الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: مكانته العلمية، وثناء العلماء عليه
يقول ابنه التاج رحمه الله عن والده: "الشيخ الإمام الفقيه المحدِّث الحافظ المفسِّر المقرئ الأصولي المتكلِّم النحوي اللغوي الأديب الحكيم المِنْطِيقيُّ الجدليُّ الخلافيُّ النَّظَّار، شيخ الإسلام، قاضي القضاة، تقي الدين أبو الحسن:
شيخ المسلمين في زمانه، والداعي إلى الله في سرِّه وإعلانه، والمناضل عن الدين الحنيفيّ، شافعيُّ الزمان، وحجة الإسلام المنصوبُ من طُرق الجنَان، والمرجع إذا دَجَتْ مشكلةٌ وغابت عن العِيان.
عُبَابٌ
(1)
لا تكدِّره الدِّلاء، وسحابٌ تتقاصر عنه الأنواء، وبابٌ للعلم في عصره، وكيف لا وهو عليٌّ الذي تَمَّتْ به النعماء:
وكان من العلوم بحيث يُقضى
…
له من كلِّ علمٍ بالجميع
(1)
هو الماء الكثير، وهو السيل أيضًا. وكلاهما مناسبان هنا. انظر: لسان العرب 1/ 573، المعجم الوسيط 2/ 579.
وكان من الورع والدين وسلوك سبيل الأقدمين على سَنَن ويقين، إن الله مع المتقين.
صادع بالحق لا يخاف لومة لائم، صادق في النية لا يخشى بطشة ظالم، صابر وإن ازدحمت الضَّرَاغم. . .
شيخ الوقت حالًا وعلمًا، وإمام التحقيق حقيقةً ورَسْمًا، وعَلَم الأعلام فِعْلًا واسمًا:
إذا تَغلغل فِكْرُ المرء في طَرَفٍ
…
مِن مجده غَرِقَتْ فيه خَواطِرُهُ
(1)
لا يرى الدنيا إلا هباءً منثورًا، ولا يدري كيف يجلب الدرهمُ فرحًا، والدينارُ سرورًا، ولا ينفك يتلو القرآن، قائمًا وقاعدًا، راكبًا وماشيًا، ولو كان مريضًا معذورًا.
وكانت دعوته تخترق السبع الطِّبَاق، وتَفْترِق بركاتُها فتملأ الآفاق، وتَسْترقُ خبرَ السماء، وكيف لا، وقد رفعت على يد وليٍّ لله، تُفتح له أبوابُها ذوات الإغلاق.
وكانت يداه بالكرم مبسوطتين، لا يُقاس إلا بحاتم، ولا يُنشد إلا:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
ولا يعرف إلا العطاء الجَزْل:
وتأتي على قدر الكرام المكارم
(2)
(1)
البيت لأبي الطيب المتنبي: انظر ديوانه بشرح أبي البقاء العَكبري 2/ 120.
(2)
هذا والذي قبيله لأبي الطيب المتنبي. انظر: ديوانه 3/ 378.
يواظب على القرآن سرًا وجهرًا، لا يَقْرُنُ خِتام ختمةٍ إلا بالشروع في أخرى، ولا يفتتح بعد الفاتحة إلا سورًا تترى.
مع تقشف لا يتدرع معه غير ثوب العفاف، ولا يتطلع إلى ما فوق مقدار الكفاف، ولا يتنوَّع إلا في أصناف هذه الأوصاف.
يقطع الليل تسبيحًا وقرآنًا، وقيامًا لله لا يفارقه أحيانًا، وبكاءً يفيض من خشية الله ألوانًا.
أقسم بالله إنه لفوقَ ما وصفتُه، وإني لناطقٌ بهذا وغالب ظني أني ما أنصفتُه، وإن الغبيَّ سيظن فيَّ أمرًا ما تصورتُه
(1)
:
وما زال في علمٍ يرفعه، وتصنيفٍ يَضَعُه، وشتاتِ تحقيقٍ يجمعه، إلى أن سار إلى دار القرار. وما ساد أحدٌ ناوأه، ولا كان ذا استبصار، ولا ساءَ مَنْ والاه، بل عَمَّه بالفضل المدرار. . ."
(2)
.
