الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: مكانته العلمية وثناء العلماء عليه
قد تَفرَّس شيوخ التاج رحمهم الله فيه النبوغ، وأمَّلوا فيه التميز، فها هو الإمام الذهبي رحمه الله يُدرجه في "المعجم المختص" ويقول عنه:"عبد الوهاب بن شيخ الإسلام تقي الدين علي بن عبد الكافي، الولد القاضي تاج الدين أبو نصر السبكي الشافعي. ولد في سنة ثمانٍ وعشرين، وأجاز له الحجَّار وطائفة، وأسمعه أبوه من جماعة. كتب عني أجزاءً ونَسَخَها، وأرجو أن يتميزَّ في العلم، ثم دَرَّس وأفتى"
(1)
.
وها هو شيخه الإمام المزي رحمه الله يُدرجه في الطبقة العليا من المحدثين، في قصةٍ يحكيها التاج رحمه الله تعالى فيقول:
"وشَغَر مرةً مكانٌ بدار الحديث الأشرفيَّة، فَنَزَّلني فيه، فعجبت من ذلك؛ فإنه كان لا يرى تنزيل أولاده في المدارس، وها أنا لم ألِ في عمري فِقاهةً في غير دار الحديث، ولا إعادةً إلا عند الشيخ الوالد، وإنما كان يُؤخِّرنا إلى وقت استحقاق التدريس، على هذا ربَّانًا، رحمه الله، فسألته فقال: ليقال إنَّك كنتَ فقيهًا عند المِزِّيّ.
ولما بلغ المِزِّيَّ ذلك - أَمَرَهم أن يكتبوا اسمي في الطبقة العليا. فبلغ ذلك
(1)
انظر: المعجم المختص ص 152.
الوالدَ، فانزعج، وقال: خرجنا من الجدِّ إلى اللعب، لا والله، عبد الوهَّاب شابٌّ ولا يستحق الآن هذه الطبقة، اكتبوا اسمه مع المبتدئين، فقال له شيخنا الذهبي: والله هو فوق هذه الدرجة، وهو محدِّث جَيِّد. هذه عبارة الذهبي، فضحك الوالد، وقال: يكون مع المتوسِّطين"
(1)
.
وهذا شيخه شمس الدين ابن النقيب - رحمه الله تعالى - يُجيزه بالإفتاء والتدريس وهو لم يبلغ الثامنة عشر من عمره.
يقول الحافظ شهاب الدين ابن حجي
(2)
: أخبرني أن الشيخ شمسَ الدين بن النقيب أجازه بالإفتاء والتدريس. ولما مات ابن النقيب كان عمر القاضي تاج الدين ثمان عشرة سنة
(3)
.
وقال الحافظ ابن حجي رحمه الله: "خرَّج له ابن سعد مشيخةً، ومات قبل تكميلها، وحَصَّل فنونًا من العلم من الفقه والأصول، وكان ماهرًا فيه، والحديث والأدب، وبرع وشارك في العربية، وكان له يدٌ في النظم والنثر، جَيِّدَ البديهة، ذا بلاغةٍ وطلاقةِ لسان، وجراءة جَنَان، وذكاءٍ مُفْرط، وذهن وقَّاد، وكان له قدرة على المناظرة"
(4)
.
(1)
انظر: الطبقات 10/ 399.
(2)
أحمد بن حجي بن موسى السعدي الحسباني، الإمام العالم العلَّامة، الحافظ المحقِّق، شيخ الشافعية شهاب الدين أبو العباس. ولد سنة 751 هـ، سمع الحديث من خلائق، وتتلمذ للتاج السبكي. من تصانيفه:"جمع المفترق"، "الدارس من أخبار المدارس". توفي سنة 816 هـ. انظر: طبقات ابن قاضي شهبة 4/ 12.
(3)
انظر: طبقات ابن قاضي شهبة 3/ 104 - 105.
(4)
انظر: طبقات ابن قاضي شهبة 3/ 105 - 106.
