الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع: فصاحته وبلاغته
يقول الصلاح الصفدي رحمه الله: "وأما فنُّ الأدب فما احتاج مع أسماء كتبه وتصانيفه إلى بيان، وهي تشهد له بأدبه وذوقه. وأما الهجاء وفن الكتابة فكان ما يلحق فيه"
(1)
.
وقد ذكر ابنه التاج نماذج من شعره الذي يدل على باعه في الأدب، وقوة تمكنه في النظم، وبعضها نصائح لأبنائه، وبعضها زهد ورقائق، وما ورد في بعضها من غزل فهي على لغة الشعر التي لا تخفى، وطريقة العرب وعادتها في لغتها البليغة الفصحى، والشاعر المتمكن هو الذي يجيد كلَّ أضرب الشعر والبلاغة. ولذلك ما زال العلماء سلفًا وخلفًا ينظمون في شعر الغزل وغيره، دلالةً على براعتهم في هذا الفن لا غير، بل تصدير القصائد بالغزل عادة العرب، فهو مِنْ محسنات الشعر وطرائفه
(2)
.
(1)
انظر: أعيان العصر 3/ 427.
(2)
قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله: "وقد جمع الإمام الطبراني جزءًا حافلًا في غزل التابعين وتابعيهم، وذكر هو وغيره عن جماعة كثيرين من الصحابة أنهم سمعوه ولم ينكروه. والقاضي شريح والزبير بن بكار في "روضتيهما"، وعبد الله بن المبارك في "مرثيته" من الغزل الكثير ما يُتعجب منه. وكذا الشافعي رضي الله عنه. وفي "التهذيب": إن كان التشبيب في امرأة معينة (أي: غير زوجة) أو غلامٍ معين فُسِّق، وإلا فلا. . . . =
فمن شعره في الغزل:
قلبي مَلَكْتَ فما بِهِ
…
مَرْمَىً لواشٍ أو رَقِيبْ
قد حُزْتَ مِنْ أعْشارِهِ
…
سَهْمَ المُعَلَّى والرَّقِيبْ
(1)
يُحْيِيهِ قُرْبُكَ إنْ مَنَنْـ
…
ـتَ به ولَوْ مِقْدارَ قِيبْ
(2)
يا مُتْلِفِي بِبعادِهِ
…
عَنِّي أما خِفْتَ الرَّقِيبْ
(3)
= قال الأذرعيّ: الذي يجب القطع به أن تسمية مَن لا يدري مَنْ هي، وذِكْرُ محاسنها الظاهرة، والشوقُ والمحبةُ مِنْ غير فُحْشٍ ولا ريبةٍ لا يقدح في قائله، ولا يتحقَّقُ فيه خلاف، ومن ذلك تعارض الشعراء على ذكر ليلى وسَلْمى وسُعْدى والرَّباب وهند، وغير ذلك". كفَّ الرعاع عن محرّمات اللهو والسماع ص 275 (المطبوع مع الزواجر). ثم ذكر الهيتمي رحمه الله نقلًا عن النووي رحمه الله أن المساجد لا يجوز فيها مطلقًا إنشاد الأشعار التي فيها صفة الخمر، أو ذكر النساء، أو المرد. يعني: ولو كانت لامرأة غير معينةٍ أو أمردٍ غير معين؛ لحرمة المساجد. انظر: كف الرعاع ص 276.
(1)
سهم المُعَلَّى والرقيب سهمان لقداح المَيْسِر، فللمُعَلَّى سبعة أنصباء، وللرقيب ثلاثة، فإذا فاز الرجل بهما غلب على جَزُور (أي: جمل) الميسِر كلِّها، ولم يطمع غيرُه في شيء منها، وهي (أي: جزور الميسر) تُقْسَمِ على عشَرة أجزاء. والمعنى: أن هذا الحبيب ضَرَب بسهامه على قلبي فخرج له السهمان اللذان يحوز لهما كل أعشار القلب، فغلبني على قلبي كلِّه، وفتنَنِي فملكني. انظر: لسان العرب 4/ 573، مادة (عشر)، 1/ 425، مادة (رقب).