قال الإمام الذهبي رحمه الله عن التقي: "القاضي الإمام العلامة الفقيه المحدث الحافظ فخر العلماء، تقي الدين أبو الحسن السبكي، ثم المصري الشافعي وَلَد القاضي الكبير زين الدين. . . وكان صادقًا متثبتًا، خَيِّرًا دينًا متواضعًا حسن السمت، من أوعية العلم، يَدْرِي الفقه ويُقَرِّره،
(1)
قال التاج رحمه الله في طبقاته الوسطى: "ولو عددت ما شاهدت، وحكيت ما عاينت - لطال الفصل، وقال الغبيُّ النذل: ولدٌ يشهد لأبيه". انظر: تحقيق الطبقات الكبرى 10/ 143.
(2)
انظر: الطبقات الكبرى 10/ 139 - 144.
وعلمَ الحديث ويُحَرِّره، والأصولَ ويُقْرئها، والعربية ويحقِّقها، ثم قرأ بالروايات على تقي الدين الصائغ، وصنف التصانيف المتقنة. وقد بقي في زمانه الملحوظ إليه بالتحقيق والفضل. . ."
(1)
.
وقال عنه أيضًا: انتهى إليه الحفظُ ومعرفة الأثر بالديار المصرية
(2)
.
وقال أيضًا حين وَلِي التقيُّ السبكي خَطابة الجامع الأُموي: إنه ما صَعَد هذا المنبرَ بعدَ ابن عبد السلام أعظمُ منه
(3)
.
ونظم في ذلك أبياتًا فقال:
لِيَهْنِ المنبرَ الأُمَوِيَّ لَمَّا
…
عَلَاهُ الحاكمُ البحرُ التقيُّ
شيوخُ العصرِ أحفظُهم جميعًا
…
وأخطبُهُمْ وأقضاهُمْ عليُّ
(4)
قال التاج رحمه الله: "وصح مِنْ طرقٍ شتى عن الشيخ تقي الدين ابن تيمية: أنه كان لا يعظِّم أحدًا من أهل العصر كتعظيمه له، وأنه كان كثير الثناء على تصنيفه في الرد عليه. وفي كتاب ابن تيمية الذي ألفه في الرد على الشيخ الإمام في ردِّه عليه في مسألة الطلاق: لقد بَرَّز هذا على أقرانه.
وهذا الرد الذي لابن تيمية على الوالد لم يَقِفْ عليه، ولكن سمع به، وأنا وقفتُ منه على مجلَّد.
(1)
انظر: المعجم المختص ص 166.
(2)
انظر: الطبقات الكبرى 10/ 194.
(3)
انظر: الطبقات الكبرى 10/ 194.
(4)
انظر: الطبقات الكبرى 10/ 194.
وأما الحافظ أبو الحجاج المِزِّيُّ: فلم يكتب لفظة "شيخ الإسلام" إلا لَهُ، وللشيخ تقي الدين ابن تيمية، وللشيخ شمس الدين ابن أبي عمر
(1)
.
وقد قدمنا قول ابن فضل الله
(2)
: إنه مثل التابعين إن لم يكن منهم.
وكان الشيخ تقي الدين أبو الفتح السبكي
(3)
رحمه الله يقول: إذا
(1)
هو عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي، الجماعيلي الأصل، الصالحي، الحنبلي، الفقيه، الإمام، الزاهد الخطيب، قاضي القضاة، شيخ الإسلام، شمس الدين أبو محمد، وأبو الفرج بن الشيخ أبي عمر. ولد سنة 597 هـ. قال النووي عنه: هذا أجل شيوخي. من مصنفاته: شرح "المقنع"، استمده من كتاب "المغني" لعمه. توفي رحمه الله سنة 682 هـ.
انظر: ذيل طبقات الحنابلة 4/ 304، المعجم المختص ص 138.
(2)
هو القاضي أحمد بن يحيى بن فضل الله بن مجلي القرشي العدوي العمري الشافعي، شهاب الدين أبو العباس، من نسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ولد سنة 700 هـ. كان يتوقد ذكاءً، مع حافظة قوية، وصورة جميلة، واقتدارٍ على النظم والنثر. من مصنفاته:"مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" وهو كتاب جليل ما صُنِّف مثله، كذا قال ابن قاضي شهبة وابن العماد الحنبلي رحمهما الله، و"فواضل السمر في فضائل عمر"، وغيرهما. توفي شهيدًا بالطاعون يوم عرفة سنة 749 هـ.
