المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فلسطين واليهود * - آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي - جـ ٤

[البشير الإبراهيمي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الرابع

- ‌مقدمةمحمد الغزالي

- ‌السياق التاريخي (1952 - 1954)

- ‌في باكستان

- ‌رحلتي إلى الأقطار الإسلامية *

- ‌ 1

- ‌بواعث الرحلة

- ‌بدء الرحلة

- ‌ 2 *

- ‌إلى كراتشي

- ‌ 3 *

- ‌مشكلة اللغة

- ‌بدء الأعمال العامة

- ‌ 4 *

- ‌كلمة حق

- ‌الزيارات

- ‌ 5 *

- ‌بقية أعمالي في كراتشي

- ‌حفلة جمعية علماء باكستان

- ‌رحلتي إلى كشمير والدواخل

- ‌ 6 *

- ‌بقية أعمالي في كراتشي

- ‌أخوة الإسلام *

- ‌الرجوع إلى هدي القرآن والسنّة *

- ‌أصلح نظام لتسيير العالم الإنساني اليومهو الإسلام *

- ‌تقرير مرفوع إلى صاحب الدولةرئيس وزراء الحكومة الباكستانية *

- ‌في مؤتمر العالم الإسلامي

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌وحدة الصوم والعيد *

- ‌خماسيات عمر الأميري *

- ‌ديوان «مع الله» *

- ‌جواب على أسئلة ثلاثة *

- ‌في العراق

- ‌لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أوّلها *

- ‌تعارف المسلمين مدعاة لقوّتهم وعزّتهم *

- ‌في الموصل *

- ‌بغداد تكرّم المغرب العربي *

- ‌في المملكة العربيةالسعودية

- ‌وظيفة علماء الدين *

- ‌ 1

- ‌ 2 *

- ‌ 3 *

- ‌الشباب المحمّدي *

- ‌الشيخ محمّد نصيف *

- ‌إلى علماء نجد *

- ‌تعليم البنت *

- ‌في مصر

- ‌صوت من نجيب، فهل من مجيب

- ‌في ذكرى المولد النبوي الشريف *

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌الأستاذ الفضيل الورتلاني *

- ‌الأستاذ سيد قطب *

- ‌اِغتيال الزعيم التونسي فرحات حشّاد *

- ‌تحية الجزائر *

- ‌منزلة الأدب في الحياة *

- ‌مذكرة إيضاحية *

- ‌الشعب الجزائري

- ‌ جمعية العلماء

- ‌نشأة هذه الجمعية:

- ‌تشكيلات الجمعية في الوقت الحاضر:

- ‌العضوية في الجمعية:

- ‌جرائد الجمعية:

- ‌مالية جمعية العلماء:

- ‌أعمال الجمعية لحفظ الإسلام على مسلمي فرنسا:

- ‌مواقف مشهودة لجمعية العلماء:

- ‌موقفها من المبشّرين المسيحيين:

- ‌موقفها من الإلحاد:

- ‌موقفها من الخمر:

- ‌موقفها من تعليم المرأة:

- ‌موقفها من السياسة الجزائرية:

- ‌موقف فرنسا من الجمعية:

- ‌أمهات أعمال جمعية العلماء

- ‌أولًا- مقاومة الأمية:

- ‌ثانيًا- المحاضرات الدينية والاجتماعية:

- ‌ثالثًا- تأسيسها للنوادي العلمية:

- ‌رابعًا- بناء المدارس:

- ‌خامسًا- المعهد الباديسي:

- ‌مشروع جامعة عربية إسلامية في الجزائر

- ‌خلاصة النتائج الإيجابية من أعمال جمعية العلماء وتوجيهاتها

- ‌في المعنويات

- ‌في الماديات

- ‌خاتمة

- ‌تحية غائب كالآيب

- ‌من هو المودودي

- ‌نص البرقية التي أرسلناها إلى حاكم باكستانوإلى رئيس وزرائها في قضية المودودي

- ‌في الكويت وبغدادودمشق وعمّان ومكّة

- ‌حكمة الصوم في الإسلام *

- ‌تصدير لمجلة «الإرشاد» الكويتية *

- ‌الأستاذ كامل كيلاني *

- ‌في نادي القلم ببغداد *

- ‌حركتنا حركات أحياء *

- ‌‌‌حركة جمعية العلماءالجزائريينوواقع العالم الإسلامي *

- ‌حركة جمعية العلماء

- ‌واقع العالم الإسلامي:

- ‌هل لمن أضاع فلسطين عيد

- ‌حالة المسلمين *

- ‌في مجمع اللغة العربية بدمشق *

- ‌دولة القرآن *

- ‌في مصر

- ‌برقيات احتجاج

- ‌كلمة إلى الشعب الليبي *

- ‌تقارب العرب…بشير اتحادهم *

- ‌افتتاح دار الطلبة بقسنطينة *

- ‌نصيحة وتحذير *

- ‌جمعية العلماء المسلمين الجزائريين *

- ‌المشاريع التي أنجزتها هذه الجمعية:

- ‌في صميم القضية الصينية

- ‌المرأة المسلمة في الجزائر *

- ‌إلى الشباب *

- ‌تكريم الأستاذ مسعود الجلّالي *

- ‌القدس وعمّان ودمشقوبغداد ومصر

- ‌رسالة إلى الأستاذ فاضل الجمالي *

- ‌أضعنا فلسطين *

- ‌الصراع بين الإسلام وأعدائه *

- ‌معنى الصوم *

- ‌أعيادنا بين العادة والعبادة *

- ‌متى يبلغ البنيان *

- ‌اتحاد المغرب العربي الكبير *

- ‌رسالة إلى الأستاذ خليل مردم بك *

- ‌حديث رمضان

- ‌داء المسلمين ودواؤهم *

- ‌مساعي جمعية العلماءفي قضية الزعيم الحبيب بورقيبة *

- ‌من عاذري

- ‌رسالة الأستاذ الورتلاني

- ‌المطبعة والمدفع

- ‌النظام ملاك العمل والحزم مساك النظام *

- ‌تعليق على كلمة الأستاذ الكبيرالشيخ محمد عبد اللطيف دراز *

- ‌ 1

- ‌ 2 *

- ‌مذكّرة عن جمعية العلماء إلى الجامعة العربية *

- ‌الشعب الجزائري:

- ‌أشنع أعمال فرنسا في الجزائر:

- ‌لمن يرجع الفضل

- ‌مبدأ جمعية العلماء وغاياتها:

- ‌أعمال جمعية العلماء في التعليم العربي للصغار:

- ‌بادروا لنجدة إخوانكم

- ‌الجزائر تعتزّ بعقيدتها وعروبتها:

- ‌وزير فرنسي ينكر على فرنسا أعمالها البربرية:

- ‌الجزائر محرومة من كل شيء:

- ‌«الزاب» في دائرة المعارف الإسلامية *

- ‌الرق في الإسلام *

- ‌تمهيد:

- ‌دين التحرير:

- ‌الاسترقاق في التاريخ:

- ‌عمل الإسلام في الرق:

- ‌المقاصد العامة في التشريع الإسلامي:

- ‌حكم التسرّي وحكمته في الإسلام:

- ‌الاسترقاق عند المسلمين اليوم:

- ‌كلمة لصحيفة "الأهرام

- ‌كلمة لِـ"مجلة الإذاعة المصرية

- ‌الجزائر وطن *

- ‌الإستعمار *

- ‌إلى الأستاذ عبد العزيز الميمني *

- ‌فلسطين واليهود *

- ‌مداعبات إخوانية

- ‌إلى ولدنا الأستاذ عبد الحميد الهاشمي *

- ‌كليّة" الأعظمي *

- ‌إلى ولدي الأديب عمر بهاء الدين الأميري *

- ‌إلى الدكتور فاضل الجمالي *

- ‌جمعية

- ‌الطائرة

- ‌إنْ أردتَ

- ‌إلى الأستاذ صالح الأشتر

- ‌غار على أحسابه

- ‌عبد العزيز العلي المطوع

الفصل: ‌فلسطين واليهود *

‌فلسطين واليهود *

كتبتُ قبل ست سنوات مجموعة مقالات في جريدة البصائر كانت طلائعها مبشرات تحتوي على تحميس للعرب في حرب اليهود، وبيان حقوق العرب وأحكام الاستدلال عليها من التاريخ. وكشف الأخلاق والطبائع اليهودية وبثهم للدسائس والمكائد في كل حركة يأتونها، ولا عجب في استرسالي في تلك المقالات، فنحن الجزائريين بلونا من تلك المكائد ما جعلنا أفقه الناس في تلك المخزيات التي يأتيها اليهود في العالم، وتلك الطرائق في امتصاص أموالهم وتسخيرهم بالمال، وبراعتهم في الدعاية والتضليل وإنفاقهم الملايين في بث الفتن وإفساد الأخلاق.

نحن أفقه الناس في الطبيعة اليهودية لأن يهود الجزائر من بقايا الجالية اليهودية التي هاجرت مع العرب عند الجلاء عن الأندلس. وقد عاشوا مع العرب المسلمين في الأندلس قرونًا فرأوا فيها من حسن الرعاية ومن صنوف البر والتكريم ما وصلوا به إلى مراتب الكرامة وولاية الوزارة. وعاملهم المسلمون في أيام ملكهم معاملة الأخوة فلم يُمْنَعوا عن مال ولا جاه، فلما جاء طور الانتقام نالهم منه ما نال المسلمين، وكانت النزعة المسيحية في عداوة أعداء المسيح الأُوَل على أشدّها.

كارثة فلسطين من أعمق الكوارث أثرًا في نفوس المسلمين الصادقين، وجميع الكوارث التي حلّت بالمسلمين عدل من الله تخفى على البسطاء أسراره، وتظهر للمتوسمين أسبابه، إلا قضية فلسطين فإن وجه العدل الإلهي فيها واضح مسفر، ذلك أن العرب ومن

* مقال وُجد في أوراق الشيخ، كتبه بالقاهرة في أوائل 1954.

ص: 393

ورائهم المسلمون لم يُؤْخذوا فيها على غرة. بل كانوا يحيطون علمًا بنيّات اليهود ومطامعهم في إقامة دولة في أرض الميعاد، وتحقيق حلمهم القديم الذي تزوّدوا به من يوم خرجوا من فلسطين أذلة صاغرين في سبي بابل، وما زالوا يغذون أبناءهم جيلًا بعد جيل بعودة ملك إسرائيل إلى بنيه، ويسندون أوهامهم فيه إلى نصوص دينية ووعود إلهية على لسان بعض أنبيائهم افتراها أحبارهم، وأيّدوها بتلك الوعود المصطنعة لترسخ في مستقر العقائد من أبنائهم ويتوارثونها فيما يتوارثون.

إن أجدادنا لم يأخذوا فلسطين من يد اليهود وإنما أخذوها غلابًا من أيدي الروم وحرّروها من استعمارهم، وفي تحريرها تحرير لليهود أنفسهم، فماذا ينقم اليهود منا؟ ولماذا ينتقمون منا؟، ولماذا يجزون إحساننا لهم بالإساءة، ولماذا يستعينون علينا بأعدائنا وأعدائهم. إنه اللؤم المتأصل، والأنانية المركبة في الطباع المريضة، إن اللؤم قرين الضعف ودليله، فحيث ترى ضعف الطباع ترى لؤم الطباع، وقد جرت الدول الإسلامية في تاريخها الطويل على معاملة اليهود بالحسنى، معاملة إلّا تكن معاملة عُمَرية فهي بمقربة منها إلا في الفرط والندرة حينما ينقض اليهود عهدًا أو يظاهرون عدوًا، وما أكثر ما يقع منهم ذلك لأنه طبيعي فيهم لا يكادون يصبرون عليه. ولقد كانوا يعيشون عند الاحتلال الفرنسي للجزائر مع العرب المسلمين معززين مكرمين ويزيدون عليهم باحتكار التجارة وبعض الصنائع وبالبراعة في طرق الاقتصاد، وكثير منهم دخل الجزائر مع الجاليات الأندلسية التي اختارت الجزائر وطنًا لها. ولم يلقوا من الحكم الإسلامي إلّا الرفق والإحسان، ولكنهم ما كادوا يخالطون الفرنسيين حتّى تنكّروا للمسلمين فقبلوا الجنسية الفرنسية دفعة واحدة بقانون كريميو ( CREMIEUX) الوزير اليهودي المشهور، ومنذ أصبحوا يتمتعون بالجنسية الفرنسية ازداد تنكرهم للمسلمين وتفاقم شرّهم، وازدادوا جرأة على سلب أموال المسلمين وتفقيرهم تحت حماية القانون الفرنسي، وما ضمتهم فرنسا إلى جنسيتها إلّا لتحقيق الغرض الاستعماري الذي لا يقدر أحد قدرتهم عليه.

