الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صوت من نجيب، فهل من مجيب
؟ *
حصرت قبل أسابيع حفلة تكريم للقائد الشعبي العظيم محمد نجيب أقامتها جمعية من الجمعيات العاملة للإسلام وسمعت خطبًا عادية في المعنى الذي أُقيمت له الحفلة، وسمعت قطعة من الشعر أشهد أنه شعر حي صادق في تصوراته وتصويراته، وأنه مسّ مكامن الإحساس مني حينما مسّ فلسطين، وكأنما غمز من قلبي جرحًا مندملًا على عظم. ثم سمعت في الأخير كلمة القائد البطل: وكان أقلّها عن مصر وحركة الجيش وأسبابها وأهدافها، وأكثرها عن فلسطين وحربها وحالة أهلها المشرّدين.
وأقول: القائد ولا أقول: الرئيس لأنني كنت أسمع كلام قائد لا كلام رئيس، وكنت أسمع كلامه فأفهمه بمعنيين: معنى هو الذي تفيده الألفاظ والتراكيب، وينتقل بالسامع من خبر إلى خبر ومن وصف إلى وصف، ومعنى آخر مساوق له ممتد معه، وهو أن هذا الكلام نفسه قائد
…
فيه من القيادة أمرها ونهيها وحزمها وصدقها وواقعها وتوجيهها ومضاؤها وجرأتها وجميع خصائصها، فأفهم من ذلك كله أن القيادة هي صفته الذاتية، خلقت معه مستسرة معه في روحه ودمه، ولوّنتها فطرته السليمة، وكوّنتها تربيته الشعبية كما أن الإقدام هو صفة الأسد الذاتية التي خلقت معه، فلما أدّت قيادته العسكرية رسالتها وبلغت مداها انقلبت قيادة عسكرية شعبية سمّاها العرف رياسة، وما هي- في الحقيقة- إلا امتداد لقيادته العسكرية، والقائد القوي الخصائص في الأمة الكثيرة النقائص، لا يزال يخرج من حرب إلى حرب ويدخل من قتام في قتام.
سمعت كلمة القائد متئدة رزينة فلما لمست فلسطين ظهرت شجية حزينة فنطق بالصدق ولا أصدق من شهادة العيان. ومحمد نجيب إذا تكلم عن حرب فلسطين، وصوّر نكبة
* مجلة "الرسالة"، عدد 1018، ثم نقلتها «البصائر» ، العدد 214، السنة الخامسة من السلسلة الثانية، 23 جانفي 1953.
فلسطين كان الراوية الثقة والضابط العدل. وقد حلّل تلك السبة الخالدة وعلّلها باثنتين: قبول الهدنة وفقد السلاح. ثم برأ الشرف العسكري العربي كله من وصمة التخاذل، ولم يعرج على التخاذل السياسي بين ملوك العرب وساستهم، ولكن عده لقبول الهدنة أحد سببي النكبة أبلغ من التصريح في الاتهام والتجريح، فإن الراضين بالهدنة هم رؤساء الحكومات العربية من ملوك وساسة لا قادة الجيوش.
كانت كلمات القائد البطل عن فلسطين تمسّ نفسي- وهو يلقيها- مسّة الكهرباء فتحرق ولا تضيء، لأنني- يشهد الله- كنت وما زلت من أشدّ الناس اهتمامًا بالحادثة، ثم من أشدّهم التياعًا بالكارثة، فإذا فاتني- لشقوتي- أن أشارك في وقائعها بجسمي، فلم يفتني أن أشارك فيها بقلمي، فكتبت مقالات نارية المعنى قاسية الألفاظ تكاد ترسل شواظًا من نار ونحاسًا على المتسببين في تلك الهزيمة المنكرة بغير أسبابها المعقولة عند الناس، ولكن بسبب لا يستسيغه عقل عاقل وهو قبول الهدنة
…
لذلك كانت كلمات القائد تفيض من نفسه الجريحة وكأنما تفور من نفسي. حتى إذا سكت عن ساسة العرب أحسست بانفعال كنت أتمنّى أن أسكنه بشهادة حق من القائد الصادق عليهم تؤيد عقيدتي فيهم، فإن شهادة الحق تولّد الحق حتى لكأنه حقّان.
وتكلّم القائد البطل عن أولئك البائسين الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: وطننا فلسطين، والذين نسمّيهم مشردين ونحن شرّدناهم بما كسبت أيدينا، ووصف وصف المعايشين ما يلقونه من شقاء وما يتجرّعونه من غصص، وبدأ صوته يرتفع ويتهدج وعيناه تغرورقان بالدموع فتشهد بأنه يغالب أسًى كمينًا وهمًا دفينًا. وكانت الجمل العبقرية التي تساوي الدم الذي خرج من جسمه على ثرى فلسطين هي قوله:"كيف نلتذ بالطعام، وننعم باللباس والدفء، وان إخواننا ليتضورون من الجوع ويفترشون الغبراء؟ لماذا لا نصوم يومًا من الأسبوع عن اللحم، أو أسبوعًا من الشهر عن هنة من هذه الكماليات، ثم نرصد ثمنها لإطعام إخواننا الفلسطينيين وكسوتهم؟ إن الإمساك عن اللحم يومًا من الأسبوع أو عن الكماليات أسبوعًا من الشهر لا تميتنا ولكنها تحيي إخواننا". ثم رمى السامعين بالآبدة التي ظننت أن الجباه تندى لها عرقًا، إن لم تنخلع القلوب منها فرقًا، وهي قوله:"ان من العار أن نطلب لهم الحياة ممن أماتهم ونسأل لهم القوت من الدول العاتية التي حكمت عليهم بالموت جوعًا، وحكمت علينا بالانحناء ذلًّا ومهانة".