انظر: الدرر 1/ 331، شذرات 6/ 160، المعجم المختص للذهبي ص 45، طبقات ابن قاضي شهبة 3/ 16.
(3)
محمد بن عبد اللطيف بن يحيى بن علي بن تمام السبكي، تقي الدين أبو الفتح. ولد سنة 705 هـ، وتفقه على جده صدر الدين يحيى، وعلى قريبه وصهره تقي الدين علي السبكي، وبه تَخَرَّج في كل فنونه، وكان من أصح الناس ذهنًا، وأذكاهم فطرة. توفي سنة 744 هـ بدمشق. انظر: الطبقات الكبرى 9/ 167، الدرر 4/ 25.
رأيته فكأنما رأيت تابعيًا.
وصح أن شيخه الإمام علاء الدين الباجي رحمه الله أقبل عليه بعض الأمراء، وكان الشيخ الإمام إلى جانبه الأيمن، وعن جانبه الأيسر بعض أصحابه، فقعد الأمير بين الباجي والشيخ الإمام، ثم قال الأمير للباجي عن الذي عن يساره
(1)
: هذا إمام فاضل؟ .
فقال له الباجي: أتدري مَنْ هذا؟ هو إمام الأئمة.
قال: مَنْ؟
قال: الذي جلستَ فوقه تقي الدين السبكي.
ولعل هذا كان في سنة ثلاثَ عشرةَ وسبعمائة.
وأما شيخه ابن الرفعة فكان يعامله معاملةَ الأقران، ويبالغ في تعظيمه، ويعرض عليه ما يصنفه في "المَطْلبَ".
وكذلك شيخه الحافظ أبو محمد الدمياطي لم يكن عنده أحدٌ في منزلته
(2)
.
ولو أخذتُ أعدُّ مقالة أشياخه فيه لطال الفصل. وبلغني أن ابن الرفعة حضر مرةً إلى مجلس الحافظ أبي محمد الدمياطي، فوجد الشيخَ الإمامَ الوالدَ
(1)
هكذا في النسخة المطبوعة المحققة من "الطبقات الكبرى"، والظاهر أن الصواب حذف "عن" الأولى، فتكون الجملة:"ثم قال الأمير للباجي الذي عن يساره"، أي: الباجي عن يسار الأمير.
(2)
انظر: الطبقات الكبرى 10/ 104.
بين يديه، فقال:"محدِّث أيضًا"! وكان ابن الرفعة لعظمة الوالد في الفقه عنده يظن أنه لا يعرف سواه.
فقال الدمياطي لابن الرفعة: كيف تقول؟ .
قال: قلت للسبكي: محدِّث أيضًا! .
فقال: إمام المحدثين.
فقال ابن الرفعة: وإمام الفقهاء أيضًا.
فبلغت شيخَه الباجي، فقال: وإمام الأصوليين.
وسمعتُ صاحبَنا شمسَ الدين محمد بن عبد الخالق المقدسيّ المقرئ
(1)
، يقول: كنت أقرأ عليه القِراءات، وكنتُ لكثرة استحضاره فيها أتوهم أنه لا يدري سواها، وأقول: كيف يَسَع عمرُ الإنسان أكثر من هذا الاستحضار! .
وسمعتُ الشيخ سيف الدين أبا بكر الحريري
(2)
، مدرِّس المدرسة الظاهريّة، البَرَّانية - يقول: لم أرَ في النحو مثله، وهو عندي أنحى من أبي حَيَّان.
وسمعتُ عن سيف الدين البغدادي، شيخهِ في المنطق - أنه قال: لم أرَ في العجم ولا في العرب مَنْ يعرف المعقولاتِ مثلَه.
(1)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قرأت بخط الشيخ تقي الدين السبكي: أنه كان يدري القراءات، ومات في سابع رجب سنة 748". نظر: الدرر 3/ 494.
(2)
لم أقف على ترجمته.
وسمعتُ جماعة من أرباب علم الهيئة يقولون: لم نر مثلَه فيها.
وكذلك سمعتُ جماعة من أرباب علم الحساب.
وعلى الجملة: لا يمارِي في أنه كان إمامَ الدنيا في كلِّ علم على الإطلاق، إلا جاهلٌ به، أو معانِد.