(2)
في اللسان 1/ 693، مادة (قوب): "القاب: ما بين المَقْبِضِ والسِّيةِ، ولكل قوس قابان وهما بين المَقْبِضِ، والسِّيَة. والقاب والقيب بمعنى واحد، كما هو ظاهر كلام صاحب اللسان في الصفحة المذكورة.
(3)
انظر: الطبقات الكبرى 10/ 179.
ومن شعره في الغزل ما قاله في مَطْلع قصيدته في الشِّطْرَنج
(1)
حيث يقول ابنه التاج رحمه الله: "أنشدنا الشيخُ الإمام لنفسه قصيدتَه التي نظمها في الشِّطْرَنج، عند اقتراح الشيخ أبي حَيَّانَ ذلك على أهل العصر، على زِنَةٍ خاصة، ومن نبأ ذلك أن أبا حيان اقترح أن يَنْظِم الشعراء على عَرُوض قول ابن حَزْمُون
(2)
وقافيةِ قولهِ:
إليك إمامَ الخَلْقِ جُبْتُ المَفاوِزَا
…
وخَلَّفْتُ خَلْفِي صِبْيَةً وعَجائِزَا
وشَرَط أبو حَيَّان على مَنْ عارَضه أن يتغَزَّل، ثم يذكر الغرضَ ثانيًا، ثم يمدحه ثالثًا.
فمَطْلَع قصيدة الشيخ الإمام:
أخا العَذْلِ لا تُفْرِطْ وكُنْ مُتَجاوِزَا
…
فما كُلُّ عَذْلٍ في المحبَّةِ جائِزَا
ولا كُلُّ ذي وَجْدٍ يُطِيقُ احتمالَهُ
(3)
…
وإن كان ذا أيدٍ
(4)
شديدًا مُبَارِزَا
ولا كُلُّ صَبٍّ
(5)
يَحْسَبُ الغَيَّ رُشْدَهُ
…
وكيف ومِثْلِي مَنْ يَفكُّ المَرامِزَا
(1)
في المصباح 1/ 335: "الشطرنج: مُعَرَّبٌ، بالفتح، وقيل بالكسر، وهو المختار. قال ابن الجواليقي في كتاب ما تلحن فيه العامة: ومما يكسر والعامَّةُ تفتحه أو تضمه وهو الشطرنج، بكسر الشين، قالوا: وإنما كُسِر ليكون نظير الأوزان العربية، مثل: جِرْدَحْل، إذ ليس في الأبنية العربية فَعلَل بالفتح، حتى يُحمل عليه".
(2)
هو علي بن حزمون، أو الحسن.
انظر: المعجب ص 370، والمغرب 2/ 214.
(3)
الوَجْد: الحب. انظر: القاموس 1/ 343، مادة (وجد)، والمعنى: ليس كل ذي حبٍّ يُطيق احتمال العَذْل، أي اللوم.
(4)
الأَيْد: القوة. انظر القاموس 1/ 275، مادة (آد).
(5)
الصَّبابة: الشَّوْق. وقيل: رقته وحرارته. وصَبَبْتُ إليه صَبابةً فأنا صَبٌّ، أي: عاشق مشتاق. انظر لسان العرب 1/ 518.
