الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: تقلده منصب القضاء
لا شك أنَّ تولي القضاء مع العدل والنزاهة، والديانة والأمانة - مرتبة عظيمة في الدين، ومنقبة كبيرة من مناقب المتقين؛ إذ التقوى لا تظهر إلا مع البلاء ومخالفة الهوى، ومصادمة أهواء أهل الدنيا.
وحُقَّ على مَنْ وجد في نفسه ذلك من أهل التقوى أن يقبل تولي تلك المناصب الخطيرة خشية أن يتولاها مَنْ رقَّت ديانته، وضعفت أمانته، فيضيع الدين والدنيا، ويشيع الفساد في الأرض، لكن مِن علامة صحة النية، وصدق السريرة: أن لا يجد التقيُّ مَنْ يكفيه البلية، ويُريحه من تلك المسؤولية، فلا بد أن يكون كارهًا للمنصب، مبغضًا للشهرة، مُعرضًا عن ثناء الناس، قائلًا بالحق، مُنازِلًا لأهل الباطل قدر الطاقة والجهد، غير مريد الوصول إلى دنيا حقيرة، وأموال وشهوات خسيسة، قريبًا من أهل الدين، بعيدًا عن أهل الدنيا.
وظننا بالإمام القاضي البيضاوي رحمه الله أنه ما طلب القضاء لدنيا، ولا لجاه، ولا غير ذلك، بل طلبه لإقامة الحق، ونشر العدل، والدفاع عن الدين، ولا أدل على ذلك من أنه مكث في قضائه ستة أشهر ثم عزل، فلو كان من أهل الدنيا المنافقين لبقي دهرًا
(1)
، ولَمَا وُصف بأنه: "قَابَل
(1)
لا يقال: قد مكث مجد الدين الشيرازي - الذي عُزل بالقاضي البيضاوي ثم أعيد - =
الأحكام الشرعية بالاحترام والاحتراز"
(1)
؛ ولذلك قال الشيخ المراغي رحمه الله: "ثم صرف عن القضاء لشدته في الحق"
(2)
.
ومما يدل أيضًا على صدق نيته في طلب القضاء، ونزاهته وديانته - تركه للقضاء لما طلبه في المرة الثانية بعد عزله عن قضاء شيراز، بسبب كلمات ذلك العارف الذي طلب من السلطان:"أن يقطع قطعة من رباع جهنم لشخص كان يتوقعها من جنابك"، فلما قَبِل السلطان وأصدر مِنْ فوره الأمر بتوليه القضاء - رفض البيضاوي ذلك المنصب متأثرًا بكلمات ذلك العارف، ثم لازم خدمته وصحبته؛ ليستفيد من معرفته وتقواه، وقد سبق ذكر هذه القصة كاملة في مبحث رحلاته.
وقد سبق أن بينت في مبحث رحلاته أنه ذهب إلى تبريز في المرة الأولى طالبًا قضاء شيراز، ولم يكن آنذاك قاضيًا عليها، ومَنْ ظن بأنه ذهب إلى تبريز في المرة الأولى ليطلب إعادته لقضاء شيراز بعد عزله
(3)
- فظنه بعيد، ورواية ابن السبكي رحمه الله ليس فيها دلالة على ذلك، بل على
= سنين كثيرة في القضاء مع العدل والنزاهة؛ لأنَّ حكمنا أغلبي، مع أن القاضي مجد الدين رحمه الله عُزل، وحصلت له محن نَصَره الله فيها، وظهرت له كرامات أظهرت ولايته، فعظم قدره، واحترمه الخاصُّ والعام.
(1)
انظر: طبقات ابن قاضي شهبة 2/ 172، شذرات 5/ 393.
(2)
انظر: الفتح المبين 2/ 88.
