الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تحية الجزائر *
للإجتماع المنعقد يوم 8 ديسمبر بباريس
ــ
أيها الإخوان المتلاقون على هَوَى الوطن الجامع وحبّه، العاملون على إعلاء شأنه وجمع أجزائه.
بلغتنا أخبار اجتماع أبناء الشرق العربي بأبناء المغرب العربي في دار، فعجِبنا حتى انتهى العجب إلى أقصاه، وطربنا حتى أخرجَنا الطرب عن طور الاعتدال، ثم رجعنا إلى الفال، نُزْجي به الآمال.
عجبنا لاجتماع الإخْوة بعد أن جعل الاستعمار بينهم رَدْمًا، وأوسع معالم الاتصال بين الشرقيّ والغربيّ منهم تحطيمًا وهَدْمًا، وضرب بينهما بسور ليس له باب، حتى نَسِيَ الواحد منهما أخاه أو كاد، وحتى تنكر له كأن لم تَكُ بينهما أشياءُ من نسب وتاريخ، ومواريثُ مقسومة من دين وأدب.
وطربنا لأن اجتماع الإخْوة بهذه الصورة الجميلة، ولهذا الغرض النبيل وهو التعارف- هو شيء كانت تمثِّلُه لنا الخواطر الطائرة، والتمنيات الخيالية، فتمتلئ نفوسنا سرورًا، وتَشِيعُ في جوانبنا البهجة والانشراح، ثم يتقضَّى ذلك كله في لمحة الطرف كأحلام النائم، وإذا بذلك الخيال الطارف يصبح حقيقة مجسّمة.
ثم رجعنا إلى الفال، نستفتح به أقفال الغيب، ونَسِمُ به أغفالَ المستقبل، ونقول: صَبيبُ المُزنِ أوّلُه قطرة، وعَصْفُ الريح مبدؤه نَسمة، وصادق الوحي أوّله رؤيا منام، وبعد تلك البدايات ينهمر الماء، أو تعصِفُ الأعاصير، أو يتواتر الوحي، فلا عجب إذا كان هذا الاجتماع فتحًا لباب، وعنوانًا لكتاب، ومقدمة لنتائج.
* مسودة رسالة وُجدت في أوراق الإمام، ولكننا لم نهتدِ إلى طبيعة هذا الاجتماع.
أيها الضيوف الأعزة، أيها المقتبلون الكرام:
يَعِزُّ عليّ- والله- أن أنادي منكم اثنين، وإنما أنتم واحد، ولكن غَلبتْ عليّ النزعة العربية في إجلال الضيف، وإكرام مثواه، ومضاحكته قبل إنزال رحله، واعتبارِه عالَمًا مستقلًّا في مدة الضيافة، فناديتُ الضيفَ وحدَه لآخذَ بحظّي من البرّ به. وناديتُ أبا المَثْوَى وحدَه لأساهمه في أداء واجب الضيافة ولو بالحديث، والحديث من القِرى في مذهب العرب، وها أناذا أعود فأخاطبكم بالوصف الجامع:
أيها الإخوة:
إن أضعف سلاح رمانا به الاستعمار جمعيًا هو هذا السلاح المادي من الحديد والنار، وأن أمضى سلاح قاتلنا به فقَتَلَنا لَهو التضريب بين صفوفنا حتى أصبح بعضنا لبعض عدوًّا، والتخريب لضمائرنا حتى أصبحتْ خيانة الدين والوطن بيننا مَحْمَدةً نتمادح بها، والتمزيق لجامعتنا حتى أصبحنا أممًا متنابذة، والتوهينُ لقوانا المعنوية حتى أصبحنا كالتماثيل الخشبية لا ترهب ولا تخيف، والاستئثارُ بقُوَّاتنا المادية حتى أصبحنا عالةً عليه، والتعقيمُ لعقولنا وأفكارنا حتى أصبحنا نتنازل عن عقلنا لعقله وإنْ كان مأفونًا، وعن فكرنا لفكره وإنْ كان مجنونًا، وتلقيحُ فضائلنا برذائله حتى انحطتْ فينا القِيَمُ الإنسانية وبُخِست موازين الفضيلة، وترويضُنا على المهانة حتى أصبحنا نهزأ بماضينا افتتانًا بحاضره، ونحتقر لسانَنا احترامًا للسانه.
