المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

لبقي المصلّون كلّهم مرابطين ينتظرونني، وكان الأمر في الجمعة الثانية - آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي - جـ ٤

[البشير الإبراهيمي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الرابع

- ‌مقدمةمحمد الغزالي

- ‌السياق التاريخي (1952 - 1954)

- ‌في باكستان

- ‌رحلتي إلى الأقطار الإسلامية *

- ‌ 1

- ‌بواعث الرحلة

- ‌بدء الرحلة

- ‌ 2 *

- ‌إلى كراتشي

- ‌ 3 *

- ‌مشكلة اللغة

- ‌بدء الأعمال العامة

- ‌ 4 *

- ‌كلمة حق

- ‌الزيارات

- ‌ 5 *

- ‌بقية أعمالي في كراتشي

- ‌حفلة جمعية علماء باكستان

- ‌رحلتي إلى كشمير والدواخل

- ‌ 6 *

- ‌بقية أعمالي في كراتشي

- ‌أخوة الإسلام *

- ‌الرجوع إلى هدي القرآن والسنّة *

- ‌أصلح نظام لتسيير العالم الإنساني اليومهو الإسلام *

- ‌تقرير مرفوع إلى صاحب الدولةرئيس وزراء الحكومة الباكستانية *

- ‌في مؤتمر العالم الإسلامي

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌وحدة الصوم والعيد *

- ‌خماسيات عمر الأميري *

- ‌ديوان «مع الله» *

- ‌جواب على أسئلة ثلاثة *

- ‌في العراق

- ‌لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أوّلها *

- ‌تعارف المسلمين مدعاة لقوّتهم وعزّتهم *

- ‌في الموصل *

- ‌بغداد تكرّم المغرب العربي *

- ‌في المملكة العربيةالسعودية

- ‌وظيفة علماء الدين *

- ‌ 1

- ‌ 2 *

- ‌ 3 *

- ‌الشباب المحمّدي *

- ‌الشيخ محمّد نصيف *

- ‌إلى علماء نجد *

- ‌تعليم البنت *

- ‌في مصر

- ‌صوت من نجيب، فهل من مجيب

- ‌في ذكرى المولد النبوي الشريف *

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌الأستاذ الفضيل الورتلاني *

- ‌الأستاذ سيد قطب *

- ‌اِغتيال الزعيم التونسي فرحات حشّاد *

- ‌تحية الجزائر *

- ‌منزلة الأدب في الحياة *

- ‌مذكرة إيضاحية *

- ‌الشعب الجزائري

- ‌ جمعية العلماء

- ‌نشأة هذه الجمعية:

- ‌تشكيلات الجمعية في الوقت الحاضر:

- ‌العضوية في الجمعية:

- ‌جرائد الجمعية:

- ‌مالية جمعية العلماء:

- ‌أعمال الجمعية لحفظ الإسلام على مسلمي فرنسا:

- ‌مواقف مشهودة لجمعية العلماء:

- ‌موقفها من المبشّرين المسيحيين:

- ‌موقفها من الإلحاد:

- ‌موقفها من الخمر:

- ‌موقفها من تعليم المرأة:

- ‌موقفها من السياسة الجزائرية:

- ‌موقف فرنسا من الجمعية:

- ‌أمهات أعمال جمعية العلماء

- ‌أولًا- مقاومة الأمية:

- ‌ثانيًا- المحاضرات الدينية والاجتماعية:

- ‌ثالثًا- تأسيسها للنوادي العلمية:

- ‌رابعًا- بناء المدارس:

- ‌خامسًا- المعهد الباديسي:

- ‌مشروع جامعة عربية إسلامية في الجزائر

- ‌خلاصة النتائج الإيجابية من أعمال جمعية العلماء وتوجيهاتها

- ‌في المعنويات

- ‌في الماديات

- ‌خاتمة

- ‌تحية غائب كالآيب

- ‌من هو المودودي

- ‌نص البرقية التي أرسلناها إلى حاكم باكستانوإلى رئيس وزرائها في قضية المودودي

- ‌في الكويت وبغدادودمشق وعمّان ومكّة

- ‌حكمة الصوم في الإسلام *

- ‌تصدير لمجلة «الإرشاد» الكويتية *

- ‌الأستاذ كامل كيلاني *

- ‌في نادي القلم ببغداد *

- ‌حركتنا حركات أحياء *

- ‌‌‌حركة جمعية العلماءالجزائريينوواقع العالم الإسلامي *

- ‌حركة جمعية العلماء

- ‌واقع العالم الإسلامي:

- ‌هل لمن أضاع فلسطين عيد

- ‌حالة المسلمين *

- ‌في مجمع اللغة العربية بدمشق *

- ‌دولة القرآن *

- ‌في مصر

- ‌برقيات احتجاج

- ‌كلمة إلى الشعب الليبي *

- ‌تقارب العرب…بشير اتحادهم *

- ‌افتتاح دار الطلبة بقسنطينة *

- ‌نصيحة وتحذير *

- ‌جمعية العلماء المسلمين الجزائريين *

- ‌المشاريع التي أنجزتها هذه الجمعية:

- ‌في صميم القضية الصينية

- ‌المرأة المسلمة في الجزائر *

- ‌إلى الشباب *

- ‌تكريم الأستاذ مسعود الجلّالي *

- ‌القدس وعمّان ودمشقوبغداد ومصر

- ‌رسالة إلى الأستاذ فاضل الجمالي *

- ‌أضعنا فلسطين *

- ‌الصراع بين الإسلام وأعدائه *

- ‌معنى الصوم *

- ‌أعيادنا بين العادة والعبادة *

- ‌متى يبلغ البنيان *

- ‌اتحاد المغرب العربي الكبير *

- ‌رسالة إلى الأستاذ خليل مردم بك *

- ‌حديث رمضان

- ‌داء المسلمين ودواؤهم *

- ‌مساعي جمعية العلماءفي قضية الزعيم الحبيب بورقيبة *

- ‌من عاذري

- ‌رسالة الأستاذ الورتلاني

- ‌المطبعة والمدفع

- ‌النظام ملاك العمل والحزم مساك النظام *

- ‌تعليق على كلمة الأستاذ الكبيرالشيخ محمد عبد اللطيف دراز *

- ‌ 1

- ‌ 2 *

- ‌مذكّرة عن جمعية العلماء إلى الجامعة العربية *

- ‌الشعب الجزائري:

- ‌أشنع أعمال فرنسا في الجزائر:

- ‌لمن يرجع الفضل

- ‌مبدأ جمعية العلماء وغاياتها:

- ‌أعمال جمعية العلماء في التعليم العربي للصغار:

- ‌بادروا لنجدة إخوانكم

- ‌الجزائر تعتزّ بعقيدتها وعروبتها:

- ‌وزير فرنسي ينكر على فرنسا أعمالها البربرية:

- ‌الجزائر محرومة من كل شيء:

- ‌«الزاب» في دائرة المعارف الإسلامية *

- ‌الرق في الإسلام *

- ‌تمهيد:

- ‌دين التحرير:

- ‌الاسترقاق في التاريخ:

- ‌عمل الإسلام في الرق:

- ‌المقاصد العامة في التشريع الإسلامي:

- ‌حكم التسرّي وحكمته في الإسلام:

- ‌الاسترقاق عند المسلمين اليوم:

- ‌كلمة لصحيفة "الأهرام

- ‌كلمة لِـ"مجلة الإذاعة المصرية

- ‌الجزائر وطن *

- ‌الإستعمار *

- ‌إلى الأستاذ عبد العزيز الميمني *

- ‌فلسطين واليهود *

- ‌مداعبات إخوانية

- ‌إلى ولدنا الأستاذ عبد الحميد الهاشمي *

- ‌كليّة" الأعظمي *

- ‌إلى ولدي الأديب عمر بهاء الدين الأميري *

- ‌إلى الدكتور فاضل الجمالي *

- ‌جمعية

- ‌الطائرة

- ‌إنْ أردتَ

- ‌إلى الأستاذ صالح الأشتر

- ‌غار على أحسابه

- ‌عبد العزيز العلي المطوع

الفصل: لبقي المصلّون كلّهم مرابطين ينتظرونني، وكان الأمر في الجمعة الثانية

لبقي المصلّون كلّهم مرابطين ينتظرونني، وكان الأمر في الجمعة الثانية أشدّ، وكان في الثالثة أشنع لكثرة المصلّين في جامع الميمن، وكان صوتي بالإنكار في كلّ مرّة أعلى، ولكنه كان أضيع، وفي المرّة الأخيرة وجدت نفسي في شبه حلقة مفرغة من ورائها حلقات تزدحم وتتضاغط بحيث ما كدت أصل إلى الشارع حيث السيارة إلا والمؤذّن يؤذّن بصلاة العصر، ومن العجيب أن بعض العلماء- وكان يسايرني في تلك الضغطة- أنكر عليّ هذا الإنكار، وقال لي إنهم يحبّونكم، فهم يتبرّكون بكم، وأعجب منه أن مما ألهمته في تلك المحاضرة تقريع العلماء على تقصيرهم في التربية الاجتماعية، وسكوتهم على المنكرات حتى تعظم، وتأوّلهم للصغائر حتى تكبر، وقد فهمها هذا الأخ العالم مرّتين نصًّا وترجمة، ولما خرجنا ونجونا قلت لذلك الأخ: إن النفس لأمارة بالسوء وإن من مداخل الشيطان إلى النفس ما كنا فيه مذ الآن، إنه يصوّره بألف صورة ويزيّنه بألف معنى من معانيه، وافتتان الناس بالمرء يفضي إلى افتتانه بنفسه، ومن هنا أنكر ديننا الغلو حتى في الحب والبغض، ولو تكرّرت عليّ هذه الحالة مرّات لزالت عني مشقّتها بالارتياض والتعوّد، ولم يبق لي الشيطان منها إلا جوانبها الحبيبة إلى النفس، وهي أنها طاعة وانقياد وخضوع تلد الزعامة فالإمارة، فإن أنكرتها عجزًا أو تعفّفًا قفز بي إلى النبوّة فما فوقها، ومن عادة الشيطان أن يرتفع بعدوّه الإنسان إلى أعلى، ليكون الهبوط بقدر الصعود، وقلت لصاحبي: إن الصغائر في العامة تستحيل كبائر بالمبالغة فيها وبالسكوت عليها من العلماء وأهل الرأي.

____

‌الزيارات

____

زرت فخامة الحاكم العام لدولة باكستان السيد غلام محمد في مقرّه الرسمي، يوم 31 مارس سنة 1952 على الساعة الثانية عشرة والدقيقة العشرين، وكان المترجم هذه المرّة الأستاذ محمود أبو السعود من نوابغ الاختصاصيين المصريين في علوم الاقتصاد، ويحمل عدة شهادات عالية في علوم أخرى وله اطلاع واسع على الفقه الإسلامي، وفهم دقيق له، وهو يتولّى منصب مستشار بنك الدولة الباكستانية، وكانت الترجمة بيني وبين الحاكم العام بالإنكليزية، وفهمت من أول الحديث أنه مشغول الخاطر بالدستور الباكستاني الذي لم يتحرّر ولم يتقرّر إلى الآن، مع اشتغال المجلس التأسيسي به عدة سنوات، وما زالت الدولة جارية على بقايا القوانين الإنكليزية، والرأي العام ينادي بدستور إسلامي كامل تنبني عليه أحكام