التاريخ في سلسلته الزمنية الطويلة يشهد أن بني إسرائيل لم يكن لهم ملك مادي في فلسطين ولا في غيرها كالذي تتأثله الأمم بالقوة والغلبة، وإنما كان لهم في فلسطين وما حولها من أرض الكنعانيين سلطان ديني أساسه النبوات، تسانده من القوة المادية ما تحتاج إليه الدعوات الدينية عادة، وما يظهر به ذلك السلطان الديني من مظاهر الملك المادية،

ص: 394

ولكن ذلك الملك وذلك المظهر لا يخرج عن نطاق الدين المؤيد بالعلم والحكمة، كما وقع لداود وسليمان فمُلكهما كان دينيًا محضًا، وهل يحتاج بناء الملك المادي في مألوف العادة إلى تسخير الجند والطير والريح؟ وقد انقضى ذلك النوع من الملك بانقضاء زمنه، ولم تَجْرِ به سنة الله في الأمم والملوك، وكل ما يذكر عن ملوك بني إسرائيل فهو متأثر بذلك النوع أو مصبوغ بصبغته، وفيما عدا تلك الفترات الدينية التي كان يقوم فيها الملك على الدين، أو يؤيد فيها الملك بالخوارق، أو يعضد بالعلم والحكمة، فإن بني إسرائيل لم يظهروا في التاريخ كأمة مدنية تستطيع بمؤهلاتها البشرية ومواهبها الفطرية المشاعة بين الأمم أن تقيم دولة أو تؤسس حضارة ذات خصائص جنسية منتزعة من الطبيعة الإسرائيلية من غير اعتماد على عامل خارجي عَبْر الخوارق، وقد دعاهم موسى إلى الملك وأكّد لهم ذلك بوعد الله بعد أن يقوموا بالأسباب العادية التي لا يقوم الملك إلا عليها، وأهمها الغلاب والقتال في سبيله فأبوا عليه وعَنَّتوه جريًا على الطبيعة المتأصلة فيهم من الجبن والمذلة وحب المكسب المادي الميسَّر الهنيء، وقالوا له تارة:{إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} وقالوا له مرة أخرى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} . وقد لقي موسى الْأَلَاقِيَ في سبيل دعوتهم إلى دخول الأرض المقدسة وإعدادهم للملك وفَهْم سنن الله فلم يفلح.