وهذا الإمام الأديب، الناظم الناثر، أديب العصر خليل بن أيبك الصفدي رحمه الله، الذي كتب أزيد من ستمائة مجلّدٍ تصنيفًا، وهو في طبقة شيوخ التاج - رحمهما الله - يقول عنه التاج:
"وكانت له همةٌ عاليةٌ في التحصيل، فما صَنَّف كتابًا إلا وسألني فيه عما يحتاج إليه من فقه وحديث وأصولٍ ونحوٍ، لا سيما "أعيان العصر" فأنا أشرتُ عليه بعمله، ثم استعان بي في أكثره، ولما أخرجت مُخْتَصري في الأصلَيْن المسمَّى "جمع الجوامع" كتبه بخطِّه، وصار يحضر الحلقة، وهو يقرأ عليَّ ويَلَذُّ له التقرير، وسَمِعه كلَّه عليَّ، وربما شارك في فهم بعضه، رحمه الله تعالى"
(1)
.
وهذا والده رحمه الله تعالى يصفه بمفتي الإسلام في قصةٍ يذكرها التاج رحمه الله تعالى فيقول: "وكتب إليَّ، وقد جَمَع لي بين نيابته في الحكم، وتوقيعِ الدَّسْت
(2)
، وكانت قد وَرَدت عليه فُتْيا في لعب الشِّطرْنج: أجِبْنا أيُّها الإمام، أحلالٌ هو أم حرام؟ ونحن قد عَرَفْنا مذهب الشافعيّ، ولكنا نريد أن نعرف رأيَك واجتهادَك. فألقاها إليَّ، وقال: اكتُبْ عليها مَبْسُوطًا مستدِلًا، ثم اعرِضْها. فكتبتُ كتابةً مطوَّلة جامعةً للدلائل، ونصَرْتُ مذهب الشافعي، فكتب إلى جانبها:
(1)
انظر: الطبقات 10/ 6.
(2)
توقيع الدَّسْت: هو توقيع مجلس الوزارة. قال الزبيدي في تاج العروس 3/ 50، مادة (دست):"واستعمله المتأخرون بمعنى: الديوان، ومجلس الوزارة، والرآسة". وانظر: المعجم الوسيط 1/ 282.
أمُوَقِّعَ الدَّسْتِ الشريفِ ونائِبَ الْـ
…
ـحُكْمِ العزيزِ ومُفْتِيَ الإسلامِ
خَفْ من إلهكَ أنْ يراكَ وقَدْ نَها
…
كَ وما انتهيتَ ومِلْتَ للآثامِ"
(1)
وينبيك عن مكانته العلمية المبكرة تدريسه إلى جانب الرُّخامة التي بالجامع الأُموي في حياة والده، وأنشد والده في ذلك، ذاكرًا العلماء الذين دَرَّسُوا بجانبها، وتعاقبوا على ذلك المكان بدءًا بابن عساكر
(2)
رحمه الله تعالى. يقول التاج:
"وأنشدوني عنه، وقد جلستُ للشُّغْل في العلم عَقِيبَ وفاة الشيخ الإمام فخر الدين المِصْريّ، إلى جانب الرُّخامة التي بالجامع الأُموي، التي يقال: إنَّ أوَّل مَنْ جلس إلى جانبها شيخُ الإسلام فخر الدين ابن عساكر، ثم تلميذه شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام، ثم تلميذه الشيخ تاج الدين بن الفِرْكاح الفَزاريّ
(3)
، ثم تلميذه ولده الشيخ بُرهان الدين
(4)
، ثم
(1)
انظر: الطبقات 10/ 194.
(2)
هو علي بن الحسن بن هبة الله، أبو القاسم بن عساكر، إمام الحديث في زمانه، وختام الجهابذة الحفاظ. ولد سنة 499 هـ. من مصنفاته: تاريخ الشام، تبيين كذب المفتري، وغيرهما كثير. توفي سنة 571 هـ. انظر: المستفاد من ذيل تاريخ بغداد ص 186 - 189، سير 20/ 554، الطبقات الكبرى 7/ 215.
(3)
عبد الرحمن بن إبراهيم بن ضياء الفَزَاريّ، الشيخ تاج الدين أبو محمد، المعروف بالفِرْكاح، فقيه أهل الشام، كان إمامًا مدقِّقًا نَظَّارًا. من تصانيفه: شرح ورقات إمام الحرمين، وتعليقة على الوجيز، وغيرهما. توفي سنة 690 هـ. انظر: الطبقات الكبرى 8/ 163، طبقات ابن قاضي شهبة 2/ 173.