أما نظمه في نصائح أبنائه فهي بديعة مفيدة، وما أحوجنا إليها، فمن ذلك قصيدته التي يخاطب بها ابنه الأكبر أبا بكرٍ محمدًا
(1)
رحمه الله، وهي طويلة، منها:
أَبُنَيَّ لا تُهْمِلْ نَصِيحَتِيَ التي
…
أوصيكَ واسْمَعْ مِنْ مقالي تَرْشُدِ
احفظ كتاب الله والسُّنَنَ التي
…
صَحَّتْ وفِقْه الشافعيِّ محمَّدِ
واعلمْ أصولَ الفقه عِلْمًا مُحْكَمًا
…
يَهْدِيكَ للبحثِ الصحيحِ الأيِّدِ
وتَعَلَّمِ النحوَ الذي يُدْنِي الفَتَى
…
من كلِّ فَهْمٍ في القُرَانِ مُسَدَّدِ
واسلك سبيلَ الشافعي ومالكٍ
…
وأبي حنيفة في العُلومِ وأحمدِ
وطريقةَ الشيخ الجُنَيْدِ وصَحْبِهِ
…
والسالكينَ طريقَهُمْ بِهِمُ اقْتَدِ
واتْبَعْ طريقَ المصطفى في كلِّ ما
…
تأتي به من كلِّ أمرٍ تَسْعَدِ
(2)
(1)
يقول الشيخ محمد الصادق حسين عن محمد بن علي رحمهم الله تعالى: هو أكبر أولاد علي بن عبد الكافي، لكنه مات قبل أن يكون له شأن، ولم نقف على شيءٍ من أخباره سوى ما جاء في الطبقات الكبرى عَرَضًا في ترجمة علي بن عبد الكافي من أن محمدًا هذا كان أكبر أبناء أبيه، وإن أباه خاطبه بقصيدة فيها نصحٌ وإرشادٌ إلى ما يجب عليه من العناية بالدراسة العلمية والصوفية. . . الخ .. اهـ. انظر: البيت السبكي ص 65 - 66.
(2)
انظر هذا البيت، لتعلم أن هذا الإمام وأمثاله من أهل التصوف السني لا البدعي، والعبرة بالحقائق لا بالأسماء، والكلام في هذا كثير طويل، وكتب التراجم لأئمة الحديث والجرح والتعديل طافحة بالثناء على جملة من المشهورين بالتصوف، ونسبتهم للسنة، وحسبك بالذهبي، وابن كثير، وابن رجب، وابن العماد الحنبلي، وغيرهم، ومَنْ شك فليراجع. يقول الإمام الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء 15/ 410: "فإنما التصوف والتألُّه والسُّلوك والسَّيْر والمحبة ما جاء عن أصحاب =
واقْصِدْ بِعلمِكَ وجْهَ ربِّكَ خالصًا
…
تَظفَرْ بسُبْل الصالحينَ وتَهْتَدِ
واخْشَ المُهَيْمِنَ وأتِ ما يَدْعُو إليْـ
…
ـه وانْتَهِ عما نَهَى وتَزَهَّدِ
وارفع إلى الرحمن كُلَّ مُلِمَّةٍ
…
بِضَرَاعَةٍ وتَمَسْكُنٍ وتَعَبُّدِ
واقطَعْ عن الأسبابِ قلبَكَ واصْطَبِرْ
…
واشكُرْ لمَنْ أَوْلاكَ خيرًا واحْمَدِ
وعليكَ بالورعِ الصحيحِ ولا تَحُمْ
…
حولَ الحِمَى واقْنتْ لربِّكَ واسْجُدِ
وخذِ العلومَ بهمةٍ وتَفَطُّنٍ
…
وقَرِيحَةٍ سَمْحاءَ ذاتِ تَوَقُّدِ
= محمدٍ صلى الله عليه وسلم من الرضا عن الله، ولزومِ تقوى الله، والجهادِ في سبيل الله، والتأدبِ بآداب الشريعة من التلاوة بترتيلٍ وتدبرٍ، والقيامِ بخشيةٍ وخشوع، وصومِ وقتٍ، وإفطار وقت. . . والعالمُ إذا عَرِيَ من التصوف والتألُّه فهو فارغ، كما أن الصوفيَّ إذا عَرِيَ منْ علم السُّنة زَلَّ عن سواء السبيل". ويقول الإمام ابن رجب رحمه الله في الذيل على طبقات الحنابلة 3/ 64، في ترجمة أبي إسماعيل الهرويّ: "وكان على حظٍّ تامٍّ من العربية ومعرفة الأحاديث والأنساب والتواريخ، إمامًا كاملًا في التفسير والتذكير، حسن السيرة والطريقة في التصوف