الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"واحتج عليه المصنف تبعا للإمام بأنّ العلية أمر نسبي بين العلّة والحكم"
(1)
.
"وقد اختلف في هذا النوع واختار المصنف أنَّه حجة تبعًا لتاج الدين صاحب الحاصل"
(2)
.
"واعلم أنّ تعبير المصنف عمّا ليس بمناسب ولا مستلزم للمناسب بالطرد، موافق لعبارة الإمام وأتباعه ومن قبلهم إمام الحرمين والغزالي وغيرهما"
(3)
.
تِلْكُم أمثلة لا ندعي فيها الحصر، فقد أغفلنا الكثير منها، وهي بحاجة إلى استقراء تام، وتتبع شامل، لكن ارتأينا الاكتفاء بالقليل لأنه دال على الكثير. فما ذكر قليله فكثيره يأخذ الحكم نفسه.
تعامله مع القضايا اللغوية والنحوية والأدبية
.
القضايا اللغوية والنحوية تعدّ رافدًا هاما من روافد علم أصول الفقه، بل هي مرتكزه، فمعظم مباحثه تقوم على فهم هذه اللغة التي نزل بها الوحي بشقيه جليه وخفيه، لذا لا يمكن لأي شخص أراد أن يركب عباب هذا البحر دون أن يعد له العدّة، وعدته اللغة العربية، فهي سفينة النجاة التي توصله إلى برِّ الأمان، وبذلك يسهل عليه فهم المسائل العويصة في
(1)
ينظر: ص 2555.
(2)
ينظر: ص 2621.
(3)
ينظر: ص 2360 - 2361.
أصول الفقه. وصاحبنا لا يخفى على كل ذي لب أنه الإمام في هذا الميدان، فكتابه الأشباه والنظائر، خصص فيه المسائل ذات الصلة باللغة العربية وتم فيها تخريج الفروع على الأصول، وكذلك في كتابه الطبقات الزاخر بمواد دسمة من الأدب واللغة والنحو والصرف، ولم يخل كتابه الإبهاج من نكت في العربية وعلومها، فقد اهتم رحمه الله بالقضايا اللغوية والنحوية والأدبية، تمثيلًا واستشهادًا، وكان ذلك واضحًا في مباحث الألفاظ، والمباحث المتعلقة بالحروف، حيث كثر النقل عنهم، وبذكرنا للأمثلة تتضح الفكرة أكثر فأكثر:
مثال: "إجماع النحاة. قال أبو علي الفارسي: أجمع نحاة البصرة والكوفة على أنها للجمع المطلق. وذكر سيبويه في سبعة عشر موضعًا من كتابه أنّها للجمع المطلق. . . وقد سبق النقل عن الفراء، ولكذلك قال شيخنا أبو حيان في الارتشاف: ما نقله السهيلي والسيرافي إجماع النحويين كوفيهم وبصريهم على ذلك. ."
(1)
.
مثال: "وأما ورودها [أي الباء] للتبعيض فقد ذكره ابن مالك، ومن شواهده:
شرب النزيف ببَرد ماء الحَشْرَج
أي: من برد، وقال ذلك في التذكرة الفارسي، وهو مذهب الكوفيين تبعهم فيه الأصمعي والقتبي في قوله: شربن بماء البحر، وتأوله ابن مالك
(1)
ينظر: ص 871، 873.
على التضمين، أي روين بماء البحر. . . . احتج من زعم أنها ليست للتبعيض بأن أبا الفتح ابنَ جني من أئمة اللغة. . . . وقد وافق ابن جني على ذلك صاحب البسيط فقال: لم يذكر أحد من النحويين أن الباء للتبعيض"
(1)
.
مثال: "ولهذا قال ابن دريد: سألت أبا حاتم عن معنى قولهم: بَسَنٌ أي: في قولهم حَسَنٌ بَسَنٌ، فقال: لا أدري ما هو. والتحقيق أن التابع يفيد التقوية، فإن العرب لا تضعه سُدًى، وجَهْل أبي حاتم بمعناه لا يضره، بل مقتضى قوله: إنه لا يدري معناه: أن له معنى وهو لا يعرفه"
(2)
.
مثال: "وقد اختار هذا المذهب أعني إنكار المترادف أبو الحسين أحمد بن فارس في كتابه الذي ألفه في فقه اللغة والعربية، وسنن العرب وكلامها، ونقله عن شيخه أبي العباس ثعلب، وهذا الكتاب كتب منه ابن الصلاح نكتًا منها هذه، وعلقت أنا ذلك من خط ابن الصلاح فيما علقته من خطه. . ."
(3)
.
مثال: "واعلم أن (من) قد تدخل لابتداء الغاية. . . . وبهذا قال ابن بابشاذ وابن النحاس، وعبد الدائم القيرواني، وابن مالك. . . . وقد زعم الأحفش الصغير والمبرد وابن السراج، والسهيلي وطائفة: أن (من) لا تكون إلا لابتداء الغاية، وصححه ابن عصفور"
(4)
.
(1)
ينظر: ص 908 - 909، 910.
(2)
ينظر: ص 617.