حقائق جلاها القائد على مئات من السامعين وما منهم إلا من له نباهة وذكر ومقام. جلاها في جمل حاكية، تحتها معانٍ باكية، وشرحها الوافي ينتزع مما يتصوّره المتصوّرون. ويصوّره المصوّرون من حال أولئك البائسين، وينتزع من تخاذل العرب ملوكًا وحكومات وسادة وكبراء وشعوبًا حتى ضاعت فلسطين وجاع أهلها، وتنتزع من حالة المسلمين المغفلين الذين ما زالوا- وهم ذوو عدد-:
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة
…
ومن إساءة أهل السوء إحسانا
…
وما زالوا يطلبون الصدقة ممن سلبهم وما زالوا يفزعون كلما لطمهم اليهود إلى الاحتجاج، وما زالوا يطرقون أبواب هذا الهيكل الخرب الذي يسمّى جمعية الأمم المتحدة.
أنا لا أتحدث عن قلوب السامعين ومواقع كلام القائد منها، ولا أملك لها أن تكون خلية أو شجية، وإنما أتحدث عن قلبي. فوالذي خلق القلوب مضغًا سوداء وبث فيها شعلًا من النور، لكأنما كانت تلك الكلمات نبالًا على قلبي تنثال على هدف، ونصالًا تتوالى على جريح. يا للعجب العاجب! أفيؤمن المسلم بأن المسجد الأقصى هو قبلته الأولى وأنه ثالث المساجد التي تشد إليها الرحال، وأنه كان في ليلة من الدهر سلم الأرض إلى السماء، ومطار البشرية المتمثلة في محمد، إلى الملكية المتمثلة في الملإ الأعلى، أفيؤمن بذلك كله ثم لا يقدم، لحماية هذا الحرم وجعله آمنًا، مهجته وماله؟
إن فلسطين إرث النبوّة الخاتمة، من النبوّات المتقادمة. نفذ فيه عمر وصية الإسلام، وحرّره أبو عبيدة وأصحابه في الأولين من رق الرومان ورجس الأوثان، وأدّت وقائع اليرموك وأجنادين شهادتها على استحقاقنا لهذا الإرث واقتدارنا على حمايته.
إن أعمال أجدادنا في فلسطين وإرثها وحمايتها هي وصية صريحة لنا بالمحافظة عليها وحجة ناطقة علينا إن نحن قصّرنا فيها أو فرّطنا في جنبها، فيا لتراث نبوي حماه الأسلاف الصالحون، وأضاعه الأخلاف المفرطون.
ما أضاع فلسطين إلا العرب، وقد جاءتهم النذر فتماروا بها، ثم حق الأمر وهم غارون فاندهشوا، ثم وقعت الواقعة فأبلسوا، وعمد خطباؤهم إلى الخطب ينمّقونها وشعراؤهم إلى القصائد يزوقونها، وساستهم إلى الدعاوى يلفّقونها، وعامّتهم إلى الخرافات يصدّقونها، بينما عمد ملوكهم إلى الأمداد يعوقونها وإلى الأهواء ينفقونها، وعمد خصومهم اليهود إلى الغايات يحقّقونها، وإلى العهود يمزقونها، وقضي الأمر وأوسعناهم سبًا وراحوا بالإبل! وبعد أن كنا نقول: أهل فلسطين، أصبحنا نقول ما قالته الجرهمية في مكة: بلى نحن كنا أهلها! ولا أدري كيف تنتصر أمة تقطعت بسوء صنيعها أممًا ثم تدلّت في الذل ثم صارت تطلب الرحمة من معذبها، وتعطي الدية لقاتلها، ثم ارتكست في السقوط حتى أصبح نصف ملوكها صبيانًا وأكثر أدلائها عميانًا.
…
مضت على كلمات القائد البطل أسابيع، وأنا أتحسّس وقعها في النفوس، وأترقب ثمرتها، من صوم المسلمين عن الطعام يومًا في الأسبوع أو هجرهم لبعض الكماليات أسبوعًا
في الشهر ورصد أثمانها لدفع الغوائل عن مشرّدي فلسطين أو لغير ذلك مما تتفتق عنه العقول من أفكار، وتتمخّض عنه الهمم من آثار. فلم يظهر لها أثر إلا تلك الهزّة التي حرّكت الأيدي للتصفيق، ورسمت التأثّر على الوجوه، ونشرت شيئًا من التهلل على الأسارير ثم لا شيء.