(4)
هو إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم الفزاريّ، الشيخ برهان الدين بن الفِرْكاح، فقيه الشام، وشيخ الإسلام. من مصنفاته:"التعليقة على التنبيه" في نحو عشر =
تلميذه الشيخ فخر الدين المِصْري
(1)
، ثم أنا
(2)
، وكتبتُها من خط الوالد رحمه الله تعالى:
الجامعُ الأُمَوِيُّ فيه رُخامَةٌ
…
يَأْوِي لها مَن للفَضائل يَطْلُبُ
الشيخُ فخرُ الدِّين نَجْلُ عَساكِرٍ
…
والشيخُ عِزُّ الدين عنه يُنْسَبُ
والشيخُ تاجُ الدين نَجْلُ فَزارَةٍ
…
عنه تَلقَّاها يُفيد ويَدْأبُ
ثم ابنُه أكرِمْ به من سَيِّدٍ
…
ورعٍ له كلُّ الناصب تَخْطُبُ
وتلاه فخرُ الدِّين واحدُ مِصْرِهِ
…
بذكائِه كالنارِ حِينَ تَلَهَّبُ
وابني يَليهمْ زادَهُ ربُّ السَّما
…
عِلْمًا وفَهْمًا ليس فيه يَنصَبُ
(3)
وقد نزل التقي رحمه الله عن مشيخة دار الحديث الأشرفية لابنه عبد الوهاب رحمه الله وذلك في أواخر عمره حينما كبر التاج وكان ابن ثمان وعشرين سنة أو نحوها، ولم يكن نزوله له إلا لأهليته التي شهد بها مشايخُه.
يقول التاج رحمه الله: "ولما نزل لي عن مشيخة دار الحديث الأشرفيّة،
= مجلدات، وتعليقة على مختصر ابن الحاجب في الأصول. توفي سنة 729 هـ. انظر: الطبقات الكبرى 9/ 312، طبقات ابن قاضي شهبة 2/ 240.
(1)
هو محمد بن علي بن إبراهيم، أبو الفضائل القاضي فخر الدين المِصْريّ. ولد بالقاهرة سنة 691 هـ، كان من أذكياء العالم، حفظ مختصر ابن الحاجب في تسعة عشر يومًا، وكان يحفظ في "المنتقى" كل يوم خمسمائة سطر. توفي بدمشق سنة 751 هـ. انظر: الطبقات الكبرى 9/ 188، طبقات ابن قاضي شهبة 3/ 62.
(2)
وعليه فعمر التاج آنذاك أربع وعشرون سنة.
(3)
انظر: الطبقات الكبرى 10/ 192.
واتفق أنه بعد أشهرٍ حَضَر درسًا عَمِله الولدُ تقيُّ الدين أبو حاتم محمد ابن الأخ شيخِنا شيخِ الإسلام بهاءِ الدين أبي حامد، سلمهما الله، وكان أشار هو بذلك؛ ليفرح بتدريس ولدِ ولدِه بحضوره قبلَ وفاته - قال للجماعة الحاضرين: ما أعلم أحدًا يَصْلحُ لمشيخة دار الحديث غيرَ ولدي عبد الوهَّاب، وشخصٍ آخرَ غائبٍ عن دمشق.
وأكثر الناس لم يَفهم الغائب، وأنا أعرف أنه الشيخ صلاحُ الدين العلائيُّ، شيخ بيت المقدس وحافظه"
(1)
.
وكتب له الشيخ برهان الدين القيراطي
(2)
جوابًا لرسالةٍ أرسلها إليه التاج - رحمهما الله - فمما قال فيها:
"إلى شيخنا شيخ الإسلام أوحدِ المجتهدين، تاج الدين أبي نصر، أسبغ الله ظِلالَه"
(3)
إلى أن قال: "فهو إمام العلوم على الأبد، والسابقُ للعَلياء سَبْقَ الجوادِ إذا استولى على الأَمَد، والسيِّد الحافظ الذي دارُه لا دارَ مَيّةَ بين العلياءِ والسَّنَد.
(1)
انظر: الطبقات الكبرى 10/ 209.
(2)
هو إبراهيم بن شرف الدين عبد الله بن محمد الطائيّ القيراطيّ، الشاعر المشهور. ولد في سنة 726 هـ، وتَفَقَّه واشتغل، وتَعَانى النظم ففاق فيه، وله ديوان جمعه لنفسه يشتمل على نثر ونظم في غاية الإجادة، وكان عابدًا فاضلًا. قال ابن حجر= = رحمه الله:"وكان له اختصاص بالسبكي، ثم بأولاده، له فيهم مدائح ومراثي، وبينهم مراسلات". توفي بمكة مجاورًا سنة 781 هـ. انظر: الدرر 1/ 31، شذرات 6/ 279.
