الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والحكمة الواضحة في التسري تتألف من عدة عناصر، فهو تأليف بين العنصرين المتفاوتين وهم السادة والعبيد بعلاقة نفسية جسمية، وتقريب بينهما، وتنقيص من النفور الطبيعي بملابسة طبيعية، ولا يخفى ما في هذا من طي المسافة بين السيادة والعبودية، ومن الحكم الظاهرة فيه أنه خطوة واسعة إلى التحرير ووسيلة قوية من وسائله، فإن الأمة إذا ولدت من سيّدها ترتفع درجة عن العبودية حتى في الاسم فتسمّى أم ولد، وترتفع إذًا بطريق شرعية إلى التحرير، فهي من الذرائع المحققة لحكمة الإسلام في العتق ولمقصده في التشوّف للتحرير، وكل هذا زيادة على ما تحصل عليه أم الولد من سيّدها من الاستيلاء على قلبه والحظوة عنده، ولقد وصل كثير من أمهات الأولاد من طريق هذه الحظوة إلى درجات رفيعة لم تبلغها الحرائر. وأما المبالغة في الإكثار منهن إلى درجة مستهجنة بناء على عدم تحديد الشرع لعدد خاص- فهذا من سوء تصرّف المسلمين- لا من حسن تصريف الإسلام.
الاسترقاق عند المسلمين اليوم:
ترك المسلمون منذ قرون صفة الجهاد في سبيل نشر دعوتهم الدينية، فلم يبق سبب للاسترقاق الحقيقي، والموجود عند بعضهم اليوم من الرقيق إنما هو متوارث أو مجلوب من الشعوب الوثنية في افريقيا، أو مجلب عليه بالقوة من غير الوثنيين، وهذان النوعان الأخيران قد يدخلهما التزوير من الجانبين، وحكم إباحة الاسترقاق في الإسلام قائم لا تنسخه هذه القوانين الوضعية، وغلبة الظن مُحكمة في الإسلام ولكن الأحوط في مسألة الاسترقاق هو اليقين، فإذا غلب الظن في صحة الرق رجعنا إلى القاعدة العامّة، والمقصد الأمين وهو تشوّف الشارع للحرية، وغلبنا جانبها على جانب الاسترقاق، فإذا كان المالك من المتأدبين بأدب الإسلام ومنها إكرام الانسانية في شخص الرقيق، والإحسان إليه، ومعاملته على أساس الأخوة لا العبودية، فهنا يسوغ له الإقدام على ملك الرقيق المشبوه بغلبة الظن ما دام الملك ينقله من حالة سيئة إلى حالة حسنة، وعلى الجملة فالقضية في هذا الزمان من المتشابه الذي تعتوره أحكام الحظر والإباحة، والمبالغة في الاحتراز أقرب إلى رضى الله وإلى قصد الشريعة.
ونقول إنه إذا كان الاسترقاق مباحًا بشروطه فإن باب العتق مفتوح على مصراعيه، فإذا ملك بنيّة العتق فإن عمله أعرق في الإنسانية وأدنى إلى مراضي الله.
إذا تقرر في الذهن ما أصلناه في هذه الفصول القصيرة لم يبقَ معنى لهذه الضجة التي يتردد صداها حينًا بعد حين في ما وراء البحار من أوربا وأمريكا في التشنيع على الإسلام بأنه يبيح الاسترقاق، وعلى المسلمين وحكوماتهم بأنهم يزاولون شراء الرقيق ويبيحون الاتّجار
فيه، وما لهؤلاء القوم المشنعين على الإسلام لا يمنعون تجارة (الرقيق الأبيض) المتفشية بينهم، والمسجّلة عليهم وعلى حضارتهم عارًا لا يمحى؟ وما بالهم يرون القذاة في أعين غيرهم، ولا يرون الخشبة المركوزة في أعينهم؟ وما بال إنسانيتهم انحصرت في الإشفاق على عشرات أو مئات أو آلاف من العبيد يملكهم المسلمون بإحسان، ولم تتسع رحمتهم وإشفاقهم لمئات الملايين من الشعوب التي استعبدوها في أفريقيا وآسيا، فأذلوا رقابهم، ومسخوا معنوياتهم، وجرّدوها من كل أسباب الحياة؟
ثم ان لنا موقفًا نصفّي فيه الحساب مع هؤلاء الكتّاب الناعقين، ومن وراءهم من الحكومات المتفقة على إبطال الاسترقاق، ونردّ عليهم دعواهم وزعمهم أن ذلك القانون هو أشرف عمل إنساني تمّ على أيديهم وسبقوا إليه كل من مضى ومن حضر من الدول والأديان، وأنه هو الغرة اللائحة في جبين هذه الحضارة، والصفحة المشرقة في تاريخها، إلى آخر ما يفيضونه من النعوت على هذه (العملية).
