الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في نادي القلم ببغداد *
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الإخوة الكرام:
نادي القلم! اسم شعري لطيف، عليه من السماء صفاؤه، ومن الربيع أنداءه، وفيه من آثار الله وصقله، ومن مساوقة الفطرة وبساطة التركيب، وفيه من الغمام ما يحكي ودقه، وفيه من الواقع ما يحقق صدقه.
أسماء النوادي والجمعيات كأسماء الأناسي، فيها الصادق والكاذب، ولكن الفارق الجوهري بينهما أن أسماء الأناسي توضع من غير اختيار أصحابها ولا مشورتهم، ومن غير ترقّب لتحقق معنى الاسم في المسمّى، وتوضع في غمرة من الفرح بالكائنات الجديدة، فيدخل فيها- أوّل ما يدخل- عنصر التفاؤل المبني على الأماني، أو عنصر التوقي من العين أو من الموت، وهذا يرجع إلى المزاعم التي لم تفارق الإنسان بدويًا وحضريًا، ولم يفارقها وثنيًا ومتألهًا.
أما أسماء النوادي والجمعيات والأحزاب فإنها توضع بعد تحديد معانيها وتبيين مقاصدها، فكان الواجب أن تكون صادقة دائمًا وأن لا يدخلها الزيف، ولكن الناس يحبّون الاغراب والانحراف، لذلك نراهم يغربون في الأسماء، فيغرقون في الإيهام والتغرير، وإن أحبّ الأسماء في هذا الموضوع ما كان طبيعيًا وما كان منتزعًا من الموضوع كاسم نادي القلم، فإنه اسم مفصّل على موضوعه، ومن ثم فهو أصدق شيء في الدلالة على موضوعه، لا يشبهه في أسماء الأناسي إلّا اسم "عبد الله"، فإن هذا الاسم لا يغرّ ولا يكذب، فالإنسان، آمن أو كفر، وبَرَّ أو فَجَر، فهو عبد الله. بخلاف أسماء الفأل التي لا يحتاط فيها للعواقب كصلاح الدين لمن أفسد
* نشرت جريدة "التحرير" البغدادية (جوان 1953) ملخّصًا من هذه الكلمة، نقلته جريدة «البصائر» ، العدد 236، السنة السادسة، 10 جويلية 1953، ثم وجدنا في أوراق الإمام مسودّة منها، ننشرها اليوم.
الدين، وبرهان الدين لِمَن هو برهان لأعداء الدين على الدين، ولا يشبهه في أسماء الكتب إلا اسم "إصلاح المنطق" و "لسان العرب" و "كتاب النبات".
أيها الإخوان:
لي من الصلات الطبيعية بنادي القلم أنني أحد هذه العصبة التي تتّخذ من القلم أداة جهاد في زمن لغة بنيه أبعد ما تكون عن القلم، والحَكَم فيهم السيفُ لا القلمُ، فكأنهم من تلامذة المتنبّي حين يقول:
حَتَّى رَجَعْتُ وَأقْلَامِي قَوَائِلُ لِي
…
ائمَجْدُ لِلسَّيْفِ لَيْسَ ائمَجْدُ لِئقَلَمِ
أُكْتُبْ بِنَا أَبَداً بَعْدَ ائكِتَابِ بِهِ
…
فَإِنَّمَا نَحْنُ لِئأَسْيَافِ كَائخَدَمِ
ولي من الصلات المتينة بهذا النادي أن الرجال الذين هم عمده ودعائمه من أصدقائي الذين أعتزّ بصداقتهم، وأعدّ لقاءهم والتعرّف إليهم فصلًا حافلًا بالفخر من تاريخ حياتي، كالأستاذ الجليل شاعر العروبة محمد رضا الشبيبي، والأستاذ الأديب محمد بهجة الأثري، والأستاذ الدكتور محمد فاضل الجمالي، والدكتور أحمد سوسة، والدكتور جواد علي، وجمهرة أعضاء نادي القلم.
