الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعليق على كلمة الأستاذ الكبير
الشيخ محمد عبد اللطيف دراز *
-
1
-
الأستاذ الكبير محمد عبد اللطيف دراز عالم من غير الطراز المعروف، يمتاز بدقة الملاحظة، وسعة الأفق، وسداد التفكير، وتبرز فيه خلة من خلال أماثل العلماء وهي الوفاء مقرونًا بالنجدة، والشجاعة مصحوبة بالأناة، وينفرد بخصوصية يندر جدًا أن نراها على أكملها في عالم من علمائنا الدينيين، وهي العناية بدراسة أحوال المسلمين في جميع الأقطار، والافتتان بالبحث عن حركاتهم ونهضاتهم وعلائق بعضهم بالبعض، بحيث تحادثه في هذا الباب فتشرف منه على بحر متلاطم بالمعلومات الصحيحة المدققة عن المسلمين وحكوماتهم وجمعياتهم، ولا تجد له ثانيًا من صنفه في الحرص على الاتصال بكل من يزور مصر من رجال الإسلام وأقطابه في العلم والسياسة، وعلى التبسّط معهم في السؤال والتقصّي في البحث والمدارسة.
ولهذه الميزات في أستاذنا الكبير تتّجه إليه الأنظار دائمًا لرئاسة الجمعيات الإسلامية الكبيرة في مصر، وتتوارد عليه الطلبات لعضوية هذا النوع من الجمعيات خارج مصر، وهو اليوم رئيس جمعية الكفاح لتحرير الشعوب الإسلامية وعضو في الكثير من الجمعيات والمؤتمرات الإسلامية، وقضى من عمره سنوات في إدارة الأزهر ثم في الوكالة، فكان في إدارته حازمًا وكان في وكالته أحزم.
بحكم هذه الخصائص التي أصبحت له ملكات تصدر عنها أعماله نجده أعرف إخواننا العلماء الشرقيين بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، يعرف عنها وعن رجالها- وهو في مصر- ما لا يكاد يعرفه الجزائري إلا بالدراسة والاتصال والعناية المقصودة، وزاده الاتصال بالأستاذ الورتلاني- خمسة عشر عامًا- اطّلاعًا على حقائقها وفقهًا في دقائقها.
* «البصائر» ، العدد 288، السنة السابعة من السلسلة الثانية، 8 أكتوبر 1954.
وكما يعرف الأستاذ دراز عن جمعية العلماء كثيرًا تعرف هي عنه أكثر، وليست معرفة جمعية العلماء به جديدة بل ترجع إلى تاريخ نشأتها، فالسابقون الأولون من رجالها يعرفون مواقفه في الثورة المصرية 1919 ويعرفون شذوذه عن صنفه في اقتحام السياسة واصطلاء نارها ومزاحمة رجالها بمنكب قوي، على حين كان ذلك معدودًا عند علماء الدين نوعًا من الابتداع أو الابتذال، وقد انتخبه المجلس الإداري لجمعية العلماء الجزائريين بالإجماع رئيسًا شرفيًا لها منذ سنوات مع من انتخب لذلك من علماء الإسلام، فإذا تكلم عن جزئية دقيقة من الجزئيات الخاصّة بجمعية العلماء وعلاقاتها الداخلية فكما يتكلّم صاحب الدار عن داره أو كما يتكلم الشريك في علائقه مع شركائه.
…
وأبدأ
…
فأشكر للأستاذ الجليل تفضّله بهذه الملاحظات الخالصة، وأؤكد له أن موقعها مني بالخصوص كان موقع صدقة المؤمن الكريم من الفقير إليها، كما أحمده بقلبي ولساني وكل جوارحي على هذا التقدير الجميل لرجل من رجال جمعية العلماء ومفخرة من مفاخرها، تعده- وان قصرت في حقّه- جيشًا لا رجلًا، وعقيدة مجسّمة لا شخصًا، وأَعتبر أن هذا التقدير مصروف لجمعية العلماء في شخص قطب من أقطابها وسابق من سباقها.
وأشكره شكرًا مكرّرًا على هذا النوع اللطيف من العناية بجمعية العلماء في معرض يتراءى بلونين، عتاب وتقرير، وبأسلوب يبدو بصبغتين، نصح وتقدير، وهذه طريقة لا يحسن مثلها إلا أمثال الأستاذ حفظه الله.