هذا الاستعمار لعقولنا وأفكارنا هو أخطر أنواع الاستعمار علينا، وهو الذي مهّد للطامة الكبرى التي هي مأْرَب الاستعمار، وهي هذه الوطنيات الضيّقة المحدودة التي زّينها لنا وحبّبها إلينا، ولو كانت خيرًا لَسَبقَنا هو إليها في أممه وأوطانه، ولكنه يتكتَّلُ ليقْوَى في نفسه، ويفرّقُنا لنضعفَ زيادةً في قوّته.
أليس من العار أن يكون للعرب عشْر وطنيات؟ أليست هذه الوطنيات الضيّقة بمثابة تقسيم الخبزة الواحدة إلى لُقَم، ليسهلَ ازدِرادُها لقمةً لقمة؟ أما والله لو كان العرب أمّة واحدة لما ضاعت فلسطين، ولما حلّت بالأقطار العربية هذه النكبات المتوالية.
أيْ أبناء العمومة: إن الجزائر والشمال الأفريقي كله فَئذَة من كبد الإسلام، وقطعة من وطن العروبة الكبير، وبقيّة مما فتح عقبة والمهاجر وحسّان، وإن هذا الوطن هو أحد أجنحتكم التي تطيرون بها إلى العلا، وإنّه متصل بكم اتصال الكف بالساعد، تصلون إليه مشْيًا، ويصل إليكم حبْوًا، فَريشوا هذا الجناحَ المهيض حتى تقوى قوادمه، وصونوا حماه فإنه حماكم، وذودوا عن عِرضه فإنه عرضكم.
إن هذا الوطن امتداد لوطنكم الأكبر، وإنه يحمل أمانة الأجداد التي تحملونها، فأعينوه على التحرير، وأنقِذوه من سوء المصير.
إن في هذا الشمال بأقطاره الثلاثة كنوزًا من تراث العربية والإسلام، طمرها الاستعمار برذائله عمدًا، وطمس محاسنها بحضارته قصدًا، فأعينونا بقوة نستخرج هذه الكنوز بإحياء الأخلاق والآداب والتاريخ، لا لخيرنا بل لخير الإنسانية.
أيْ أبناء العمومة: إن بيننا وبينكم صلاتٍ من اللغة والدين، وأرحامًا مرعيّة من الجنس والخصائص، فقوّوا هذه الصلات، وصلوا هذه الأرحام، يكنْ بعضنا لبعض قوة.
إنكم لنا أئمة في الخير، وإنّا بكم مؤتمّون في الحق، فحققوا شروط الإمامة، وطالبونا بتحقيق شروط الاقتداء، وئنُقِمِ الصفوف، في معترك الحتوف
…
وإلّا هلك الإمام والمأموم.
أما والله لن نُفلِت من مخالب الاستعمار فرادى، ولن نُفلت منه إلّا يوم نصبح أمّة واحدة تلقى عدوّها برأي واحد، وقائد واحد، وقلب واحد، فإن لم نفعل فلا نَلُمِ الاستعمار، وئنَلُم أنفسنا.
أيْ أبناء العمومة: ليتني كنت معكم، فأحييكم من قريب، تحية الأخوين، فرَّقتْ بينهما الأقدار، ثم جمعتهما الدار، وأسمعكم من الجزائر الحزينة نجواها، وأبثّكم شكواها، بلسانها الحر الأصيل المعرب، وبيانها العذب الشجيّ المطرب، ولكن الأقدار الغالبة عاقت عن الاتصال بكم، والجدّ العاثر حرمني من التشرّف بلقائكم في هذا اليوم الأغرّ، فها هي ذي تحيات العروبة الكامنة في الجزائر كُمونَ النار في الحجر- توافيكم من وراء البحر، وتتنفّس في ناديكم بمسك دارين وعنبر الشحر، فحيّاكم الله وأحياكم، وأبقاكم للعروبة تصلون أسبابها، وتعيدون عليها نضرتها وشبابها، وللإسلام ترفعون أعلامه وتدفعون ظلّامه، وللشرق تؤدّون فرضَه، وتردون قرضه، وتصونون عرضه، وتطهرون سماءه وتحفظون أرضه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخوكم
محمد البشير الإبراهيمي