الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
5 *
-
____
بقية أعمالي في كراتشي
____
عقدت في أول الأسبوع الثاني ندوة صحافية في دار الأخ الأستاذ أبو بكر حليم، مدير جامعة كراتشي الآن، وجامعة "علي كرة" الشهيرة سابقًا، وهو من أعلى من رأيت في باكستان ثقافة، وله قيمة علمية ممتازة، واعتبار في جميع الأوساط الثقافية والحكومية، وهو رئيس اللجنة التنفيذية لمؤتمر العالم الإسلامي، وهو الذي اختار أن تكون الندوة في داره، وأحضر الشاي والحلوى، ووجّه الدعوة باسمي إلى الصحافيين ونواب وكالات الأنباء، فلما اجتمعنا وزّعت عليهم منشورًا مطبوعًا مترجمًا إلى الإنكليزية بقلم الأخ محمود أبي السعود، وبيّنت فيه الوضع السياسي في شمال أفريقيا عمومًا وفي الجزائر على الخصوص، وقضية الإسلام وأوقافه ومساجده وأحكامه في الجزائر، ثم شرحت لهم بلساني تلك المجملات وخصّصت تونس بكلام مؤثّر، وفتحت الباب للأسئلة فسألوا وأجبت، وكان الأستاذ أبو السعود يتولّى الترجمة عني إلى الإنكليزية، ومن لطائفه- حفظه الله- أنني سقت في معرض الحديث آية من كلام الله لها مرمى بعيد، وفيها للعقل مجال، فصاح بي: يا أخي إنني هنا أترجم عنك لا عن الله، إنني أستطيع ترجمة كلامك وإن علا، فأما كلام الله فلا، ومما استحسنته في أصحاب الجرائد ومندوبيها- وكلهم من الشبان- أن معظمهم يحسن الاختزال، فقد كتبوا أجويتي مع طولها في أسطر قلائل، ويظهر لي أن وكالة الأنباء الباكستانية الداخلية على حظ وافر من التنظيم، فقد كانت تنشر أخبار رحلتي من راولبندي أو بشاور فتقرأ في اليوم الثاني في جميع جرائد باكستان، وهي مئات.
…
«البصائر» ، العدد 200، السنة الخامسة من السلسلة الثانية، 8 سبتمبر 1952.
أقام لي معهد اللغة العربية حفلة تكريمية، واستدعت إدارته جميع تلامذته وتلميذاته فجلسن من وراء حجاب، واستدعت كثيرًا من العظماء والوجهاء وحضرها مدير الجامعة الأستاذ أبو بكر حليم والسيد غلام رضا سعيدي الإيراني، وتكلّم أربعة من التلامذة في الترحيب بي باللغة العربية فكان نطقهم صحيحًا فصيحًا، يدلّ على صحة رأيي الذي صرّحت به في جميع المجالس بباكستان، وهو أن تعلّم العربية في الكبر لا يأتي بالفائدة المطلوبة وهو الذي جعل أكابر العلماء لا يحسنون النطق بها مع فهمهم الدقيق لها، وأن تعلّمها في الصغر هو الذي يمكّن لها في الألسنة، ثم يأتي الفهم بعد ذلك، وكان في التلامذة الذين تكلّموا تلميذ بورماوي مهاجر، وتلميذ جاوي، ومما يلاحظه الدارس للهجات الموازن بينها أن الجاوي أقرب إلى اللهجة العربية من غيره، فهو ينطق الحاء العربية والعين من مخرجهما الصحيح كما ينطقهما العربي الأصيل، بخلاف الباكستاني فإنه لا يستطيع النطق بهما البتة، بل ينطق العين همزة، وينطق الحاء هاء في غير الألفاظ المتداولة كالحمد لله، والكلمات العربية في الأوردية أكثر من الكلمات العربية التي في الجاوية، ولكن الجاوي إذا نطق بالكلمة العربية في أثناء حديثه، تدرك من أول سماعها أنها عربية لوضوح مخارجها في لسانه بخلاف الباكستاني، وأنشد التلامذة مجتمعين عدة أناشيد بالعربية منها نشيد إقبال مترجمًا فأجادوا، وأعلن مدير المعهد أن هذه الليلة عربية، ولا حظ للأوردية فيها، وكان الحماس للعربية متأجّجًا في التلاميذ فأعدى الحاضرين كلهم، وطلبنا من السيد غلام رضا سعيدي أن يلقي كلمة بالعربية ففعل فجاءت صحيحة فصيحة بليغة، وقال إن هذه هي المرّة الثانية من مرّتين خطبت فيهما بالعربية، وخطبت في الأخير في موضوع التعليم ومنزلة العربية بين الأمم الإسلامية، وأملى علي الجو كلامًا قويًّا عاليًا، وهي أول خطبة عاودتني فيها عادتي من الانطلاق بعد خطب الجمعة، إذ لم أكن فيها مقيّدًا بترجمان، والترجمة المقطعة- وإن كانت تريح وتعطي الوقت للتفكير- تذهب بجمال الارتجال، وتقف في طريق الاسترسال، فهي لفرسان الخطابة تبريد وكبح، ومما قلته في هذه الخطبة: إن اللغة العربية ليست لغة العرب حتى توضع في موازين الترجيح وتتعاورها العصبيات بين جنس وجنس، أو تعلو إليها الأنظار الشعوبية، ولكنها لغة القرآن، وخيرة الله لكتابه، وإذا كان للعرب عدوّ أو منافس ينازعهم المفاخر، أو يجاذبهم المحامد، أو يغضّ منهم، أو ينكر عليهم، فليس للقرآن عدوّ بين المسلمين، وعدوّ القرآن ليس من أمّة القرآن. ففي هذه المنزلة أنزلوا هذه اللغة، وعلى هذا الأصل فخذوها، فكان لهذه الكلمة نفوذها وأثرها في نفوس من فهموها.
يدير هذه المدرسة الأستاذ محمد حسن الأعظمي (من مدينة أعظم كره بالهند، لا من أعظمية بغداد كما يُتوهم) وهو رجل نشيط في أعماله وممّن يحسنون العربية فهمًا وكتابة، وقد جاور في الأزهر سنوات، ومازج الأدباء والكتّاب، ولو قُدّر له أن يرحل إلى الأزهر وهو