ص: 46

إسلامية في الشخصيات والماليات والجنائيات، ومنها إقامة الحدود، ينادون بهذا ويتصوّرونه تصوّرًا مجملًا، والفقهاء منهم وعلماء الدين يتشدّدون في هذا ويشرحونه شروحًا نظرية تختلف باختلاف النزعات المذهبية من تقليد واستدلال، وهم يرون أن الرجوع إلى الأحكام الإسلامية هو الفرق بين العهدين، وما دامت الأحكام إنكليزية فلا استقلال، وهو كلام حق، ورأي سديد لو لم يكن مستندًا على النظريات، ونحن نقول ما هو أبلغ من هذا، نقول ما دام التعليم والكتابة في الرسميات بالإنكليزية فلا استقلال، فكيف بالدساتير والقوانين؟ والمثقفون يريدونه دستورًا مدنيًّا مقتبسًا من حالة الأمّة وتقاليدها، محقّقًا لرغائبها وضروراتها، ولا يتحمّسون فيما بدا لي للاستعارة من الدساتير الأجنبية كما فعل المصريون والأتراك الكماليون، ولا أدري هل هم مجمعون على هذا الرأي، لأنه لم يتح لي أن أحادث كل من لقيت منهم في هذا الباب، فإن كانوا مجمعين على هذا فهو من محامدهم، وسداد تفكيرهم، والذي عرفته- على الجملة- أن هذه الطبقة المثقّفة في باكستان ما زالت على شيء من التماسك مع الأجيال السابقة في الخصائص الموروثة، وما زالت على بقية من احترام الدين، فهي لذلك لا تجرؤ على مناهضة الرأي العام الإسلامي، ومما يختلفون به عن مثقّفينا أو مثقّفي اللغة الفرنسية أن روحهم إسلامية، وأنهم مطّلعون على أصول الإسلام وتاريخه وأبطاله، ولا سيّما السيرة النبوية والصحابة وآثارهم وخصائصهم، والحكومة حائرة بين الرأي العام والعلماء وبين ما يقتضيه الزمان من تساهل، والمجلس التأسيسي سائر بالقضية في تؤدة وبطء، ولعل من معاذير الحكومة في التروّي كثرة المذاهب الإسلامية، وأن أهل كل مذهب يريدون صوغ الدستور والقوانين التي تنبني على قواعده على قالب مذهبهم، والمسألة بسيطة إذا حكّم أهل المذاهب كتاب الله والمتّفق عليه من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومعقّدة من جهة الواقع وهو أن مقلّدة المذاهب متعصبون لمذاهبهم، وإن خالفت الكتاب والسنّة بالاجتهادات المحضة.

فاتحني فخامة الحاكم العام بالكلام في هذه القضية، وقال: إن أقدر رجل على وضع قانون أساسي صالح للأمم الإسلامية كلها هو جمال الدين الأفغاني، لأنه عالم وحكيم وسياسي، وأنه درس تاريخه فلم يجده- سامحه الله- اعتنى بهذه القضية العظيمة، ثم تلميذه محمد عبده، وهو كذلك لم يصنع شيئًا، وتمنّى فخامة الحاكم العام لو أنني أكتب شيئًا في هذه القضية الجليلة وأعرضه عليه، وأن هذا يعدّ مني خدمة ذات قيمة للقضية، وإعانة للمشتغلين بها، فعلمت من حديثه على طوله أنه عامر الجوانح اهتمامًا بهذه المشكلة، فاعتذرت عن الشيخين بأنهما صرفا عنايتهما إلى الأهم من أحوال المسلمين في زمنهما، وهو التقريب بينهم، وإصلاح خللهم، وإعدادهم لينقذوا أنفسهم من أمرائهم المستبدين، ومن أعدائهم المتسلّطين، ولو تمّ هذا في زمنهما ولو في جهة مخصوصة، لكانت الخطوة الثانية الطبيعية هي هذا الدستور الإسلامي الذي تقصدونه، ولعلهما كانا يريانه أسهل مما نتصوّره

ص: 47

نحن الآن، وهو كذلك إذا خفّ تأثير المذاهب المفرّقة، واجتمع المسلمون على هدي الكتاب والسنّة، وهو ما كان يعمل له الإمامان.

وزرت رئيس الوزراء دولة خواجه ناظم الدين في مكتبه بالمجلس التأسيسي، فكان الحديث كله عن باكستان والإسلام والمسلمين، والجزائر وجمعية العلماء، وكان المترجم في هذه الزيارة أيضًا الأستاذ محمود أبا السعود بالإنكليزية، وقد زرت رئيس الوزراء بعد الرجوع من رحلة كشمير مرّتين، مرّة مع أعضاء مؤتمر الشعوب الإسلامية بعد أن أزلنا ظواهر سوء التفاهم بين الداعين إليه وبين الحكومة، وقدّمني إخواني المؤتمرون للكلام أمامه فتكلمت وترجم عني الأستاذ سليم الحسيني، ومرّة أخرى رفعت له فيها تقريرًا مفصّلًا مترجمًا إلى الأوردية في الشؤون الدينية، وكان المترجم بيننا الأستاذ أبا السعود أعانه الله، كفاء لما قدّمه لي من عون تزيد في قيمته حاجتي إليه، وجزاه عن أخيه الذي لا ينسى فضله خير الجزاء.

