتمته، كما كتب أجدادنا العرب وأسلافنا المسلمون.
ان التاريخ شهيد فإما لنا وإما علينا، ومن المحزن أنه شهيد علينا بالتخاذل والتفكك والركون إلى لغو القول وصغائر العمل وهو لا يسجّل إلا جلائل الأعمال.
هذا بالنسبة إلى أوطاننا الخاصة، أما وطننا العام فهو كلّ والكل بأجزائه، وهذه الأجزاء كلها جمعتها الآلام، فجمعتها الآمال، ويسرّنا أن هذه الآمال قويت في النفوس وتجاوزت الخاصة إلى الجماهير الشعبية وهي مناط الرجاء، فإذا عمّ هذا وتغلغل وصحبه من الأعمال ما يقوّيه تحققت الأماني، أما الآمال من غير أعمال فإن الأعوام تمرّ عليها وهي مُعرضة، وكما مرّ علينا هذا العام ولم نسطر في صحائفه سطرًا، ولم نسجّل في أيامه عملًا، يمر ثان
وثالث ورابع، ولا يقف لنا واحد منها في محطة لعرض ولا لطلب، أقولها كلمة صريحة أحكمتها التجربة والاختبار: إن آمال العرب خاصة والمسلمين عامة كانت وما زالت معلّقة بمصر، متّجهة إلى مصر، يقلّدونها الزعامة ويبايعونها بالإمامة، وهم يعتقدون بحق أنها أهل لقيادة هذه المجموعة وجمع شتاتها. وأنا منزعج من هذا التفاوت بين أجزاء العروبة في الثقافة والقوة والغنى النسبي، لأنه يصير بقية الأجزاء الضعيفة كَلًّا على الجزء القوي، فإذا أراد العرب أن يسعدوا فليقوِّ كل شعب منهم نفسه بنفسه، ليصبح في يوم قريب نافعًا منتفعًا، معينًا معانًا، آخذًا معطيًا، وبهذا نخرج من مرحلة الإعانة والاستعانة إلى ثمرتهما وهي التعاون، وحينئذٍ نحمل التاريخ على التسجيل والإعجاب والأعوام على الائتمار، أما الآن فليس لنا على الأيام نهي ولا أمر، وليس لنا في التاريخ خل ولا خمر.
يعلم الله أني غير متشائم، ولكن هذا بعض رأيي.