أيها الإخوان:
القلم بين أهله رحم يجب أن تبل ببلالها، وغير كثير على ذويها أن يتعارفوا وأن يتنازعوا أمرهم بينهم فيمحوا القطيعة بالوصال، وعلى ذلك فغير بعيد منّي أن أقول كلمة في نادي القلم، وأن أتحدث إلى أبناء أسرةٍ أنا واحد منهم فيما يجب لهذه الرحم من حقوق وفيما يجب على أبنائها البررة من أعمال، يقوّيها التعاون ويضعفها التهاون، وأن أول الواجبات عليهم أن يلمّوا ما أصابها من شعث، ويقوّوا ما انتابها من وهَن، وأن يردّوا على هذه الحرفة التي يُباشرها القلم هيبتها في القلوب وتأثيرها في النفوس ومكانتها بين الناس، وأن يثلموا بهذه الأدوات الضعيفة قوّة الأقوياء، ويلينوا بها قسوة القساة، وأن يردّوا بها حجّة السيف داحضةً والسيف مفلولًا، وأن يتسامَوْا بهذه الطائفة من حملة الأقلام عن تدنيس نفسها بالمطامع وتسخير قواها للشهوات الدنية، فتتجافى عن الهزل في الزمن الجادّ، وعن الإسفاف في حين احتياجنا إلى السمو، وعن التدلّي في عصر الترقّي، وعن الطمع في وقت أحد أسلحتنا فيه التعفّف عما تقدمه لنا يد العدوّ من مطاعم كلها مطاعن، ومشارب كلها إلى الموت مسارب، وملابس كلها محابس، وأفكار كلها للموبقات أوكار، وعلوم كلها في ديننا ومقوّماتنا كلوم.
أيها الإخوان: حملةُ الأقلام فينا كثير، ولكن المصيب المسدّد منهم قليل، وكما يحتاج السيف إلى ساعد قوي يحتاج القلم إلى فكر مسدّد، وإن أقلامنا اليوم كالسيوف التي قال فيها الأول:
فهذي سيوف يا عدي بن مالك
…
كثير ولكن أين بالسيف ضارب
وإن كثيرًا ممن يحترف هذه الحرفة بيننا اليوم ممن يصدق عليهم قول الشاعر:
تبًّا لدهر قد أتى بعجاب
…
ومَحا فنونَ الفضل والآداب
وأتى بكُتَّاب لو انبسطت يدي
…
فيهم رددتهمُ إلى الكُتَّاب
وإن منهم لأدعياء يتقحمون عرينًا نامت آساده، فكأنّ القائل عَناهُم بقوله:
لقيط في الكتابة يدّعيها
…
كدعوى آل حرب في زياد
فدع عنك الكتابةَ لستَ منها
…
ولو لَطَّخْتَ ثوبك بالمداد
أيها الإخوان: شتّان ما بين السماء والسماوة، فمن السخافة في عقل العقلاء أن يقال إنهما واحد لأنّ النسبة إلى كليهما في حكم اللغة واحدة.
أيها الإخوان الزملاء، لا يفهم الناس من نادي القلم أنه متحف للأقلام يضم أنواعها وأشكالها وتطورات جواهرها على الزمن من القصب إلى الذهب، وإنما يفهمون- على الأقل - أنه شيء غير ذلك، فما هو هذا الشيء؟ لقد أحسنتم وهُديتهم إلى الطيب من العمل حيث لم تقيدوه بمكان، فرفعتم بذلك أوهامًا منها أنّه نادٍ كالنوادي، وجئتم بكمال يظنّه الناس نقصًا، وهو أنه فكرة محلّها القلوب الواعية، ومظهرها الهمم الساعية، وبقي أن يعرف الناس آثارها الظاهرة.
إنّ على هذا النادي الفكري عهدًا مسؤولًا، إنْ غفل عنه قبل اليوم فلن تغفر له غفلته عنه بعد اليوم، ذلك العهد المسؤول هو أن يوجّه بطريق القدوة هذه القوافل الخابطة في غير هدى إلى الصراط القويم، يوجّهها إلى خدمة هذه الأمّة التي منها خلقهم وعليها رزقهم، يفهمها أن هذا الوطن مسلم منذ غرس فيه الفاتحون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم شجرة الإسلام وسقوها بدمائهم، فكيف يعلو فيه صوت ملحد أو صوت وثني؟
إنّ من السماجة بل من الخيانة أن يوكل خبر المسلمين بالتنقص من دينهم، وأن تطمس بينهم حضارة العرب- وأسبابها ما زالت في الأيدي- بحضارات قامت على الظلم والتسخير والوثنية، كل هذه الأدران لا ترحض إلّا بما تنضحه الأقلام الطاهرة القوية من حقائق وحكم وتوجيهات.