وزرت قبل الرحلة وزير الدعاية، ووجّهت له كتابًا باسم الأمم العربية على نزارة الحصص التي يعطيها راديو باكستان للغة العربية، وعلى قصر حصة القرآن وعدم تعدّدها، وقلت له: يسوء إخوانكم المسلمين والعرب أن تكون حكومة الهند أحذق منكم في فنون الدعاية، وأحرص على اجتذاب العرب بتوسيع البرنامج العربي، واجتذاب المسلمين بتعدّد حصص القرآن، فاعتذر بكثرة اللغات التي تحتّم عليهم الظروف السياسية أن يذيعوا بها إرضاء لطوائف داخلية، أو مجاورة، وقد وعدته بتسجيل أحاديث دينية واجتماعية استجابة لرغبة إدارة الإذاعة، ولكن الرحلة وما تبعها من أعمال وأشغال حالت بيني وبين إتمامها فسجّلت بعضها بصوتي، وأنا عازم على إرسال بعضها من العراق إلى الأستاذ كاظم الحيدري مدير القسم العربي ليلقيها نيابة عني، وقد وعدني الوزير بأنه يتدارك ذلك النقص الذي عاتبته فيه بالتدريج، بعد أن سلم بملاحظاتي وآمن بسدادها.

وزرت- قبل الرحلة أيضًا- حضرة محمد ظفر الله خان وزير الخارجية، في دار سكناه، وجدّدنا ذكريات اجتماعنا في باريس، وشكرته على مواقفه من القضايا الإسلامية، وسردت عليه الحوادث الدامية بتونس، وما يقوم به الاستعمار الفرنسي من استباحة وانتهاك وترويع، فوجدته حافظًا للوقائع والأماكن والأشخاص كأنه شاهدها، وأبدى لي تأثّره الشديد من مكتب الجامعة العربية بالقاهرة، وقال إنه طلب منهم أن يمدّوه بواحد أو باثنين من التونسيين المقيمين بمصر، العاملين في القضية، ليسترشد به مندوب باكستان في مجلس

ص: 48

الأمن في تنظيم التقارير وملفات القضية التونسية، وقال إن مكتب الجامعة وعده ذلك ولم يفِ، وحدّثته عن بعثة جمعية العلماء إلى مدارس باكستان- وهو حديث بدأته مع حضرته في باريس وأربعأناه إلى الاجتماع في كراتشي- فاتفقنا على الاجتماع بوزير المعارف وبحث المسألة معه، وكذلك كان، والوزير ظفر الله خان يفهم عني بالعربية ولا يغمض عليه إلا القليل، فنرجع فيه وفيما يجيبني به إلى الترجمان بالأوردية، وهو في هذه المرّة الشيخ القدوسي.

وزرت- بعد رجوعي من الرحلة- وزير المعارف، وكنت درست التعليم في الثانويات والكليات والجامعات في بشاور وفي لاهور (وهما مدينتا العلم) فبحثت مع وزير المعارف مسألة البعثة على ضوء تلك الدراسة، وبيّنت له الفائدة المرجوّة لأبناء الجزائر من الدراسة في باكستان، وما تستفيده الحكومة الباكستانية من الفوائد المعنوية، وما يستفيده التلامذة من الامتزاج، وكان ظفر الله خان حاضرًا معنا فدرسنا المسألة مجتمعين، وطلب مني وزير المعارف أن أكتب له بمعنى ما دار بيننا تقريرًا مختصرًا يتخذه أساسًا لعرض القضية على مجلس الوزراء بصفة رسمية، فكتبت التقرير في يومه وترجمته إلى الأوردية، وقدّمته له يوم 6 جوان 1952.