(3)
ينظر: ص 619 - 620.
(4)
ينظر: ص 897 - 898، 899 - 900.
مثال: "قلت: وهذا الذي أوردناه من التفرقة بين تقدم النفي على كلَّ، وتأخره عنها هو الذي ذكره البيانيون"
(1)
.
هذا باختصار ما أورده من آراء لأهل اللغة والنحاة، أمّا الأدب، فقد حلّى شرحه بكثير من الشواهد الشعرية، وأقوال العرب، وضبط الكلمات العربية، لكن الذي يلاحظه المتصفح لشرح الإمام تاج الدين السبكي، هو أنه لم يكن شرحه على وتيرة واحدة، جافًا كما هو دأب الأصوليين، فالمعروف أن أصول الفقه أوّل ما دونه الإمام الشافعي رحمه الله ألفه في ثوب أدبي رفيع، وقد نبه إلى ذلك محققه أحمد شاكر، ثم ما فتئ يتناقص، ودخلت عليه الألفاظ الاصطلاحية، والتعابير الكلامية والمنطقية، فذهب رونقه، وصار كجلمود صخر حطه السيل من عل، حتى أضحى مستعصيًا على أهل الفن، نهيك عن المتطفلين على هذا العلم. لذا فإن الشيخ حكى شيخ مذهبه الإمام المطلبي، فلا يترك فرصة سانحة ليوشح هذا الشرح بعبارة أدبية إلى وفعل، فكان كريشة فنان، أو أداة من أدوات النحاتين، فوضع فسيفساء من العبارات الأدبية الرفيعة على جدران هذا العلم، ورسم على الزجاج المعشق، أشكالا وألوانا من الأدب الرقيق. وخاصة إذا كان أسلوبه مقتبسًا من كتاب الله فيزيده رونقا وتألقًا، ولنضرب بعض الأمثلة على ذلك.
المثال الأول: نأخذه من ديباجته التي دبج بها شرحه وهي وإن كانت طويلة بعض الشيء إلا أنها معبرة، وتعطي الصورة الحقيقية التي وسمتها به
(1)
ينظر: ص 1243.
فانظر إليه حين يقول: ". . . وتخلص فتخلص قائلها من الأهوال يوم يموت ويوم يبعث حيًا، دائمة ما افتقر فرع إلى أصله، واحتاج المجادل إلى تجويد نصه، كما يحتاج المجالد إلى تجريد نصله، باقية لا ينعكس طردها، ولا يشتبه محكمها بترهات الملحد وزخرف قوله. ورضي الله عن التابعين لهم بإحسان المقتفين آثارهم الحسان، وخص بمزيد الرضوان العلماء الحامين حمى الشريعة أن يضام أو يضاع، الوارثين بالدرجة الرفيعة هدي النبوة الذي لا يرام ولا يراع. الوافدين على حياطته بالهمة الشريفة حتى لا ينفك أو يشان ويشاع، لا سيما الإمام المطلبي مستخرج علم أصول الفقه محمد بن إدريس الشافعي الذي ساد المجتهدين بما أصل وأنشأ، وسار نبأ مجده والبرق وراءه يتحرق عجلة وهو أمامه على مهل يتمشى، وساق إلى سواء السبيل بعلومه التي غشاها من تقوى الله ما غشى، وقدس أرواح أصحابه الذين زينوا أسماء العلوم من أنفسهم بزينة الكواكب، وهاموا باتباع مذهبه المذهب وللناس فيما يعشقون مذاهب. وذادوا عن بيان ما أجمله وإيضاح ما أشكله، والعلوم عطايا من الله ومواهب رضا يتكفل بنجاة كل منهم ونجاحه ويمر بروض الإيمان فيتعطر بأنفاسه رياحه، ويفخر عقد الجوزاء إذا كان درة في وشاحه.
أما بعد، فإن العلوم وإن كانت تتعالى شرفًا وتطلع في أفق الفخار من كواكبها شُرَفا فلا مرية في أن الفقه نتيجة مقدماتها، وغاية نهاياتها وواسطة عقدها، ورابطة حلها وعقدها، به يعرف الحرام من الحلال، وتستبين مصابيح الهدى من ظلام الضلال وهيهات أن يتوصل طالب، وإن
جد المسير إليه أو يتحصل بعد الإعياء والنصب عليه إلا بعد العلم بأصول الفقه والمعرفة والنهاية فيه فإنه صفته، وكيف يفارق الموصوف الصفة، وقد نظرنا فلم نر مختصرًا أعذب لفظًا وأسهل حفظًا، وأجدر بالاعتناء وأجمع لمجامع الثناء من كتاب "منهاج الوصول إلى علم الأصول" للشيخ الإمام العالم العلامة قاضي القضاة ناصر الدين البيضاوي بيض الله وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وروض تربته بغمام الغفران حتى يأتي يوم القيامة وما ثلم جانبه ولا فض فوه؛ فإنه موضوع على أحسن منهاج محمول على الأعين وليس له منها من هاج بعبارة أعذب من ماء السحاب وألعب من ابنة الكرم بعقول أولى الألباب، آل فضل البلاغة إليه، وآلى فضل الخطاب ألا يتمثل إلا بين يديه، وقد رأيت شراحه على كثرتهم مالوا إلى الإيجاز وقالوا وكأنما ضاق بهم الفضاء الواسع فعد مقالهم في الألغاز قنع كل منهم بحاجة في نفسه من اسم التصنيف قضاها، وجمع نفسه على ما شف به سجل الكتاب من تقارير، إذا أنصف من نفسه لا يرضاها، فشروحهم تحتاج إلى من يشرحها وكلماتهم تريد بسطة في العلم والجسم توضحها.