ومباشرة التصوف ومعاشرة الأصحاب الصوفية، مظهر السنّة داعيًا إليها، محرِّضًا عليها". وقال عنه أيضًا:"وله كلام في التصوف والسلوك دقيق، وقد اعتنى بشرح كتابه "منازل السائرين" جماعةٌ، وهو كثير الإشارة إلى مقام الفناء في توحيد الربوبية، واضمحلال ما سوى الله تعالى في الشهود لا في الوجود". الذيل على الطبقات 3/ 67. وانظر ترجمته لعبد القادر الجيلاني في الذيل 3/ 290. وأئمة الصوفية السنيين ليسوا بالمعصومين، فليس معصومًا إلا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأمثاله من النبيين صلوات الله وسلامه عليهم، وحصول بعض الخطأ من بعض أئمة الصوفية لا يُخرجهم عن السنة، كما لا يُخرج بعضُ الخطأ أحمدَ والشافعيَّ ومالكًا وأبا حنيفة وغيرهم عن السنة، والتشدد لا يصدر إلا عن جاهل أو متعصِّب لرأيه، وهؤلاء لا كلام معهم، إنما الكلام مع أهل الإنصاف والاعتدال، والله المسؤول أن يظهر الحق ويبطل الباطل، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير.
واستنبِطِ المكنونَ من أسْرارِها
…
وابحث عن المعنى الأَسَدِّ الأَرْشَدِ
وعليكَ أربابَ العُلُومِ ولا تَكُنْ
…
في ضَبْطِ ما يُلْقُونَهُ بمُفَنِّدِ
وإذا أتَتْكَ مقالةٌ قد خَالَفَتْ
…
نَصَّ الكتاب أو الحَديثِ المُسْنَدِ
فاقْفُ الكتابَ ولا تَمِلْ عَنْهُ وقِفْ
…
مُتَأَدِّبًا مع كل حَبْرٍ أَوْحَدِ
فلُحُومُ أهلِ العلمِ سُمَّتْ للجُنَا
…
ةِ عليهمُ فاحفظْ لسانَك وابْعُدِ
هَذِي وصِيَّتيَ التي أُوصِيكَهَا
…
أكرِمْ بها مِنْ والدٍ مُتَوَدِّدِ
ومِنْ بديع شعره هذه القصيدة الغراء التي حُقَّ لطلاب العلم أن يحفظوها، لا سيما في هذا الزمان الذي استخف أهلُه بالعلم وأهله، وفُتِنُوا بالدنيا ومناصبها، وأصبح الرجل الحقير الفاسد لماله ومنصبه مبجلًا معظمًا، والعالم التقي الفقير المتواضع مهانًا مبتذلًا، فوا أسفًا ثم ألف فوا أسفا، مصابٌ جَلَلٌ، ونقصٌ في الدين وزلل، وازدراء لخلفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضلال وخطل، ولكن عزاء العاقلِ الحصيفِ مقولةُ الشافعي رضي الله عنه حيث يقول:
ومنزلة الفقيه مِن السفيه
…
كمنزلة السفيه مِن الفقيه
فهذا زاهدٌ في قُرْب هذا
…
وهذا فيه أزهدُ منه فيه
(1)
وأين أهل هذا الزمان المفتونون بالمناصب من قول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم "إنَّ مِنْ إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحاملِ القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرامِ ذي السلطان المقسِط" أخرجه
(1)
انظر: المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي ص 367.
أبو داود عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وإسناده حسن. انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير 2/ 529 وماذا بعد إهانة العلماء إلا سيادة الجهال، وماذا بعد سيادة الجهال إلا ضياع الملة والدين، وماذا بعد ضياع الملة والدين إلا هدم منار الأرض وهلاك الحرث والنسل، نسأل الله السلامة.