واليهود في أخلاقهم النفسية وطبعهم الأصيل شعب أنانيٌّ يُحِبُّ الاستئثار بالفضائل الإنسانية من دون أن يعمل لها أو يضحي في سبيلها، ليذهب به الغرور كل مذهب في تمجيد الجنس اليهودي واصطفاء الله له على الشعوب إلى درجة أن دماء الأمم الأخرى وأموالها كلها مباحة له، لأنها مخلوقة لأجله، وتَملُّك الغير لها إنّما هو اعتداء وغصب، فسرقة أموال الناس في نظرهم ليست سرقة وإنما هي استرجاع لِحَق كان مغصوبًا، وهم ينتحلون لذلك نصوصًا من وضع أحبارهم ولكنهم يُسْندونها إلى الله، ويسوقونها في صورة تدليل من الله بجنسهم ويجادلون الله فيها كما يجادل الكفء الكفء، حتى قالوا:{نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} ، والأحباء هم قرابة الملك أو المقربون منه. وقد مرّت بهم في تاريخهم فترات ترتفع فيها يد الله عنهم ويوكلون إلى أنفسهم فيضيع تدبيرهم ويتكشفون عن جهل بتدبير البيوت فضلًا عن تدبير الممالك والدول، ويتناهبهم الأقوياء من الفرس والرومان فيبيدون خضراءهم ويستبيحون حرماتهم ويتقاسمهم السيف والتشريد والسبي، فلا يذهبون في ذلك إلى تعليله بعلله المعقولة، ولا يرجعون فيه إلى موازين صحيحة من أحوال الأمم، ولا يفقهون أن سنن الله تنالهم كما تنال غيرهم، وإنما يقولون: ملحمة كتبها الله على بني إسرائيل. كلمة يقولونها كلما أحاطت بهم خطيآتهم والتحمتهم الأمم وذاقوا عواقب الأنانية والكيد والاغترار واحتقار الأمم وعدم الاعتبار للسنن الإلهية، ولاعتبارهم الملك وعزة الحياة

ص: 395

استحقاقًا إلهيًا لا نتيجة للجهاد والقراع. لم يشهد لهم التاريخ موقف دفاع عن حوزة، ولا سجَّل لهم صفحة واحدة في حماية حمى أو ذود عن حرمة وطن حازوه في ظل النبوّة، ذلك أن اليهود لا وطن لهم ولا وطنية في طباعهم بمعناها المعروف عند الأمم، فادعاءهم للوطن القومي تدجيل وتضليل، وإنما الوطن القومي حلم دعا إليه منهم المهووسون جرْيًا وراء أَخْيلةٍ من الماضي العريق من غير تبصّر في طبائع الأشياء، وأَلْهِيَةٍ ابتكروها لهم ليسلوهم بها عن المصائب التي جَرَّتها عليهم أنانيتهم، وشيء زيّنته لهم التطورات المتلاحقة في العالم، والداعي الأصيل إلى ذلك في نفوسهم هو حب المال، إذ كل شيء عند هؤلاء القوم ما عدا المال هو وسيلة لا مقصد في الفلسفة اليهودية، وقد كذبوا وعد الله لهم على لسان موسى من أن الأرض المقدسة كتبها الله لهم، وكتب لهم فيها التمكين إذا أخذوا بأسبابه وأهمّها القتال، وهم لا يحبّون القتال لأنه يؤدّي إلى القتل وهم أحرص الناس على الحياة.

ولو أن أمة غير الأمة الإسرائيلية كانت سليمة الفطرة، وكانت سليمة النفوذ من آثار الاستعمار الفرعوني الطويل سمعت من نبي كموسى عُشُرَ ما سمعه بنو إسرائيل من موسى من وعد الله إياهم بالملك والتمكين إذا أخذوا بأبسط الأسباب لذلك لأقبلوا على الموت مستبشرين، ولكن بني إسرائيل كذَّبوا وعد الله ولم تفدهم مواعظ موسى في تلك القلوب الغُلْف وفي تلك النفوس التي قتل الذل منها كل عرق يخفق بالعِزّة، وما هو إلا أن جاوزوا البحر وأهلك الله عدوّهم وهم ينظرون، حتى حنوا إلى ما كانوا عليه من ذل واستعباد ووثنية هي من آثار الذل والاستعباد الطويل، فأَغْواهم السامري واتَّخذوا عجلًا من ذهب وعَكَفوا عليه وقالوا:{هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} ، وقالوا لموسى:{اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} ، وإنك لا ترى في تاريخ الأمم النفسي أخلاقًا أفسدها الاستعباد ولم ينجح فيها علاج الأنبياء ولا معجزاتهم، وهم أطباء الأرواح المريضة، كما ترى في أخلاق هذه الأمة المتبجحة باصطفاء الله لها دون الأمم.

سقنا هذه الكلمة القصيرة المجردة من التنسيق التاريخي لنرى أن هذه الأمة ليست أمة مُلْك في تاريخها الطويل، وأنها لا تملك وسائله التي يملكها غيرها، فإذا قام لها ملك ففي ظل النُبُوَّة والخوارق وهي وسائل غير كسبية، وإذا تقلص عليها ذلك الظل تداعت عليها الأمم وأوْسعتها قتلًا وسبيًا وتحيفًا، ولم يزل هذا دأبهم إلى أن جاء الإسلام.