(3)
انظر: الطبقات الكبرى 9/ 336.
والشيخ الذي اختُصَّ بعُلُوّ الإسناد والمَحَل، والرُّحَلَةُ الذي يُنشِد الطالبُ إذا حثَّ ركائبَه إليه ورَحَل:
إليكَ وإلَّا لا تُساقُ الركائبُ
…
وعنكَ وإلَّا فالمحدِّث كاذبُ
على أنه عالمٌ مناظِر، وحافِظٌ مذاكِر، وأديبٌ مُحاضِر. . . فهو بين العلماء إمامُ مِلّتهم، ومُصَلَّى قِبلتهم، ومُجَلِّي حَلْبَتِهم، والمنشِدُ عند طلوع أهلَّتِهم:
أخذنا بآفاقِ السماءِ عليكُمُ
…
لنا قَمَراها والنُّجُومُ الطوالعُ"
(1)
ومما قاله أيضًا بعد ذلك هذين البيتين:
"عِلْمُ الحديثِ إلى أبي نصرٍ غَدَا
…
من دونِ أهلِ العَصْرِ حَقًّا يُسْنَدُ
أضحى أميرَ المؤمنين بقُبَّةٍ
…
ويَدُ الخلافةِ لا تُطاوِلُها يَدُ"
(2)
ويقول الحافظ الحسيني عن التاج - رحمهما الله - في أكثر مِنْ موطن: "سيدنا قاضي القضاة شيخ الإسلام تاج الدين السبكي"
(3)
.
وقال السيوطي رحمه الله في "حسن المحاضرة": "كتب مرةً ورقةً إلى نائب الشام يقول فيها: وأنا اليوم مجتهد الدنيا على الإطلاق، لا يقدر أحدٌ يردُّ عليَّ هذه الكلمة. وهو مقبول فيما قال عن نفسه"
(4)
.
(1)
انظر: الطبقات الكبرى 9/ 354.
(2)
انظر: الطبقات الكبرى 9/ 357.
(3)
انظر: ذيول العبر 4/ 197، 199، 201، 206.
(4)
انظر: حسن المحاضرة 1/ 328.
ومن العجائب التي تدل على قوة الرجل وفَرَط ذكائه، وتبحره في الفنون، وغَوْصه في الكنوز والمكنون - هذه الحادثة التي سَطَّرها في كتابه "الأشباه والنظائر" حيث يقول:
"وقد أحببت أن أذكر هنا آيةً كانت ابتداء درسي بالمدرسة الأمينية في يوم الأحد ثالث شهر ربيع الأول سنة ثلاث وستين وسبعمائة، وكان مِنْ شأن هذا الدرس أني لما وَلِيت هذه المدرسة في الشهر المذكور عزمتُ أن لا أعمل أجلاسًا، ولا أجمع جمعًا؛ لأنه سبق لي تداريس كثيرة، فما في دمشق مدرسة مرموقة بعين التعظيم إلا وقد وليت تدريسها بحمد الله، إلا اليسير من المدارس.
فلما وليت هذه المدرسة رأيتُ أنَّ تَرْك ذلك أجمل، فحملني حاملٌ على أن أذكر درسًا أرجو أن يكون لي فيه نية، وذلك أنَّ بعض من لا أهلية له سعى في هذه المدرسة، وكاد أنْ يُقَدَّم عليَّ؛ لقربه من الدولة، فأحببتُ أنْ أُرِيَهُ كيف يكون التدريس، وكيف ينبغي لمَنْ يَطْلب مناصب العلماء أن يكون، فعمدتُ إلى آيةٍ من الكتاب العزيز واستنبطتُ منها ما وصَلَتْ إليه قوتي.
وها أنا أحكي الدرس فأقول: قلتُ بعد الخطة ما نَصُّه:
(1)
.
(1)
سورة النساء: 54، 55.
اعلم أنَّ المدرسين وإنْ تباينت مراتبهم في العلم، وتفاوتت منازلهم في الفهم - أصنافٌ ثلاثة لا رابع لهم:
الأول: مَنْ إذا دَرَّس آية اقتصر على ما فيها من المنقول، فحكى أقوال المفسِّرين بسبب النزول والمناسبة، ووجوه الإعراب، ومعاني الحروف، ونحو ذلك. وهذا لا حظَّ له عند المحققين، ولا نصيب له بين فرسان الكلام.