إن تلك الكلمة العبقرية ليست كلمة من الكلام، وإنما هي فكرة عبّرت عنها ألفاظ، ومبدأ ترجمته عبارات، ولو كانت نفوسنا- معشر سامعيها- حية مستجيبة لفهمنا الكلمة بهذا المعنى، ولخرجنا من الحفلة منادين بها، داعين إليها، شارحين لمراميها، ناشرين لها في العالم الإسلامي، بادئين بأنفسنا في تنفيذها. ولكننا قوم بنينا أمرنا على اللعب واللهو، والخطإ والسهو، لا على الجد والصرامة، والعزة والكرامة، واطمأننا إلى عادة لا تطمئن عليها الحياة، فكل ما في أحزاننا عويل وبكاء، وكل ما في أفراحنا تصدية ومكاء، وكل استجابتنا لداعي الحق تشقق الحناجر بهتاف، والتقاء الأيدي على تصفيق.
ونبتت بعد تلك الكلمة التي لم تعها أذن واعية، فكرة قُطُر الرحمة، وهي فكرة جميلة صحبها العزم فكانت جليلة، ورافقها التنفيذ فكانت نبيلة، وحيّا الله مصر ولَقَّى أهلها نضرة كما كسى أرضها خضرة، ولكن قطر الرحمة ما هي إلا قطر من الرحمة، والمشرّدون أصبحوا بقعة إنسانية عطشى لا ترويها إلا الروائح والغوادي من سحب الخير، وأين الفكرة التي تختصّ بمصر من الفكرة التي تعمّ العالم الإسلامي؟ إن فكرة "الصوم" لو تمّت وانتشرت وصحّت العزائم على جعلها عادة وموسمًا لم تقف عند استحياء المشردين وكفكفة دموعهم، بل كانت تغسل الخزي وترحض العار، وتسلّح جيشًا لاسترداد فلسطين.
أيها العرب: ها هم أولاء إخوانكم المشرّدون على غلوة سهم منكم لو تسمعتم لسمعتم أنينهم من الألم يتردد. وحنينهم إلى الديار يتجدد، ودعاءهم إلى الله يرتفع على كل من أضاعهم وأجاعهم.
إنهم إخوانكم، وإنها أعراضكم، والقرابة موضع الثواب والعقاب عند الله. والعرض محل المدح والذم عند الناس. وإنهم انسلخوا من الزمان، فلا ماضي ولا حال ولا مستقبل. فهل تأمنون أن يبقى أبناؤهم الناشئون في هذه الحالة على الإسلام والعروبة؟ وهل تأمنون أن يطول عليهم الأمد، ويستحكم فيهم اليأس منكم، فيبايعون اليهود على العبودية المؤبّدة؟
أيها العرب: ساء مثلًا من أفهمكم من معاني العروبة أنها نسبة إلى جنس واعتزاء إلى جد والتصاق برقعة من الأرض، فعاجلوا هذا السطر الخاطئ بالمحو والشطب وخذوا العروبة على أنها ليست جلدة تسمَرُّ أو تصفَرُّ ولا بلدة تغبر أو تخضرّ، وليست متاعًا مما يرث الوارثون ولا أرضًا مما يحرث الحارثون وإنما هي بناء مآثر وإعلاء أمجاد، وإنما هي خلال تتفتّح عن أعمال، وإنما هي عزائم لا تعرف الهزائم، وانما هي طموح وجموح: طموح
لمواطن العز وجموح عن قيود الذل، وإنما هي رأي أصيل وفكر جزيل ولسان بالبيان بليل وعقل هو على الحكمة دليل وقلب للجرأة خليل. فجميع هؤلاء هو العروبة وجامع هؤلاء هو العربي، وما عدا ذلك فهو تعلّل بخيال وتعلّق بضلال، وتخفق يكذبه الخلق وخيانة للعروبة في اسمها وعقوق لآباء كأنّما عناهم المعري بقوله:
جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم
…
بعد الممات جمال الكتب والسير
أيها المسلمون: إن اليهود طامحون إلى أكثر من فلسطين، وإنهم يستعدّون بعد أن غمسوا أرجلهم في ماء البحر الأحمر لاحتلال مكة والمدينة، فماذا أنتم صانعون؟ إن كنتم تعتمدون على أن للبيت ربا يحميه فهذا إرهاص لا يتكرر مرتين. وهو عذر لا يقوم بعد أن أخذ عليكم العهد بحماية البيت. إنه لا حجة لنا على الله بل الحجة علينا وإننا لسنا من العزة على الله بحيث يخرق سننه الكونية لأجلنا وقد رفع يده عنا فلا يبالي في أي واد نهلك، وحكّم سنّته فينا فحكمت بأن نُمْلك ولا نَمْلِك، فعودوا يعُد وغيّروا يغير وحققوا الشرط يحقق الجزاء.