جاء الإسلام وكان من مقاصده الأولى بناء المملكة الإسلامية على صخرة السنن الإلهية والأسباب والمسببات لا على الخوارق، وكان من مقاصده نشر هدايته وفضائله في أرض النبوات الأولى بعد تطهيرها من الجبروت الروماني ومن الاستخذاء اليهودي، وإنا لنتلمح في قصة الإسراء والمعراج- وهما من صنع الله- ثم من اتجاهات نبي الإسلام وتوجيهاته ما يشعر بأن فتح الإسلام لمواطن الأنبياء ومدافنهم كان هو المقصد الأول للإسلام، وكأن

ص: 396

خروج النبي بنفسه إلى تبوك من طريق الشام رمز إلى ذلك وإيحاء به وإنذار للرومان، ثم نتلمح في تجهيزه لجيش مُؤْتَة لقتال الروم ومن يُواليهم من العرب والأنباط في مشارف الشام أنه خطوة ثانية ثم نتلمح في تجهيزه لجيش أسامة وهو في مرض موته تأييدًا لتلك المرحلة، وكلّها إنذارات للروم حقّقها ما بعدها.

تمّ فتح المسلمين لفلسطين في أيام عمر، وكان هذا الفتح كسائر الفتوحات الإسلامية يحمل الهدى والسلام ويفتح الأذهان قبل البلدان، وكان ينطوي على معنى الثأر لموسى ودينه وقومه اليهود لو كانوا يعقلون، فقد قطع دابر الرومان ودولتهم من فلسطين، وطهّرها من ظلمهم واستعبادهم لليهود، فلم يروا ناصرًا قويًا مثلما رأوا في الإسلام لو كانوا يقدّرون النعمة ويشكرونها، وبفتح المسلمين لفلسطين وفيها بيت المقدس رجع إرث النبوّة إلى النبوّة واجتمعت مساجد الإسلام الثلاثة في يد واحدة قوية قادرة على حمايتها، وعادت القبلة الأولى إلى الوجوه التي كانت تستقبلها وإلى النفوس المطمئنة لعبادة الله وحده فيها، وإلى الأيدي القادرة على حملها، وإلى أبناء العم لو كان اليهود يرعون للأرحام حرمة، وفي فتح أصحاب محمد لبيت المقدس تتجلى الفروق بين الطبيعتين العربية واليهودية، وشتان ما بين من يبذل مهجته في سبيل الله وتثبيت دينه الحق في الأرض، وبين من يكذب وعده ويشترط على رسوله، ويتألَّى عليه أن يؤتيه الملك والعز وهو نائم ناعم ويستعلي على خلقه.

قضية فلسطين في جوهرها وحقيقتها واعتبارها التاريخي قضية إسلامية من حيث إن فيها المسجد الأقصى ثالث المساجد المقدسة في حكم الإسلام، وهو أول قبلة صلى إليها المسلمون قبل الكعبة، ولئن نسخ هذا المعنى فإن الخصائص الأخرى من الاحترام الديني وشد الرحال إليه لم تنسخ، وان المتوسمين في آيات الله المستخرجين لدقائق الحكم منها يتلمحون من الأسرار في اختيارها قبلة أولى وفي كونها كانت نهاية للإسراء وبداية للعروج ما يضعها في موضع من الاحترام يوجب الدفاع عن مشاعرها، ودفع كل معتدٍ على حرماتها أن تدنس بوثنية، وتطهيرها من كل من يريد بها شرًا أو يريد فيها بإِلْحاد وإنها ميراث النبوّة وضعه الله في أيدٍ قادرة على حمايتها، وقد دافعت عنها بالفعل، وأقامت البرهان على اضطلاعها بحمايتها مدة أربعة عشر قرنًا كاملة، وحاربت عليها أمم الأرض، وما سلبها الله من اليهود وأورثها المسلمين إلا لأن اليهود كانوا أعجز الناس عن حمايتها.