وقد كان والدي أطال الله عمره شرع في وضع شرح عليه أبهى وأبهج من الوشي المرقوم، وأسرى وأسرع إلى الهداية من طوالع النجوم عديد شهب لائحه ورسل سحب سائحه وسماء علم يهتدى بكوكبه، وعلاء قدر أخذ بلمة الفخر، ولم يزاحمه بمنكبه، لا تنقشع عارضته، ولا نتوقع معارضته خضعت رقاب المعاني لكلامه، وخشعت الأصوات وقد
رأته جاوز الجوزاء وما رضيها دار مقامه لكنه أحسن الله إليه ما غاص في بحره إلى القرار، ولا أوصل هلاله إلى ليلة البدار بل أضرب عنه صفحًا بعد لأي قريب وتركه طرحًا وهو الدر اليتيم بين إخوانه كالغريب، وقد حدثتني النفس بالتذييل على هذه القطعة، وأحاديث النفس كثيرة وأمرتني الأمارة بالتكميل عليها، ولكني استصغرتها عن هذه الكبيرة، وقلت للقلم أين تذهب، وللفكر أين تجول، أطنب لسانك أم أسهب، ووقفت وقفة العاجز والنفس تأبى إلا المبادرة بما به أشارت وجرت على تيارها منادية أئت بما أمرتك بما استطعت وتوارى اللسان وما توارت فلما تعارض المانع والمقتضي، وعلمت أن الحال إذا حاولت مجهودها قام لها العذر الواضح فيما استقبلته ومُضيٌّ أي مضيٍّ أعملت الفكرة في الدجنة والوجه والليل كلاهما كالح، وشرعت فيه وقلت لعل الغرض يتم ببركته، وبقصده الصالح وجردت همة ما ورد رائدها إلا وقد سئم من النشاط، ولا أغمد مهندها إلا وقد ترك ألف طريح على البساط، ولا عاد نصلها إلا وقد قضى المأمول، ولا فترت عزائمها إلا وقد حصلت على نهاية السول، وأعملنا هذه الهمة في مدلهم الديجور، وصرفنا قلمها بشهادة النجوم وفلكها يدور فلم تنشب ليالي أسبلت جلبابها وأرخت نقابها معدودة ساعاتها ممدودة بالألطاف الخفية أوقاتها، إلى أن انهزمت تلك الليالي ودارت الدائرة عليها، وجاء من النسيم العليل بشير الصبح متقدمًا بين يديها، فوافى الصباح بكل معنى مبتكر، وجلا عرائس بدائعه فشنف السمع وشرف البصر، وجاء كتابًا ساطعًا نور شمسه وشمس السماء في غروب، طالعًا في أفق الفخار
على أحسن أسلوب جائزًا لما يراد منه في كل طريقه جائزًا حقًا على مقالات المتقدمين والمتأخرين، وحسبك بمن مجازه حقيقة، فأسأل الله تعالى أن يعم النفع به، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم موجبًا للفوز لديه، وقد وصل والدي الشيخ الإمام جزاه الله الخير إلى مسألة مقدمة الواجب، ونحن نتلوه والله الموفق العين بخفي ألطافه، والمحقق لرجاء العبد بإسعاده وإسعافه"
(1)
.
والحقيقة أنها هذه المقدمة لا تحتاج مني إلى تعليق بل أترك كل ذي ذوق أن يتمعنها، وينظر في سبك أسلوبها الآخاذ.
مثال آخر: "أمّا الدليل على العلم في الأولى؛ فإنّه كلما زاد المجتهد علمًا وتدقيقًا، وكان نظره أتمّ تنقيحًا وتحقيقًا ووقوفه على الأدلة المزدحمة مستقيمًا، وإدراك وجه الازدحام فيها وكيفية الانفصال عنها عظيمًا، تكاثرت الإشكالات الموجبة للتوقف لديه وتزاحمت المعضلات بين يديه.
وأمّا في الدّين؛ فلم يكن ممن إذا ظهر له وجه الرجحان صمّم على مقالته الأولى، ولا قام بنصرتها وشال بضبعها حتى ينادي أولى لك فأولى، بل صرّح ببطلان تلك واعترف بالخطأ فيها وقصور النظر"
(2)
.
وهناك عبارات صغيرة، يذكرها الفينة بعد الأخرى، وكلما سنحت له الفرصة، فيقول مثلًا: "ذهبت شرذمة قليلون إلى امتناع
(1)
ينظر: ص 293 - 301.
(2)
ينظر: ص 2708 - 2709.