وزرت في نهاية الأسبوع الأول من وصولي إلى كراتشي صاحبة العصمة السيدة فاطمة جناح أخت المرحوم بطل الانفصال محمد علي جناح، قائد باكستان الأعظم، في دار أخيها التي كان يسكنها، فرحّبت وأهّلت، وسألتني عن الجزائر، وعن الإسلام فيها، وعن المرأة الجزائرية وحظّها من التعليم، وسألتني عن رأيي في المرأة المسلمة عمومًا، وأية الطرق التي يجب أن تسلكها للحياة بعد أن تبيّن أن حالتها الحاضرة فساد لها وإفساد لأمتها، ووبال عليهما معًا، فأجبتها بما خلاصته: إن المرأة المسلمة يجب أن تتعلّم، ويجب أن تتهذب، لكن بشرط أن يكون ذلك في دائرة دينها وبأخلاق دينها، وأن الإسلام ضمن لها حقوق الإنسان كاملة، وحاطها من جميع الجهات بما يجبر ضعفها الطبيعي، وأقرّها في أحضان البرّ والتكرمة بنتًا وزوجًا وأمًّا، وهي أطوارها التي تجتازها في الحياة، وحدّد لها الوظيفة التي حدّدتها لها الفطرة، وهي أشرف الوظائف الإنسانية بل هي الإنسانية في أول مراتبها، وأعطاها من الماديات والمعنويات ما لم تعطها شريعة سماوية ولا قانون وضعي، وألزمها أن

ص: 49

تتعلّم كما ألزم الرجل أن يتعلّم، لأنه سوّى بينهما في التكاليف، والتكاليف لا تؤدّى إلا بالعلم، وأوجب عليهما العشرة، والعشرة لا تصلح إلا على العلم وجعلها مغرسًا للنسل، وغارسة للخصائص فيه، ومتعهّدة له بالسقي والإصلاح، وكل هذا لا يتمّ إلا بالعلم، وإذا كانت تربية النحل والدود تفتقر إلى العلم، فكيف لا تفتقر إليه تربية الإنسان؟ فإذا جهلت المرأة أتعبت الزوج، وأفسدت الأولاد، وأهلكت الأمّة، وكان منها ما ترين، وهل يسرّك ما ترين؟ فقالت لا، وقد توسّعت في هذه المعاني ومثلت، فأعجبها الحديث فأحسنت الإصغاء، وظهر لي من تنازع الحديث أنها مهتمة بشؤون المرأة المسلمة، وأنها مطّلعة على التشريع الإسلامي المتعلّق بالمرأة، وكان رفيقي في هذه الزيارة إنعام الله خان، والمترجم الشيخ محمد عادل القدوسي.

وزرت في الأسبوع نفسه قبر المرحوم محمد علي جناح محرّر باكستان، ومعي جماعة كبيرة من أعضاء مؤتمر العالم الإسلامي، ومعنا السيد غلام رضا سعيدي، ممثّل المؤتمر في إيران، ومعتمد بنك الحكومة في طهران، وكان ضيفًا في كراتشي، وتعارفنا فلازمني أيامًا، وهو رجل فاضل عارف باللغة العربية مطّلع على آدابها محسن للنطق بها، ويحسن الإنكليزية جيّدًا والفرنسية قليلًا، وزرنا بعده قبر لياقت علي خان، وهما متقاربان في ساحة واحدة مسيّجة وفي أحد جوانبها ماء ومواضع للوضوء، وليس على واحد منهما قبة، وإنما هما مسنمان في ارتفاع نصف القامة، وعليهما ستور خفيفة من القماش الملوّن، وعلى كل واحد منهما مظلّة مستطيلة تقي الزائرين حرّ الشمس، وقد وضع الزوّار على كل قبر عددًا كبيرًا من المصاحف القرآنية.

انتابتني حين وقفت على قبر جناح حالة غريبة، لعلّ منشأها ما في نفسي للرجل من إكبار زادته دراستي لتاريخ حياته ولأعماله في تلك الأيام القليلة، فإنني ما زرت قبره حتى استكملت علم ما كنت أجهل من حياته، فجاش خاطري بأبيات، وأنا واقف على قبره، وأنشدتها بصوت متهدّج، فتأثّر الحاضرون، وكتبوا ما علق منها بالذهن على إثر الانصراف، وما ذكرت منها حين كتابة هذا الفصل إلا هذه الأبيات الثلاثة:

هنا شمس تَوارت بالحجاب

هنا كنز تغطّى بالتراب

هنا علم طوته يد المنايا

هنا سيف تجلّل بالقراب

هنا من معدن الحق المصفّى

يتيم في الجواهر ذو اغتراب

ص: 50