أما ما نعاه الأستاذ الكبير علينا متفضلًا فهو حق لا شك فيه، وأنا المسؤول الأول عنه بحكم رئاستي لهذه الحركة التي وجّه الأستاذ إليها لومه وعتابه، فكما أتحمّل على إخواني واجباتها بقدر استطاعتي أتحمّل مسؤولياتها بما فوق استطاعتي، وقد أوقعنا الشاعر- سامحه الله- في الحرج بقوله:
وإن رئاسة الأقوام فاعلم
…
لها صعداء مطلعها طويل
أقدّم بين يدي تعليقاتي الاعتراف بالتقصير في الاهتمام بالأستاذ الفضيل وأقرّر للحق والإنصاف أنه طالما وخزني ضميري حينما أشعر بهذا التقصير في المواقف التي يجب فيها الاهتمام به كأيام محنته، فأبثّ مَن حولي من الإخوان هذا الشعور فأجد شعورهم مساوقًا لشعوري. وكل ما أذكره الآن من المعاذير- على ضعفها- هو الغفلة والتواكل والاعتماد على ما في القلوب والاطمئنان إلى أن الفضيل غني بالقلوب المحيطة به وبالنفوس المهتمّة بشأنه، وربّما خطر في بال أحدنا أننا أحوج إلى اهتمامه بنا منه إلى اهتمامنا به.
هذه أعذار أؤكد أنها واقعة وأعتقد أنها واهية، فالغفلة نقيصة وإن لم يبرأ منها أحد فلا تنهض عذرًا عن الحقوق الأدبية ذات الأثر النفسي العميق وبقية الأعذار تتفاوت في وجاهتها ووزنها وقبول العقول لها.
وإذا قصر إخوان الفضيل في جنبه أو قصرت الجزائر كلها، فما ذلك بالذي يضير الفضيل أو ينقص من قيمته شيئًا وإنما يضير المقصّرين، لأنهم يحرمون من ثمرات الاتصال الممتع به، وما هي بالقليلة. ففي الاتصال الكتابي وقوف على الحقائق ومثارات للبحث والسؤال والجواب والاستفتاء والعرض والكشف عن الغوامض، وفيه أبواب من القول تفتح أبوابًا، وأسباب تستتبع أسبابًّا، وما انتقلت العلوم من قطر إلى قطر إلا بذلك الأسلوب الذي كانوا يدعونه المراجعات، إذ كانت تغني كثيرًا عن المثافنة والتلقّي والتلقين.
وكثيرًا ما أطفأ الاتصال الكتابي نائرة وسفر بالرحمة بين قلبين وصدّ نفسًا عن هواها وجلا عن وجه رأي، وعن نفسي أتحدّث، فقد اكتنفتني- وأنا بالجزائر- في حدود سنة 1949 أحوال ضاق بها صدري وصبري فهممت أن ألقي حبل الجمعية على غاربها وأهجر الإخوان والأعوان وأنقطع للتأليف، ووافق طفح النفس بالاغتمام أن كان بين يديّ كتاب من الفضيل يتقاضى جوابه فكتبت الجواب وأنا في تلك الحالة، وشرحت له في الأسطر الأخيرة من الرسالة بعض الأسباب التي أدّت بي إلى تلك الحالة وذكرت له ما عقدت عليه العزم من التخلّي لا على وجه المشورة بل على وجه الإخبار بشيء مفروغ منه، فجاءني جواب الأستاذ يثنيني عن تلك العزيمة بأسلوب من الرأي أخذ نفسي أخذة السحر ومسح منها تلك العزيمة المصمّمة مسح السوافي للرسوم، وبتّ وفي النفس هم يعتلج، فأصبحت بفعل تلك الرسالة أو بفضلها صاحي القلب من تلك الدواعي كلها، ولقد قرأت كثيرًا للأدباء القدماء في باب سل السخائم ونقض العزائم، وفيه العجب العاجب من الافتنان في ضروب الاقتدار على ثني أعنّة النفس وصرف أهوائها من جو إلى جو بسحر البيان، ومن ألطف ما قرأت تأثيرًا وأدقّه تعبيرًا قول أديب أندلسي يثني عزيمة عالم عن الرحلة إلى الشرق:
أشمس الغرب حق ما سمعنا
…
بأنك قد سئمت من الإقامه
وأنك قد عزمت على رحيل
…
بحق الله لا تقم القيامه
ونفثة السحر والتأثير أنه هيّأ لمراده بقوله: "أشمس الغرب" ثم ختم بقوله: "لا تقم القيامة" إشارة إلى أن طلوع الشمس من مغربها من علامات قيام الساعة.
قرأت كثيرًا من هذا النوع ومثّلت نفسي معنيًا به فما وجدت له من التأثير ما وجدت لرسالة الفضيل إلي، وليس مرجع التأثير إلى البلاغة التي يتأثر بها أمثالي بل قوة الرأي وسداد الحجة، ولا أذكر أن كلمة ثنت عزيمتي عن يشيء هممت به إلا كلمة الفضيل هذه، وكلمة
قبلها لأخينا الأستاذ الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله، فقد وقعت مرة في هم برّح بي فصمّمت على الخروج من الجزائر، وزارني بمدينة تلمسان وأنا مصمّم فكشفت له عن ذات صدري، فارتاع ورأى أن إقناعي بالكلام المعتاد لا يثني عزمي فسكت قليلًا وقال: إن خروجك يا فلان أو خروجي يكتبه الله فرارًا من الزحف. فوالذي وهب له العلم والبيان لقد كانت كلمته تلك شؤبوبًا من الماء صبّ على لهب.