الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
داء المسلمين ودواؤهم *
الباحث في أحوال المسلمين بحث تقصٍ واستقراء رجل من اثنين، رجل من أنفسهم ورجل من غيرهم، وكلا الرجلين يجتمع بصاحبه في نقطة تبعث الحيرة وهي: كيف يسقط المسلمون هذا السقوط المريع وفيهم كل أسباب الصعود وبين أيديهم كل ما ارتقى به أسلافهم، فأصول الدين من كتاب وسنّة محفوظة لم يضع منها شيء، وأسباب التاريخ واصلة لم ينقطع منها شيء، واللغة إن لم ترتق لم تنحدر، والعرب الذين هم جذم الإسلام ما زالوا يحتفظون بكثير من الخصائص الجنسية ومعظمها من المكارم والفضائل، والأرحام العربية ما زالت تجد من بين العرب من يبلها ببلالها، فلم تجف الجفاء كله وإن لم توصل الوصل كله، والتجاوب الروحاني الذي تردّد صداه كلمة الشهادة في نفوس المسلمين وكلمة التلبية في جنبات عرفات لم يتلاشَ تمامًا، والأرحام المتشابكة بين المسلمين لم تجف الجفاف الذي يقطع الصلة، ومن السنن الكونية المقرّرة في سقوط الأمم وعدم امتداد العزة والرقي فيها أن ينسى آخرها مآثر أوّلها فينقطع التيّار الدافع فيتعطّل التقدّم. والمسلمون لم ينسوا مآثر سلفهم، بل هي بينهم مدوّنة محفوظة مقطوع بها بالتواتر، بل هم أكثر الأمم احتفاظًا بمآثر السلف وتدوينًا لها، ولا يعرف بين أمم الأرض أمة كتب علماؤها فيما يسمّونه الطبقات والسير مثل ما كتب المسلمون في ذلك.
والباحث الأجنبي معذور إذا تحيّر، وقد يخفّف عنه ألم الحيرة ابتهاجه بهذا السقوط، وان بحثه عن الداء ليس بقصد الدواء، فقد عوّدنا كثير من هؤلاء الباحثين الأجانب أنهم لا يبحثون لذات البحث ولا يدرسون هذه المواضيع لوجه التاريخ الخالص، فضلًا عن أن نجد عندهم ما يطلب من العالم المخلص، وهو أن يرمي ببحثه وبإعلان نتائج بحثه إلى تنبيه الضال ليهتدي والمريض ليسعى في الاستشفاء والساقط ليأخذ بأسباب الصعود والنهوض،
* مجلة "المسلمون "، السنة الثالثة، العدد 9، ذو القعدة 1373هـ / يوليو 1954 م.
وإفهامه أن الأيام دول وأن من سار على الدرب وصل، بل نرى أكثرهم يتعمّد إضلالنا في تعليل الأشياء، كي لا يقف المريض على حقيقة دائه فيغفل مغترًا، أو يعالج داءه بداء أضرّ، أو يضع الدواء في غير موضعه، وقد نرى منهم من ينتهي من بحثه بنتيجة وهو أن سبب انحطاط المسلمين هو الإسلام نفسه
…
وأن من يستطب لدائه بإشارة عدوّه لحقيق بأن يسمع مثل هذه النصيحة
…
أما الباحثون في أحوال المسلمين من المسلمين فهم ينقسمون إلى فريقين- بعد اتفاقهم على أن الجسم الإسلامي مريض وأن مرضه عضال- فريق منهم هدي إلى الحق فعرف أن الجسم الإسلامي لا مطمع في شفائه إلا إذا عولج بالأشفية القديمة التي صحّ بها جسم سلفه، وغذي بالأغذية الصالحة التي قوي عليها سلفه، وذلك أنه أقام الدين فاستقامت له الدنيا، وانقاد إلى الله فانقاد له عباد الله، وأخذ كتاب الله بقوة، فمشى على نوره إلى السعادة في الدارين، وأرشده إلى أن سعادة الدنيا عز وسلطان، وعدل وإحسان، وأن سعادة الآخرة حياة لا نصب فيها ولا نهاية، واطمئنان لا خوف معه ولا كدر في أثنائه، ورضوان من الله أكبر.