نقول لهم أولًا: أمن الإنسانية ما تفعله أمريكا مع الزنوج إلى اليوم، وما تفعله جنوب أفريقيا مع الزنوج فيها؟
ونقول لهم ثانيًا: أمن الإنسانية والتحرير، استعماركم لأفريقيا وآسيا؟ وما فعلتموه من الفضائح في فتحهما، وما تفعلونه من الموبقات إلى اليوم في استعباد أهلها؟
قد يكون كلامكم في إلغاء الاسترقاق صحيحًا ومعقولًا عند الناس لو لم تقرنوه بجريمة الاستعمار في آن واحد، فلم تزيدوا على أن سفهتم أنفسكم، ونقضتم قولكم بفعلكم، وصيّرتم تلك الغرة المزعومة، عرّة معلومة، من الذي يصدقكم في تحرير الآلاف من العبيد، بعد أن استعبدتم مكانهم مئات الملايين؟ فكأنكم ما وضعتم ذلك القانون إلا تلهية للعالم، وتغطية عن الجريمة التي ارتكبتموها، وكأنكم ما رضيتم للشعوب الضعيفة أن تسترق أفرادًا، فألغيتم ذلك النوع الفردي، وأبدلتموه بالاسترقاق الجماعي (وبالجملة) على لغة التجّار.
فكان حقًا عليكم- لولا النفاق- أن تزيدوا كلمة في عنوان ذلك القانون فيصير (إلغاء الاسترقاق الفردي) ولو فعلتم لكنتم صادقين في الواقع، وإن كذبتم على الحقيقة والتاريخ، والكذب في الشر يصيّره شرّين.
إن هؤلاء القوم لم يزيدوا على أن حرّروا العبد زعمًا، واستعبدوا الأحرار فعلًا، ثم لجوا في الزعم سترًا للشناعة وتغطية عن الشر، وإلهاء للأغرار، وهيهات أن تغطى الشمس بالغرابيل. وإذا كان إلغاء الرقيق عملًا إنسانيًا، فاستعباد الأحرار بماذا يسمّى؟ وأنهار الدماء التي سالت بالأمس القريب في الهند الصينية وفي كوريا، والتي تسيل اليوم في شمال أفريقيا وشرقها
…
تسيل، في أي سبيل؟
أيها القوم العائبون على الإسلام
…
لا تنهوا عن المنكر الجزئي حتى تنتهوا عن المنكر الكلي
…
واذكروا ما هو محسوب عليكم وعلى حضارتكم من المتناقضات الشنيعة، وأشنعها أنكم استعبدتم شعوب أفريقيا كلهم نساءها ورجالها وأطفالها أبشع استعباد وقع في التاريخ، ثم جئتم تتباكون على مئات منهم نقلوا من الاستعباد الغاشم إلى الاستعباد الراحم، ومن الاستعباد الذي يجيع البطون، ويعري الظهور، ويخرج من البيوت- إلى الاستعباد الذي يشبع ويكسو ويؤوي، وبعبارة أجمع
…
من الاستعباد الذي يميت إلى الاستعباد الذي يحصي
…
ومن استعباد لا ضمير له، ولا إنسانية فيه، ولا رحمة معه، إلى استعباد كله ضمير وإنسانية ورحمة
…
ومن استعباد حقيقي إلى شيء ليس فيه من الاستعباد إلا اسمه.