وقبل أن أُورد قصيدة السبكي رحمه الله أذكر سببها، فهو ظريف لطيف، وفيه كرامة تحقَّقَت للتقي رحمه الله. يقول التاج رحمه الله:
"نقلتُ من خط أخي شيخنا شيخ الإسلام أبي حامدٍ أحمد
(1)
، سلمه الله تعالى أن الوالد أنشد هذه الأبيات حين أُخِذت منه مشيخة جامع طُولُون، في سنة تسعَ عشرةَ، وأن والدتَه الجدَّةَ ناصرِيّة أَسِفَتْ عليه، وكان ذلك بعد ولادة الأخ أبي حامد، قال فكان الوالدُ يقول لها: يا أمُّ، وما أدراكِ أن هذا الميعادَ يعود، ويكون رزقَ هذا المولود، فعاد إليه في سنة سبعٍ وعشرين، واستمر بيده إلى سنة تسعٍ وثلاثين، لما وَلِيَ قضاء الشام، واستمر باسم الأخ أبي حامد، وهو الآن بيده، جَعَله الله كلمةً باقيةً في عَقِبِه"
(2)
.
(1)
هو أحمد بن علي بن عبد الكافي السبكي، أبو حامد بهاء الدين. ولد سنة 719 هـ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:"كانت له اليد الطولى في علوم اللسان العربي والمعاني والبيان، وله "عروس الأفراح شرح تلخيص المفتاح" أبان فيه عن سعة دائرةٍ في الفن. . وكان أديبًا فاضلًا متعبِّدًا كثير الصدقة والحج والمجاورة، سريع الدمعة". توفي مجاورًا بمكة سنة 773 هـ.
انظر: الدرر 1/ 210، البدر 1/ 82.
(2)
انظر: الطبقات الكبرى 10/ 181.
أما القصيدة فهي:
كمالُ الفتى بالعلم لا بالمَناصِبِ
…
ورُتْبَةُ أهلِ العلمِ أَسْنى المراتبِ
هُمُ وَرِثُوا عِلمَ النَّبِيِّينَ فاهْتَدَى
…
بِهِمْ كلُّ سارٍ في الظلامِ وسَارِبِ
ولا فخرَ إلا إرثُ شِرْعَةِ أحْمَدٍ
…
ولا فضلَ إلا باكتسابِ المناقِبِ
وبحثٌ وتدقيقٌ وإيضاحُ مُشْكِلٍ
…
وتحرير بُرهانٍ وقطْع مُغالبِ
وإحكامُ آياتِ الكتاب وسُنَّةٍ
…
أتَتْ عن رسولٍ من لؤيِّ بنِ غالِبِ
إذا المرءُ أمسَى للعلومِ مُحالِفًا
…
أضاءَ له منها جميع الغَيَاهِبِ
(1)
ويَنْزاحُ عَنْهُ كلُّ شَكٍّ وشُبْهَةٍ
…
وتبدو له الأنوارُ من كلِّ جانِبِ
هي الرتبةُ العُلْيا تَسَامَى بأهلِها
…
إلى مُسْتَقَرٍّ فوقَ مَتنِ الكواكبِ
فَدُونَكَها إنْ كنتَ للرشدِ طالبًا
…
تنلْ خيرَ مرجُوِّ الدُّنَا والعَواقِبِ
ولا تَعْدِلَنْ بالعلمِ مالًا ورفعةً
…
وسمْرَ القَنَا أو مُرْهَفَاتِ القَواضِبِ
(2)
وهَبْكَ انزَوَتْ دُنْيَاكَ عَنْكَ فلا تُبَلْ
…
فَعَنْها لقد عُوِّضت صَفْوَ المَشارِبِ
فما قَدْرُ ذي الدُّنْيا وما قَدْرُ أهلِها
…
وما اللهوُ بالأولاد أو بالكَواعِبِ
إذا قِسْتَ ما بين العلومِ وبينَها
…
بعقلٍ صحيحٍ صادِقِ الفِكْرِ صائِبِ
(1)
أي: الظلمات، جمع غَيْهَب. انظر: اللسان 1/ 653، مادة (غهب).