إنّ في العراق جفافًا لا تُحييه إلّا غيوث المداد من الأقلام الراشدة، وَوَاعجبًا كيف يُصيب العراق جفاف الثرى حتّى تجلب القوت الغالي من الخارج، وفيها الرافدان؟ أم كيف يُصيب العراقيين جفافُ الفكر والعقل حتّى يستعيروا المبادئ الضارة من الأجنبي، وفيهم القرآن يهدي، والعربية تُجدي، والتاريخ الإسلامي يُعيد ويُبدي؟
وواعجبًا لأبنائنا يتنكّرون لدينهم- وهو حق- وهم يعلمون أنّ اليهود حقّقوا حلمًا دينيًا صبروا له عشرات القرون، وأنّ الهنود يغارون للبقرة تُهان فتطيح الرقاب، وقد بنوا على ذلك دولة، فكيف لا يغار المسلم على حقائقه وحقوقه الدينية؟ وكيف لا يبني عليها دولةً تطاول الدول؟
أيها الزملاء الكملة: يجب عليكم أن توجّهوا بأقلامكم الهادية هذه الأقلام الضالّة، ثم تتوجّهوا جميعًا إلى الوجهة السديدة التي تنفع وتدفع وترفع وتسْفع وتشفع، واسمعوا منّي معمولات هذه العوامل: إن الوجهة السديدة هي التي تنفع القريب، وتدفع الغريب، وترفع القناع عن المريب، وتشفع للمنيب، وتسفع المعتدين بالناصية.
أيها الإخوان: إن القلم الذي نسبتم ناديكم إليه ذو نَسَب عريق في دينكم وفي آدابكم، فأيّ دين من الأديان السماوية مجّد القلم كما مجّده الإسلام أو وضعه في منزلة مثل المنزلة التي وضعه فيها القرآن؟ فقد وضعه في منزلة لا يرقَى إليها المتطاول، ولا تنالها يَدُ المتناول، نَسَبه الله إلى نفسه وجعله أحد الرواميز الأربعة إلى قوته وكمال قدرته وإحاطة علمه: العرش واللوح والكرسي والقلم، ثم زاده تشريفًا فأقسم به عز وجل فقال:{ن وَائقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} ، ولا يُقسم الخالق العظيم إلّا بمخلوق عظيم، وعظمة المخلوقات من عظمة آثاره في النفع والخير، ثم زاده رفعًا فجعله أداة تعليمه لخلقه:{عَلَّمَ بِائقَلَمِ، عَلَّمَ ائإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
إن الأشياء كلها في هذا الوجود تروج وتكسد وتصلح وتفسد وتقبح وتحسن إلّا القلم، فإن سوقه دائمًا إلى رواج، ولا يصحّ في الأذهان أن يأتي يوم تستغني فيه الأمم عن القلم، إلّا إذا صحّ في تلك الأذهان أن يأتي يوم تقلب فيه الأوضاع والحقائق، وتنتكس العقول إلى الوراء، ويخرج فيه الكون من تدبير الله إلى تدبير الشيطان، والإنسان من تدبير العقل إلى تدبير البطن، وينعكس فيه الفهم من نطق اللسان إلى نطق الدبر، ويومئذ يكون أفضل الذِّكر أن يقال كلّما ذُكِر الشيطان: رضي الله عنه.
أيها الإخوان: القوة اليوم بالأقلام، وبالجواري المنشآت في البحر كالأعلام، فإذا فاتتكم القوة الثانية فلا تفوتنكم القوة الأولى.
لقد سمعنا شوقي يخاطب الترك بقوله:
نحنو عليكم ولا ننسى لنا وطنًا
…
ولا سريرًا ولا تاجًا ولا عَلَما
هذي كرائمُ أشياءِ الشعوبِ فإنْ
…
ماتَتْ فكل وجودٍ يشبهُ العَدَما
وأنا أقول: إن كريمة كرائم الشعوب هي القلم المحرّر، واللّسان المعبّر، والعقل المدبّر، فإذا ضاعت هذه فالوجود هو العدم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.