الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في مجمع اللغة العربية بدمشق *
أيها الإخوان الأصفياء:
لي من الصلات الطبيعية بهذا المجمع العتيد أنّني واحد من هذه العصابة الحاملة لتراث الإسلام العلمي، ولتراث العرب الأدبي، ولخصائص الشرق الروحية، وأنّني أحد الغالين المتشدّدين في المحافظة على علوم الإسلام وآداب العرب وخصائص الشرق، المؤمنين بأنّها كانتْ في فترة من التاريخ منبع إسعاد وإعزاز وقوّة، فإذا كانتْ قد نضبت في فترة أخرى فَبِما كسبتْ أيدي أهلها من تفريط وإضاعة، وهي بعد ذلك أهلٌ أن تدِر حلائبها، وتثر سحائبها، حين يعود الإحساس ويجود الإبْساس.
وإنني واحد من هذا الصنف الجديد الذي لا يرى العلم علمًا حتّى يكون مفيدًا، ولا يرى الرأي رأيًا حتّى يكون سديدًا، ولا يرى الكتاب وسيلةً للعلم حتّى يظهرَ عليه أثر العقل المستقلّ، ويلوحَ عليه ميسم الفكر الولود، وينفض عليه صبغ القريحة الحيّة.
وإنّني واحد ممن لا يرى الخلَف برًّا بسلفه حتى يكون برًّا بزمنه وحتّى يزيد في بناء السلف سافا، وفي تاريخهم صحيفة، وفي عددهم رقمًا، وفي متحفهم تحفة، وحتّى يغمر نقصهم بتمامه، ويُقَوِّمَ فوضاهم بنظامه، ويُجمِّلَ بَدْأَهم بختامه.
وأنا- بعد ذلك كلّه- واحد من هذه العصبة التي تتخذ من القلم أداة جهاد، حين فاتها أن تتّخذ السيف من أدوات الجهاد، وفاتها أن تصطنع الحديد ذا البأس الشديد، فاصطنعت اليراع للقراع، واكتفتْ من أعمال الإيمان بأضعف الإيمان، عقوقًا لسيّدنا إبراهيم الذي راغ على أصنام الكلدانيين ضربًا باليمين، في هذا الزمن الذي أصبحت لغة بَنِيهِ مشتقّة من قعقعة الكتائب لا من جعجعة الكتب ولا من عجعجة الألسنة.
* فقرات من الكلمة التي أُلقيت في مجمع اللغة العربية بدمشق ارتجالًا، يونيو 1953.
ولي- أيها الإخوان الكرام- من الصلات المكتسبة بهذا المجمع أن أكثر الأعضاء الذين هم عُمَدُه ودعائمه من أصدقائي الذين أعْتزُّ بصداقتهم، وأعتدّ بعلمهم وإدراكهم لحقائقه، فأستاذنا المرحوم محمد كرد علي، وأستاذنا الشيخ الإمام عبد القادر المغربي، والأستاذ الشاعر خليل مردم بك، وصديقنا العالم الشيخ محمد بهجت البيطار، والأستاذ الدكتور جميل صليبا، وغيرهم، كلّهم من الجواهر التي عرفت قِيَمها، وكلّهم من الدوائح التي استمطرتُ دِيَمها، بل كلهم من السلائل التي عرفت خيمها قبل أن أعرف خِيمَها. ولم لا، وأنا مجنون هذه الأمّة العربية، المفتون بماضيها وحاضرها، فإذا كنت أفخر بأنّني أعرف من قبائلها الغابرة حتّى السكوف والسكاسك، وأعرف من منازلها الدائرة حتّى اللّوى والدكادك، فكيف لا تزدهيني معرفة رجالها الحاضرين الحاملين لراياتها ورواياتها، وكيف لا أفخر بصداقة أعلامها في الوقت الحاضر، وما منهم إلّا مَن نظم فيها ونثر، وما كبا في ميادينها ولا عثر، وأَحْيَا مِن معالمها ما اندثر، وانبط العين بعد أن خص الأثر.
لو سألتموني- أيها الإخوان- ماذا أحبْبتُ من الأمّة العربية ولماذا أحببتُها هذا الحبّ الذي بلغ درجة الافتتان، وأوّلها جاهلي وآخرها جاهلي، لَأَجبتُ جوابًا يأكل الأجوبة كلّها ويُسكت الشقاشق الهادرة، وهو أنني أحببت منها ما أحبَّ الله منها يوم أنزل وَحْيَه الكامل بلسانها، واختار رسوله الخاتم من أبنائها، وحسبي شرفًا وتوفيقًا أن أحبّ ما أحبّ الله، وإذا كانتْ في أوّلها ضالّة فقد هداها القرآن يوم عرفته، وإذا رجَعتْ إلى ضلالها القديم فسيرجع القرآن بها يوم تعرفه إلى الهداية، رغم أنف أوروبا وتلامذتها المغرورين بها، ورغم أسواقها العامرة بكل شيء إلّا الهدى، وأبواقها الفارغة من كل شيء إلّا الصدى.
أيها الإخوان: إنّ العلم بين أهله رحم يجب أن تبل ببلالها، وغير كثير على ذويها أن يتعارفوا وأن يتلاقوا على صلة تلك الرحم، وأن يتعاونوا على البر بها، وأن يتعاهدوها بالإشاعة بعد الإضاعة، وأن يتنازعوا أمر العلم بينهم، فينفوا عنه تحريف الجاهلية وانتحال المبطلين.