(3)
وهم: الدكتور جلال الدين عبد الرحمن. انظر: القاضي البيضاوي ص 149، والدكتور علي محيي الدين. انظر: مقدمته على الغاية القصوى 1/ 92، والدكتور محمد الزحيلي. انظر كتابه: القاضي البيضاوي ص 55، مقدمة د/ فتحية عبيد في تحقيقها مختصر تيسير الوصول إلى منهاج الوصول 1/ 30.
نقيضه، إذ قال:"وَلِي قضاء القضاة بشيراز، ودخل تبريز، وناظر بها، وصادف دخولُه إليها مجلسَ درسٍ قد عُقد لبعض الفضلاء، فجلس القاضي في أُخريات القوم، بحيث لم يعلم به أحد. . . فأقامه الوزير من مجلسه، وأدناه إلى جانبه، وسأله من أنت؟ فأخبره أنه البيضاوي، وأنه جاء في طلب القضاء بشيراز، فأكرمه، وخلع عليه في يومه، وردَّه وقد قضى حاجته"
(1)
.
فقول ابن السبكي رحمه الله: ولي قضاء القضاة بشيراز، ودخل تبريز. . . الخ - ليس فيه دلالة إطلاقًا على أنه ولي قضاء القضاة قبل الدخول؛ إذ إن ابن السبكي إنما أراد بكلامه هذا: ودخل تبريز. . . الخ بيان كيفية توليه لقضاء القضاة، وسؤال الوزير للبيضاوي عنه بقوله: من أنت؟ يدل على أنه لم يكن قاضيًا على شيراز آنذاك، وإلا لعرفه الوزير، ولو جهل شخصه فلن يجهل اسمه؛ لكونه قاضي القضاة.
وقول ابن السبكي أيضًا: "وأخبره أنه البيضاوي، وأنه جاء في طلب القضاء بشيراز" ظاهر في كونه ليس قاضيًا عند طلبه، وإلا لقال: وأنه جاء في إعادته للقضاء، أو: جاء في أمر عزله عن القضاء. أو نحو ذلك من العبارات المشيرة إلى ذلك، وابن السبكي رحمه الله تعالى إمام في التدقيق فهو أصولي بارع، ومحدث بارز، ومؤرخ دقيق، وبعيد عليه إهمال مثل هذا: وهو عزله عن القضاء، وطلبه بعد ذلك؛ لأن العزل عن القضاء من الأحداث المهمة. وأما ما ذكره الحاج خليفة في كشف الظنون (1/ 186)
(1)
انظر: الطبقات الكبرى 8/ 158.
وهو قوله: "ذكر التاج السبكي في "الطبقات الكبرى": أن البيضاوي لما صُرِف عن قضاء شيراز رحل إلى تبريز. . ." فظاهر أن عبارة "لما صرف عن قضاء شيراز" من تصرفه، لا من كلام ابن السبكي رحمه الله، إذ العبارة ليست كذلك في "الطبقات الكبرى"، وقول الدكتور محمد الزحيلي حفظه الله: "والجملة الأولى
(1)
غير موجودة في "الطبقات الكبرى" للتاج السبكي المطبوعة الآن، ولعلها سقطت من المخطوطة"
(2)
احتمال بلا دليل، والنسخة المطبوعة محققة على نسختين مخطوطتين
(3)
.
ويخدش في هذا الاحتمال أيضًا: أن الداودي ذكر هذه القصة، وعبارته كما هي في "الطبقات الكبرى" المطبوعة، وهو ناقل عنها
(4)
.
هذا وقد سبق في مبحث أقران البيضاوي، في ترجمة القاضي مجد الدين الشيرازي: أن البيضاوي مكث في القضاء ستة أشهر، ثم عزل
(5)
رحمه الله رحمة واسعة، وألحقنا به والمسلمين في جنات النعيم، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
(1)
أي: في نقل الحاج خليفة عن "الطبقات الكبرى".
(2)
انظر كتابه: القاضي البيضاوي ص 55.
(3)
انظر: الطبقات الكبرى 1/ 31.
(4)
انظر: طبقات المفسرين 1/ 242.
(5)
انظر: الطبقات الكبرى 9/ 401.