وفريق ضلّ عن الحق في الدواء، لأنه ضلّ قبل ذلك في تشخيص الداء، وضلّ من قبل ذلك في طريقة البحث فتلقّاها من أعداء الإسلام زائغة ملتوية، وضلّ من قبل أولئك في أسلوب التفكير، فهو يفكّر بعقل ملتاث بلوثات هذه الحضارة الخاطئة الكاذبة المستمدّة من أصول الاستعمار الذي يسقي الأقربين ما يرويهم، ويغذي الأبعدين بما يرديهم، ثم يجتثهم من أصولهم ولا يلحقهم بأصوله، ويتركهم متعلقين بأسباب هذه الحضارة مفتونين بها، مهجورين منها، وقل ما شئت في العاشق المهجور، الذي لا يملك من أسباب الحب إلا القشور، ولا يملك من أسباب الوصل شيئًا. وقد علمنا من سنن الحب أن أعلاه ما كانت معه كبرياء تزع، واعتداد بالنفس يأخذ ويدع، وقوّتان إحداهما تدلل، والأخرى تذلل، أما هؤلاء العشاق المتيّمون بحضارة أوربا وعلومها وتهاويلها فقد فقدوا الشخصية التي تحفظ التوازن في ميدان العشق وتحفظ لصاحبها خط الرجوع.
هذا الفريق المزوّر على الإسلام، الذي لا صلة له به إلا بما لا كسب له فيه كاسمه ولقبه، يرى أنه لا نجاة للمسلمين إلا بالانسلاخ عن ماضيهم ودينهم، والانغماس في الحضارة الغربية ومقتضياتها من غير قيد ولا تحفظ، وهو يعمل لهذا جاهدًا، يُسِرُّهُ المسر كيدًا، ويعلنه المعلن وقاحة، وانك لتعرف ذلك منهم في لحن القول، وفي مظاهر العمل، وفي إدارة الكلام على أنحاء معينة، وفي البداوات الخاصة، وفي اللفتات العامة، حتى لتعرفه في أسباب معيشتهم الشخصية، ولكنهم يتناقضون ويتهافتون، فيبتدئون من حيث انتهى سادتهم، فسادتهم يرون أن اللعب إنما يحلو بعد الجد، وأن القشور إنما يلتفت إليها بعد تحصيل اللباب، وان
الكماليات تأتي بعد الضروريات، وأن الوقت رأس مال لا يجوز تبديده في غير نفع، ولكن هذه الطائفة منا تفعل عكس ذلك كله وتختصر الطريق إلى اللهو، لأنه يروي شهواتها، وإلى الكماليات والمظاهر لأن لها بريقًا هو حظ العين وان لم يكن للعقل منه شيء، وأن عصارة رأيهم في علاج حالة المسلمين تترجم بجملة واحدة، هي: أن النجاة في الغرق.
هؤلاء الدارسون لعلل المسلمين منهم هم علة علل المسلمين، وهم أنكى فيهم من المستعمرين الحقيقيين، فلقد كان دهاة الاستعمار في القرن الماضي يباشرون الشعوب الإسلامية كفاحًا ووجهًا لوجه، صراعًا في الحرب، وحكمًا في السلم، فيمارسون منها خصمًا شديد المراس، قوي الأسر، متين الأخلاق، فلم ينالوا منها إلا ما تناله القوة من الضعف، وهو محصور في التسلّط على الماديات، أما القلوب والعقول والعقائد والاعتزاز بالقوى والخصائص فلم تستطع أن تخضعها، ولم يستطع سلطانهم أن يمتدّ إليها، وهي عناصر المقاومة، المدّخرة ليوم المقاومة، ولن تجد فيما ترى وما تقرأ أمة قاومت الغاصب فدحرته ولو بعد حين إلا لأن هذه العناصر بقيت فيها سليمة قوية وبقيت هي عليها محافظة، ولكن أولئك الدهاة أتونا من جهات أخرى فهادنونا على دخن، وحبّبوا إلينا مدنيتهم من جهاتها القوية، ثم أعشونا ببريقها وابتلونا بما يلائم النفوس الضعيفة الحيوانية من شهواتها، وقالوا: إن وراء هذه المدنية علمًا هو أساسها، وأن وراء العلم ما وراءه من سعادة، وفتحوا لناشئتنا أبوابًا أمامية يدخلون منها، وأبوابًا خلفية يخرجون منها إلى عالم غير عالمهم الأصلي، وجاءت البلايا تزحف، فنقلتها تلك الناشئة تجري ركضًا، ودعت الكأس الأولى إلى ما بعدها وأصبحنا نتنافس في تقديم هذا القربان من ناشئتنا للاستعمار، وما زدنا بسفهنا على أن جهّزنا له جيشًا من أبنائنا يقتل فيه خصائصنا وروحانيتنا، ليقاتلنا به، وليوليه ما عجز عنه لصعوبة مراسنا وشدة احتراسنا، وليرجع إلى أهليه مملوء النفس باحترام أستاذه، مصمّم العزم على التمكين له، وقد كنّا لا نحترمه ولا نصادقه ولا نصافيه ولا ندمث له موضع الإقامة.