ولقد سمعتُ الحافظ صلاح الدين خليل بن كَيْكَلَدِيَّ العلائيَّ يقول: الناس يقولون: ما جاء بعد الغزاليِّ مثلُه، وعندي أنهم يظلمونه بهذا، وما هو عندي إلا مثلُ سفيانَ الثوريِّ"
(1)
.
قال الحافظ العراقي رحمه الله وهو تلميذه: "طلب الحديث في سنة 703 هـ، ثم انتصب للإقراء، وتفقَّه به جماعة من الأئمة، وانتشر صيته وتواليفه، ولم يخلف بعده مثله"
(2)
.
وكذا قال الحافظ الحسيني رحمه الله وهو تلميذه أيضًا: "وكان رأسًا في كل علم. . . وتخرج به أئمة، وحَمَل عنه أُمم، ولم يخلف بعده مثله رحمه الله"
(3)
.
وقد نقل التاج رحمه الله ثناء الشيخ أبي العباس العُمَري، وأطال النقل عنه في ثنائه على التقي رحمه الله؛ لأن أبا العباس العمري كان بينه وبين والده شحناء فيكون ثناء أبي العباس مجردًا عن الهوى والمحاباة، وثناؤه لا يبعد عن ثناء التاج رحمهما الله تعالى، مما يُطَمْئن بأنَّ ثناء التاج رحمه الله
(1)
انظر: الطبقات الكبرى 10/ 194 - 197.
(2)
نظر: الدرر 3/ 70.
(3)
انظر: ذيول العِبَر في خَبَر مَنْ غَبَر 4/ 168.
لم يكن إلا بيانًا للحقيقة التي يعرفها، وربما يجهلها البعض لا سيما المتحاملون، فلا يقبلون تزكية الابن لأبيه، وما عليه ألا يقبلها أولوا الجهل والتحامل، ورحم الله القائل:
ما ضَرَّ شمسَ الضُّحى في الأُفْقِ طالعةً
…
أن لا يَرى ضوءَها مَن ليس ذا بَصَرِ
يقول التاج رحمه الله "وذكره الفاضل الأديب أبو العباس أحمد بن يحيى بن فضل الله العُمَريُّ، في كتاب "مسالك الأبصار"، فقال بعد ذِكْر نسبه: حُجَّة المذاهب، مفتي الفِرَق، قُدوة الحفَّاظ، آخر المجتهدين، قاضي القضاة، تقي الدين أبو الحسن، صاحب التصانيف، التقيُّ البَرُّ، العليُّ القَدْر.
سَمِيُّ عليٍّ كَرَّم الله وجهه، الذي هو باب العلم، ولا غَرْوَ أنْ كان هذا المدخَل إلى ذلك الباب، والمستخرِج مِن دقيق ذلك الفضلِ هذا اللُّباب، والمُسْتَمِير من تلك المدينة التي ذلك البابُ بابُها، والواقف عليها من سَمِيِّه، فذاك بابها، وهذا بَوَّابُها
(1)
. وبحرٌ لا يُعرف
(1)
حديث: "أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها" أخرجه الحاكم في المناقب في مستدركه 3/ 127، والطبراني في معجمه الكبير، عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهم مرفوعًا، وحَسَّن السخاوي رحمه الله حديث ابن عباس رضي الله عنهما. انظر: المقاصد الحسنة ص 97 - 98، قال ابن عراق الكناني رحمه الله في "تنزيه الشريعة". "وسئل الحافظ ابن حجر عن هذا الحديث في فتيا، فكتب عليها هذا الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه، وخالف أبو الفرج بن الجوزي فذكره في الموضوعات، والصواب خلاف قولهما معًا، وأن الحديث من قسم الحسن، لا يرتقي إلى الصحة، ولا ينحط إلى الكذب، وبيان ذلك يستدعي طولًا، ولكن =
له عِبْر
(1)
، وصَدْر لا يُداخِله كِبْر، وأفقٌ لا تَقيسُه كفُّ الثريّا بِشِبْر، وأَصِيلٌ
(2)
قَدْرُه أجلُّ مما يُمَوِّه به لُجَيْنَ
(3)
النهار ذائبُ التِّبْر. إمامٌ ناضح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنِضالِه، وجاهد بجِدالهِ، ولم يُلَطِّخ بالدماء حَدَّ نِصَالِه.