(2)
أي: لا تساوي بالعلم أيَّ شيءٍ غيره، فهو أشرف الأشياء، فهو خَلَفٌ لا خَلَفَ له، عِوَضٌ لا عِوَض له، سابِقٌ لا سابِق له، فلا يشغلنك أيها العاقل شاغل عنه: من جمع مالٍ، أو تحصيلِ رفعةٍ بمنصبٍ، أو تَلَهٍّ بسُمْر القَنَا، أي: الرماح، أو السيوف المرهفة اللطيفة الدقيقة. انظر: لسان العرب 15/ 203، مادة (قنا): 1/ 679، مادة (قضب)، 9/ 128، مادة (رهف).
فما لذةٌ تَبقَى ولا عيشَ يُقْتَنَى
…
سِوَى العلمِ أعلى مِنْ جميعِ المكاسِبِ
(1)
ومن بديع شعره قوله:
لَعَمْرُكَ إن لي نَفْسًا تَسَامَى
…
إلى ما لَمْ يَنَلْ دَارَا بنُ دارَا
(2)
فمِنْ هذا أرى الدنيا هَباءً
…
ولا أرضى سِوَى الفردوسِ دارَا
(3)
والطريف في هذين البيتين أنه نظم الأول منهما في سنة 719 هـ، والثاني في سنة 747 هـ، كما رآه الحافظ ابن حجر رحمه الله بخطه، وأنه قال:"إن لكلٍّ منهما إشارة"
(4)
.
والذي ذكره الصفدي رحمه الله أنه نظم الأول سنة 739 هـ
(5)
. فالله أعلم ومِنْ حِكَمه قولهُ:
إن الولاية ليس فيها راحةٌ
…
إلا ثلاثٌ يبتغيها العاقِلُ
حُكْمٌ بحقٍّ أو إزالةُ باطلٍ
…
أو نَفْعُ محتاجٍ سواها باطِلُ
(6)
ومِنْ فرائد حِكَمه:
إذا أتَتْكَ يَدٌ من غير ذِي مِقَةٍ
(7)
…
وجَفْوةٌ مِنْ صديقٍ كنتَ تأمُلُهُ
(1)
انظر: الطبقات الكبرى 10/ 180.
(2)
دار ابنُ دارا: مِنْ ملوك الفرس الأقدمين. انظر: تحقيق الطبقات الكبرى 10/ 179.
(3)
انظر: الطبقات الكبرى 10/ 179.
(4)
انظر: الدرر 3/ 69.
(5)
انظر: السابق 3/ 69.
(6)
انظر: الطبقات الكبرى 10/ 179.
(7)
أي: محبة. وفي اللسان 10/ 389، مادة (ومق): "ومِقَهُ يَمِقُه، نادر، مِقَةً ووَمْقًا: أحبه. . والتَّوَمُّق: التودُّد، والمِقَة: المحبة، والهاء عِوَض منَ الواو، وقد وَمِقه يَمِقه بالكسر فيهما، أي: أحَبَّه، فهو وامق. . . وفَرَّق بين الوِمَاق والعِشق، فقال: =
خُذْها من الله تنبيهًا وموعظةً
…
بأنَّ ما شاء لا ما شئتَ يَفْعَلُهُ
(1)
= الوِمَاق محبةٌ لغير ريبة، والعشق محبةٌ لريبة". أي: الوِمَاق حبٌّ لا حرام فيه، والعِشق هو الحبُّ الحرام.
(1)
انظر: الدرر 3/ 70، حاشية الطبقات الكبرى 10/ 304.