ما هو موقع الغلط في أبنائنا؟ انهم بتعلّمهم في الغرب، بلغة الغرب وبلباسهم لباس الغرب، وانتحالهم رسومه في الأكل والشرب، ظنّوا انهم أصبحوا كالغربيين، فانسلخوا في مظاهرهم ومخابرهم عن خصائصهم الأصلية الموروثة، فخسروها ولم يربحوا شيئًا، إذن لم يقع في تقديرهم ان جلّ الأحوال التي قلّدوا فيها الأوروبي هي ألوان إضافية اصطبغ بها بعد أن استكمل وسائل عزّه وقوّته، فلا تحسن في العين، ولا ترجح في الوزن إلا ممن وصل إلى درجته، وقطع المراحل التي قطعها في الحياة، وأنهم ظنّوا غلطًا في الفهم أن هذه الحضارة غربية، وأخطأوا فإن الحضارات ليست شرقية ولا غربية، وإنما هي تراث إنساني متداول بين الأمم تتعاقب عليه فيزيد فيه بعضها، وينقص منه بعضها، ويبتكر بعضها بعض الفروع فينسب إليه، ويلونها بعضهم بألوان ثابتة فتبقى شاهدة له حتى تضمحلّ.
إن جلّ أبنائنا الذين التقطتهم أوربا لتعلّمهم عكسوا آية فرعون مع موسى. ففرعون التقط موسى لينفعه ويتّخذه ولدًا وربّاه صغيرًا وأحسن إليه، فكان موسى له عدوًا وحزنًا وسخنة عين، أما أبناؤنا فقد التقطتهم أوربا وعلّمتهم وربّتهم فكانوا عدوًا لدينهم، وحزنًا لأهله، وسخنة عين لأهليهم وأوطانهم، إلا قليلًا منهم دخل النار فما احترق، وغشي اللج فأمن الغرق.
والسبب في هذا البلاء هو استعداد فينا كاستعداد المريض للموت، وشعور بالنقص في أنفسنا، لبعد عهدنا بالعزّة والكرامة، ولموت أشياء فينا تصاحب موتها في العادة يقظة أشياء، ففقد الإحساس بالواجب تصحبه يقظة الشهوات الجسدية، وقوة الإحساس بالواجب هي التي أملت على بعض خلفائنا أن يعتزل النساء كلما هم بالغزو، وهي التي حملت كثيرًا من قضاة سلفنا على أن يقمعوا شهوتهم الجسدية بالحلال قبل أن يجلسوا للخصوم في مجالس الحكم، وموت النخوة تصحبه سرعة التقليد وعادة الخضوع للغالب وسرعة التحلّل والذوبان.
إن الغرب لا يعطينا إلا جزءًا مما يأخذه منّا، ولا يعطينا إلا ما يعود علينا بالوبال، وقد أعنّاه على أنفسنا فأصبح المهاجر منّا إلى العلم يذهب بعقله الشرقي فينبذه هناك كأنه عقال على رأسه لا عقل في دماغه، ثم يأتيتا يوم يأتي بعقل غربي، ومنهم من يأتي بعقل غربي، ومعه امرأة تحرسه أن يزيغ
…