حَمَى جنابَ النبوةِ الشريفَ بقيامه في نصره، وتسديد سهامه للذبِّ عنه من كِنانة مِصْره، فلم يُخْطِ على بُعْدِ الدِّيار سهمُه الراشِق، ولم يُخْفِ مَسامَّ تلك الدَّسائس فَهْمُه الناشِق. . . . .
ولله أوسٌ آخَرُونَ وخَزْرجُ
(4)
. . . بَزَغ مِنْ مَطْلع الصحابة رضي الله عنهم، ونزع به عِرْقُه إلى التابعين لهم بإحسان، وهو مثلهم إن لم يكن منهم.
= هذا هو المعتمد. وقال في "لسان الميزان": هذا الحديث له طرق كثيرة في مستدرك الحاكم أقل أحوالها أن يكون للحديث أصل، فلا ينبغي أن يُطلق عليه القول بالوضع. انتهى. وللحافظ العلائي في أجوبته عن الأحاديث التي تعقبها السراج القزويني على "مصابيح البغوي" فصلٌ طويل في الرد على ابن الجوزي وغيره ممن حكم بوضع هذا الحديث، وحاصله الحكم على الحديث بأنه حسن". انظر: تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة 1/ 378. وانظر: مجمع الزوائد 9/ 114، الكنز الثمين في أحاديث النبي الأمين للغماري 189.
(1)
العِبْر: بكسر العين، وقد تفتح: الشاطئ. انظر: لسان العرب 4/ 529، مادة (عبر).
(2)
الأصيل: هو العَشِيُّ - انظر: لسان العرب 11/ 16، مادة (أصل).
(3)
اللُّجَيْن: الفضة. انظر: لسان العرب 13/ 379، مادة (لجن).
(4)
صَدْره: فيدرِكُ ثأرَ الله أنصارُ دِينهِ. وهو لابن الرومي. انظر: ديوانه ص 497، وانظر: مقاتل الطالبيين ص 656.
وبَرَّز في طلب العلم حتى أسكت لسانَ كلِّ متكلِّم، وأمات ذِكْر كلِّ متقدِّم، وأحيا إمامة الشافعيِّ بنشر مذهبِه، ونَصْرِ ذي النسب القرشيِّ في عَلْياء رُتَبِه. . . . .
لا تَرِد الهِيمُ
(1)
إلا حياضَه، ولا يَعِدُ النسيمُ إلا رياضَه
(2)
، حتى تَفَردَّ والزمانُ بعدد أهله مشحون، والعصر بمحاسن بنيه مفتون. . . . .
وانتهت إليه مَشْيَخةُ دار الحديث بالاستحقاق فَوَلِيَها، وعُرِضَتْ عليه أخواتُها فما رَضِيَها. . . . .
وهذا هو اليومَ - والله يُبْقيه - خيرُ مَنْ أظلَّتْه خَضْراؤُها، وصَغُرت لدى قَدْرهِ الجليلِ كبراؤُها، قد ملك قلوبَ أهلها المتباينة، وساق بعَصاه سَوَائِم شُرُدِها
(3)
المتعاصِيَة، واستَوْسَق به أمرُ الشام لعليٍّ
(4)
، وكان لا يُطيع إلا معاوية. انتهى
(5)
.
(1)
أي: الإبل العطاش. انظر: لسان العرب 12/ 627، مادة (هيم).
(2)
رِيَاض: جمع رَوْضه، وهي الأرض ذات الخضرة، والبستان الحسن.
انظر: لسان العرب 7/ 162، المصباح 1/ 263، مادة (روض) والمعنى: أن النسيم لا يأتي ولا يَرِد إلا إليه؛ لأنه لم يَعِدْ أحدًا غيرَه بالمجيء إليه.
(3)
شُرُد: جمع شَرُود، مثل زَبُور وزُبُر.
انظر لسان العرب 3/ 237، مادة (شرد).
(4)
أي: اجتمع أهل الشام على طاعة علي رضي الله عنه بسببه. انظر: لسان العرب 10/ 380، مادة (وسق) وهذا والله أعلم إشارة إلى رَفْضٍ النَّصْب وإزالته عن الشام، والنَّصْب: هو بُغض علي رضي الله عنه وآله، وكان منتشرًا بالشام.
(5)
أي: كلام ابن فضل الله العُمَري، رحمه الله تعالى.