والثاني: مَنْ يأخذ في وجوه الاستنباط منها، ويَسْتَعمل فكره بمقدار ما آتاه الله من الفهم، ولا يشتغل بأقوال السابقين، وتصرفات الماضين، علمًا منه أنَّ ذلك أمرٌ موجود في بطون الأوراق ولا معنى لإعادته.
والثالث: مَنْ يرى الجمع بين الأمرَيْن، والتحلي بالوصفَيْن، ولا يخفى أنه أرفع الأوصاف. . . . .
وأنا إن شاء الله تعالى أستخرج من هذه الآية - دون ما قبلها وما بعدها - من فنون الفوائد في أنواع العلوم ما يزيد على مائة وعشرين فائدة في أصول الدين، وأصول الفقه، والحديث، والتفسير، واللغة، والنحو، والتصريف، والمعاني، والبيان، والبديع، والمنطق، والجدل، والتصوف، والمغازي، والسِّيَر، والفراسة، والطب.
وشرطي في ذلك على نفسي: أن لا أذكر شيئًا أَعْلَمُ أني سُبقت إليه، ولا أتعدى الآية إلى غيرها، ولا أشتغل بتقرير ما أَسْتنبطه منها إلا بتقرير وجه الاستنباط منها، فإذا قلتُ مثلًا:"دَلَّت على كيت وكيت" لم أنتقل
إلى الكلام في كيت وكيت؛ لأن ذلك خروجٌ إلى فنٍّ آخر، وعدولٌ عن البحث، وعلى غيري أن لا يعترضني في فائدة حتى يتمَّ تقريرُها، ثم يعترض بما شاء"
(1)
.
فلله درُّ هذا الإمام الفذُّ، والملهم الفرد. ولقد نَوَّه الحافظ ابن كثير رحمه الله بهذا الدرس الحافل، والمشهد الهائل، إذ يقول رحمه الله: "وفي صبيحة يوم الأحد رابع شهر ربيع الأول كان ابتداء حضور قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن قاضي القضاة تقي الدين بن الحسن بن عبد الكافي السبكي الشافعي - تدريسَ الأمينية عِوَضًا عن الشيخ علاء الدين المحتسب، بحكم وفاته رحمه الله كما ذكرنا، وحضر عنده خلق من العلماء والأمراء والفقهاء والعامة، وكان درسًا حافلًا، أخذ في قوله تعالى:{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}
(2)
الآية وما بعدها، فاستنبط أشياء حسنة، وذكر ضربًا من العلوم بعبارةٍ طَلْقةٍ جارية معسولة، أخذ ذلك من غير تلعثم ولا تلجلج ولا تكلف، فأجاد وأفاد، وشكره الخاصة والعامة من الحاضرين وغيرهم، حتى قال بعض الأكابر: إنه لم يسمع درسًا مثله"
(3)
.
واسمع كلام التاج وهو يصف مَنْ هو المحدث، عائبًا على أقوامٍ من العلماء جَهِلوا ذلك: "ومنهم فرقةٌ ترقَّت عن هذه الفرقة وقالت: لا بد مِنْ
(1)
انظر: الأشباه والنظائر 2/ 349 - 351. وقد ذكر الشارح تلك الفوائد في كتابه
المذكور، وهي تبتدي من 2/ 351 - 382.
(2)
سورة النساء: 54.
(3)
انظر: البداية والنهاية 14/ 305، 306.