ومن حيث أن فيها الصخرة التي هي أول محطة لاتصال الأرض بالسماء، ذلك الاتصال الذي كان سببًا فيما فاض على الأرض من بركات السماء، ولو شاء الله لكان المعراج بعبده

ص: 397

محمد من مكة التي هي موطنه ولكن كانت له في هذه الرحلة الأرضية حِكَم ولنا فيها عبر، فقد كانت رمزًا إلى أنَّ مُلْكَ الإسلام سيتسع حتى يبلغ في مرحلته الأولى ممالك النبوّة قبله ومواطنهم ومواطئ أقدامهم ومدافنهم، وسينشر فيها هدايته وسَيَبْسُطُ عليها حمايته وكذلك وقع، ومواريث النبوّة لا يستحقّها إلا الأنبياء والمضطلعون بها من أممهم، ولقد قال صلى الله عليه وسلم:«زُوِيَتْ لِيَ مِنَ الْأَرْضِ فَأُرِيتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا» .

من التزوير على التاريخ أن يقال إن اليهود احتلّوا فلسطين بالقوة العسكرية كما يحتل القوي الغالب أرض عدوّه الضعيف المغلوب، ألَا إن كلمة الحق التي يقف الواقع بجنبها شاهدًا لا يكذب هي أن ملوك العرب وزُعَماءَهُم المتحكمين في مصائرهم المنفّذين لإرادة المستعمر هم الذين سلّموا فلسطين لليهود سائغة هنية وحقّقوا للإنجليز غايتهم وما شرطه اليهود عليهم من تسليم فلسطين فارغة من العرب كما تسلم الدار المبيعة فارغة من الساكن، فاصطنعوا لذلك التسليم المقرّر وسائل وأعذارًا من التخاذل والمشاكسات بين القادة العسكريين حتى تمّ الأمر بذلك التسليم المهين، وكلّ ذلك تمَّ وفق خطة مدبرة متصلة الحلقات من الانجليز وأعوانهم منا في مقابلة نفع مادي شخصي زائل ومناصب مضمونة لعدة رجال من العبيد باعوا قومهم بتلك الوظائف، وما زلنا نراهم رأي العين يتقلبون في تلك الوظائف الذليلة وينفّذون أغراض الاستعمار ويدافعون عنها، وقد حنّ لهم الدهر فنالوا ما نالوا. فيا ويحهم ان عَقَّهم الدهر وصحا من تلك اللوثة، وما صحوه منها ببعيد، وما مصرع فاروق وعبد الله ببعيد من الذين باعوا فلسطين بالثمن الزهيد، ومهما تكن تلك الوظائف مضمونة من الانجليز فإن وراءها الموت والعار والسبّة الخالدة ووراءها هبة الشعوب وثورات المكبوتين.

أما الصهيونية فهي قديمة ولقد كانت في مرحلتها الأولى نسيجًا من أحلام وخيالات وأماني، ولكن كثرة ملابسات القائمين بها للدول الاستعمارية نقلتها من طور إلى طور حين وجد كل من الاستعمار الأوروبي والصهيونية في صاحبه عونًا ومساعدًا على أغراضه، ولم تزل المصالح المادية تقرب بينهما حتى اجتمعا في بعض النقط فتعاهدا على تقارض العون والمساعدة إلى نهاية الشوط، وصاحب ذلك ضعف الشعوب العربية وإحباطها وجهلها، فكان ذلك كله معينًا على تنمية الفكرة، وجاءت الحرب العالمية الأولى والعرب على تلك الحالة فاتفقت دول الاستعمار على تشتيت العرب وتمزيق أوطانهم واستغلال الكنوز التي يجهلونها في أرضهم وأهمها البترول، ولما كان نظر الاستعمار بعيدًا وعلم أن انتصاره في تلك الحرب يضمن له تشتيت العرب وتمزيق بلادهم ولكنه لا يضمن له بقاءهم على تلك الحالة طويلًا فرأى أن يرميهم بالداهية الدهياء وهي تحقيق الوطن القومي لليهود.

ص: 398