وذكر بعد ذلك شيئًا من حاله، وقال في آخره: وانتهت إليه رياسةُ العلم في القِراءات، والحديث، والأصلَيْن، والفقه.
هذا كلامُ ابن فضل الله، ولا يَخفى ما كان بينه وبين الوالد من الشحناء"
(1)
.
وقد ذكر التاج رحمه الله بعد ذلك ما قاله عن والده الشيخُ الإمام صلاحُ الدين خليل بن أيْبَك الصَّفديُّ في كتابه "أعيان العَصْر"، وهو مِنْ تلامذته، ويحكي ما شاهده لا ما نُقِل إليه، وكلامه لا يَخرج عما قاله التاج، فَرَحم الله الجميع، وحَشَرنا في زمرتهم، ولولا خشية الإطالة لنقلت ما قاله الصفدي، ولكن أكتفي بهذين البيتين اللذَيْن قالهما الصفدي رحمه الله:
يا سَعْدَ هذا الشافعيِّ الذي
…
بَلَّغهُ اللهُ تعالى رضاهْ
يَكفيه يومَ الحشرِ أنْ عُدَّ في
…
أصحابِه السُّبْكيُّ قاضي القضاهْ
(2)
وقد وضع الأديب الفاضل بدر الدين الحسن بن محمد بن حبيب
(3)
(1)
انظر: الطبقات الكبرى 10/ 148 - 157.
(2)
انظر: أعيان العصر 3/ 418، الطبقات الكبرى 10/ 157.
(3)
هكذا ورد اسمه في ترجمة ابن السبكي لوالده، والظاهر أن هذا تصحيف من الناسخ، فإن المذكور هو الحسن بن عمر بن الحسن بن عمر بن حبيب، أبو محمد بدر الدين الدمشقي الأصل الحلبي الشافعي. المسند الأديب، المنشئ المؤرخ. ولد سنة 710 هـ. قال ابن حجر:"كان فاضلًا كيسًا صحيح النقل". من مصنفاته: "درة الأسلاك في دولة الأتراك" وهو سجع كله، و"نسيم الصبا" في الأدب، و"أسنى المطالب في =
كتابًا في مناقب التقي رحمه الله، سماه "إعلام الأعلام بأحوال شيخ الإسلام والشيخ الإمام" وقد نقل منه التاج في ترجمته الخاصة بوالده، وهي غير ترجمته التي أنقل منها في "الطبقات الكبرى"، وقد أثنى ابن حبيب على التقي - رحمهما الله - بثناء عجيب، وحاصله أنه واحد زمانه علمًا وعملًا وأخلاقًا، فهو كما قال ابن حبيب:
عَلَّامة العلماء والبحرُ الذي
…
لا ينتهي ولكلِّ بحرٍ ساحلُ
وهو كما قال ابن حبيب بعد كلام طويل في وصفه: "وبالجملة فتفصيل أحواله بعيدُ المرام، وشَرْحُ أنبائه يَعجز عن إعرابه ألسن الأقلام، وما في النفس منه لا يمكن أن يُحصر، واختصار القول أولى وأجدر:
وما أنا في الثناء عليه إلا
…
كمَنْ أهدَى إلى صُبحٍ شهابا
والله تعالى يُحِلّه روضَ رضوانه، ويُمتِّعه بالدَّاني مِنْ جَنى جِنانه"
(1)
.
وأجد من الضروري أن أنقل كلام التاج رحمه الله في بيان سعة علم والده على التفصيل، وقوة حفظه الخارق، واطلاعه العجيب على شتى العلوم؛ ليُعْلم أن ما قيل في الرجل ليس مبالغة، ولا محاباة، بل الرجل من عجائب الدهر، وفرائد الزمان، والله سبحانه وتعالى يُؤتي فضله من يشاء {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}
(2)
، ولله در القائل:
= أشرف المناقب" وهو سجع أيضًا. توفي بحلب سنة 779 هـ. انظر الدرر 2/ 29، طبقات ابن قاضي شهبة 3/ 88، شذرات 6/ 262.
(1)
انظر حاشية الطبقات الكبرى 10/ 161 - 165.
(2)
سورة البقرة: 105. وسورة آل عمران: 74.