ضمِّ علم الحديث إلى التفسير، فكان قصاراها النظر في "مشارق الأنوار" للصاغاني
(1)
، فإنْ ترفَّعت ارتقت إلى مصابيح البغوي، وظنت أنها بهذا القدر تصل إلى درجة المحدثين، وما ذاك إلا لجهلها بالحديث، فلو حفظ مَنْ ذكرناه هذين الكتابين عن ظهر قلب، وضمَّ إليهما من المتون مثليهما - لم يكن محدثًا، ولا يصير بذلك محدِّثًا حتى يلج الجمل في سَمِّ الخياط. فإذا رامت بلوغ الغاية في الحديث - على زعمها - اشتغلت بجامع الأصول لابن الأثير
(2)
، وإنْ ضمَّت إليه كتاب "علوم الحديث" لابن الصلاح، أو مختصره المسمَّى بـ "التقريب والتيسير" للنووي، ونحو ذلك - فحينئذ يُنادَى مَن انتهى إلى هذا المقام بمحدِّث المحدثين، وبخاريِّ العصر، وما ناسب هذه الألفاظ الكاذبة، فإنَّ مَنْ ذكرناه لا يُعَدُّ محدِّثًا بهذا القدر، إنما المحدث مَنْ عرف الأسانيد، والعِلَل، وأسماءَ الرجال، والعالي والنازل، وحَفِظ مع ذلك جملةً مستكثرة، وسمع الكتب الستة، ومسند أحمد بن حنبل، وسنن
(1)
هو الحسن بن محمد بن الحسن بن حَيْدر، أبو الفضائل القرشيُّ العدويُّ العمريُّ، من ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الصاغانيُّ الأصل، الهنديُّ الَّلوْهَوْريُّ المولد، البغداديُّ الوفاة، المكيُّ المَدْفن، الفقيه الحنفيُّ، المحدِّث، اللغويُّ، صاحب التصانيف. ولد سنة 577 هـ. من تصانيفه:"مشارق الأنوار" في الجمع بين الصحيحين، و"مجمع البحرين"، و"العباب"، وغيرها. توفي سنة 650 هـ. انظر: الجواهر المضية 2/ 82، الفوائد البهية ص 63، سير 23/ 282.
(2)
علي بن أبي الكرم محمد بن محمد الجزريّ ابن الأثير، أبو الحسن عز الدين الإمام الحافظ العلَّامة المؤرخ، ولد بالموصل سنة 555 هـ. من تصانيفه "اللباب في تهذيب الأنساب"، و"أسد الغابة في معرفة أسماء الصحابة"، و"الكامل في التاريخ". توفي سنة 630 هـ. انظر: وفيات 3/ 348، تذكرة 4/ 1399، الطبقات الكبرى 8/ 299.
البيهقيّ، ومعجم الطبرانيّ، وضَمَّ إلى هذا القدر ألفَ جزءٍ من الأجزاء الحديثية. هذا أقلُّ درجاته. فإذا سمع ما ذكرناه، وكتب الطِّباق، ودار على الشيوخ، وتكلَّم في العِلَل والوَفيات والأسانيد - كان في أول درجات المحدثين، ثم يزيد الله مَنْ شاء ما شاء
(1)
.
ومنهم فرقةٌ ترفَّعت، وقالت: نضم إلى الحديث الفقه، وكان غايتها البحث في "الحاوي الصغير" لعبد الغفَّار القزويني
(2)
، والكتاب المذكور أعجوبة في بابه، بالغٌ في الحسن أقصى الغايات، إلا أنَّ المرء لا يصير به فقيهًا ولو بلغ عنان السماء، وهذه الطائفة تضيع في تفكيك ألفاظه وفهم معانيه زمانًا لو صرفته إلى حفظ نصوص الشافعي وكلام الأصحاب لحصلت على جانب عظيم من الفقه، ولكن التوفيق بيد الله تعالى"
(3)
.
(1)
ولذا لما ترجم السيوطي رحمه الله للحافظ الهيثمي رحمه الله قال: "ورافق العراقيَّ في السماع، فسمع جميع ما سمعه، وكان ملازمًا له، مبالغًا في خدمته، وكان يحفظ كثيرًا من متون الأحاديث، فكان إذا سُئل العراقيُّ عن حديث بادر إلى إيراده، فيظن من لا خبرة له أنه أحفظ منه، وليس كذلك، وإنما الحفظ المعرفة". انظر: ذيل طبقات الحفاظ للسيوطي 5/ 372.
(2)
هو عبد الغفَّار بن عبد الكريم بن عبد الغفار القَزْويني، الشيخ الإمام نجم الدين، كان أحد الأئمة الأعلام، له اليد الطولى في الفقه والحساب وحسن الاختصار، ومن الصالحين أهل الكرامات. من مصنفاته:"الحاوي الصغير"، و"اللباب"، و"شرح اللباب" المسمّى بـ "العُجاب". توفي سنة 665 هـ. انظر: الطبقات الكبرى 8/ 277، طبقات ابن قاضي شهبة 2/ 137.
(3)
انظر: معيد النعم ص 81 - 83.