لقد فضحكم الله بشيء أعماكم الغرور عن التبصّر فيه، فكانت افريقيا هي الفاضحة. إن قانونكم الذي تتبجّحون به كان منصبًا على افريقيا، وكانت هي المعنية به، إذ كانت سوقًا لتجارة الرقيق
…
ثم كانت هي هدفكم ومزدحمكم في الاستعمار فلم يبقَ منها شبر ولا شخص إلا وهو خاضع لسلطانكم الظالم الغاشم.
أما أن هؤلاء الأفريقيين لو فرّوا من وجوهكم- إذ لم يستطيعوا صفعها- ليكونوا عبيدًا للمسلمين لكانوا أعقل العقلاء، لأن ما يلقاه العبد في الشرق الإسلامي من سيد عات عنيف جبّار، لا يساوي عشر معشار الشعوب المستعبدة من حكوماتكم المتحضرة وظلم السيد المسلم العاتي لعبده يعد رحمة في جنب الظلم الاستعماري، على أن ظلم السيد المسلم لعبده يعد جريمة توجب عتقه رغمًا عليه في حكم الإسلام، أما المظالم المسلطة منكم على هذه الشعوب فهي جرائم جماعية، تتفق عليها حكومات متحضرة، وتسنّ لها القوانين من البرلمانات، ويزيّنها الفلاسفة والعلماء، ويحثّ عليها الخطباء، ويتغنّى بها الشعراء، وتجبى لها الأموال من الخاصة والعامة عن طوع واختيار، كما تجبى لسبل الخير العام.
أيها القوم: إنكم بهذا التجنّي على الإسلام تريدون أن تشغلوا المسلمين بالباطل عن الحق، وتسكتوهم بالاستعباد الموهوم عن الاستعباد المحقق، وبقضية الآحاد عن قضية مئات الملايين ولكنهم لا يسكتون
…
سمعنا كثيرًا عن غرائب التطورات، ولكننا لم نسمع أن إبليس أصبح واعظًا مذكرًا يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر حتى رأيناه رأي العين، ولكن هل يصدق العقل ما تراه العين وتسمعه الأذن من هذا؟
يتلخّص هذا العرض المختصر في نقط:
أولأ: أن الإسلام لم ينشئ الاسترقاق ولم يشرّعه.
ثانيًا: أنه وجده عادة راسخة في الأمم وضرورة من ضرورات حياتها.
ثالثًا: أن روح الإسلام تستهجنه وتعتبره نقيصة إنسانية.
رابعًا: أنه بادر بإصلاحه وإزهاق روحه بحيث لم يبق منه إلا اسمه.
خامسًا: أنه رأى أن إبطاله دفعة واحدة يؤدي إلى مفسدة اجتماعية هي أعظم ضررًا من إبقائه، فسنّ له من الآداب والأحكام ما جعله يتلاشى من تلقاء نفسه بالتدريج.
سادسًا: أبرز نقطة في هذا الإصلاح، اعتماده على النفوس والضمائر، باعتبار العبد أخًا لسيّده، ليستشعر الكرامة والعزة، فترتفع معنوياته، فيصبح إنسانًا في المجتمع لا بهيمة كما كان، ثم سوّى بينه وبين سيّده في مظاهر الحياة لتزول الفوارق الحسيّة، كما زالت الفوارق النفسية، ثم ألزم المالكين بحدود لا يتجاوزونها في الاستغلال المادي، وأوصاهم بالرفق والإحسان إلى إخوانهم، حتى كان آخر ما أوصى به في مرض الموت قوله صلى الله عليه وسلم:«استوصوا بالضعيفين خيرًا: المرأة والرقيق» ، وأنه رغب في العتق ووعد عليه الثواب الجزيل في الحياة الباقية- والإيمان بالحياة الباقية هو أساس عقيدة المؤمن- حتى جعل العتق أصلًا لأعمال البر كلها، وأنه قرّر عتق الرقاب عقوبة على عدة مخالفات يرتكبها المسلم وكفارة عنها عند الله، وأنه شرع من أسباب التحرير أشياء كثيرة، منها ما هو بسيط، ومنها ما هو مخالف في ظاهره لقواعد المعاملة، كل ذلك لتشوّفه للحرية، وللتقليل من عدد الأرقاء حتى يزول مع الزمن.