وليس على الله بمُستنْكَرٍ
…
أن يَجْمع العالمَ في واحدِ
(1)
قال التاج رحمه الله:
"قلتُ: أما أنا فأقول، والله على لسان كل قائل: كان ذهنه أصحَّ الأذهان، وأسرعها نفاذًا، وأوثقها فهمًا، وكان آية في استحضار التفسير، ومتون الأحاديث، وعَزْوِها، ومعرفة العِلل وأسماءِ الرجال، وتراجِمهم ووَفَياتهم، ومعرفةِ العالِي والنازِل، والصحيحِ والسقيم، عجيبَ الاستحضار للمغازي والسِّيَر والأنساب، والجرح والتعديل، آيةً في استحضار مذاهب الصحابة والتابعين، وفِرَق العلماء، بحيث كانت تَبْهَتُ الحنفية والمالكية والحنابلة إذا حضروه؛ لكثرة ما ينقله عن كُتُبهم التي بين أيديهم، آية في استحضار مذهب الشافعي، وشَوَارِد فروعه، بحيث يظن سامعُه أنه البحر الذي لا تغيب عنه شاردة. إذا ذُكر فَرعٌ وقال: لا يحضرني النقلُ فيه - فيعِزُّ على أبناء الزمان وُجدانُه بعد الفحص والتنقيب، وإذا سُئل عن حديث، فشَذَّ عنه - عَسُر على الحفَّاظ معرفتُه.
وكان يُقال: إنه يستحضر الكتب الستة غير ما يستحضره من غيرها من المسانيد والمعاجم والأجزاء.
وأنا أقول: يبعُد كلَّ البُعْد أن يقول في حديث: لا أعرف مَنْ رواه، ثم يُوجد في شيءٍ من الكتب الستة، أو المسانيد المشهورة.
وأما استحضار نصوصِ الشافعي وأقوالهِ - فكان يكاد يحفظ "الأم"،
(1)
قائل البيت أبو نواس. انظر: ديوانه ص 454، تحقيق د/ أحمد عبد المجيد الغزالي.
و"مختصر المزني"
(1)
، وأمثالهما.
وأما استحضاره في علم الكلام، والمِلَلِ والنِّحَل، وعقائد الفِرَق من بني آدم - فكان عَجَبًا عُجابا.
وأما استحضاره لأبيات العرب وأمثالها ولغتها - فأمرٌ غريب، لقد كانوا يقرؤون عليه "الكشاف"، فإذا مَرَّ بهم بيتٌ من الشعر سرد القصيدة، غالِبَها أو عامَّتَها مِنْ حفظه، وعزاها إلى قائلها، وربما أخذ في نظائرها، بحيث يتعجب مَنْ يحضر.
وأما استحضاره لـ "كتاب سيبويه"
(2)
، وكتاب "المُقَرَّب" لابن عُصْفُور
(3)
- فكان عجيبًا، ولعله درس عليهما.
(1)
إسماعيل بن يحيى المزني المصري، أبو إبراهيم الفقيه الشافعي تلميذ الإمام الشافعي. كان زاهدًا عالمًا، مجتهدًا مناظرًا. ولد سنة 175 هـ. قال الشافعي: المزني ناصر مذهبي. وقال: لو ناظر الشيطان لغلبه. اهـ. من مصنفاته: الجامع الكبير، الجامع الصغير، الترغيب في العلم. توفي سنة 264 هـ. انظر الأنساب 5/ 278، وفيات 1/ 217، سير 12/ 492، الطبقات الكبرى 2/ 93، شذرات 2/ 148.
(2)
هو إمام النحو حجة العرب أبو بشر عمرو بن عثمان بن قَنْبر الفارسي ثم البصري، الملقَّب سيبويه. نشأ بالبصرة وطلب الفقه والحديث مدة، ثم أقبل على العربية فبرع وساد أهل العصر، وألف فيها كتابه الكبير الذي لا يُدْرَك شأوه فيه. توفي سنة 180 هـ، وعمره اثنتان وثلاثون سنة. انظر: وفيات 3/ 463، سير 8/ 351، بغية الوعاة 2/ 231.
(3)
أبو الحسن علي بن مؤمن بن محمد بن علي بن عُصْفُور النحوي الحضرمي الإشبيلي، حامل لواء العربية في زمانه بالأندلس. ولد سنة 597 هـ، وكان أصبر الناس على المطالعة لا يَمَلُّ مِنْ ذلك، ولم يكن عنده ما يؤخذ عنه غير النحو، ولا تأهل لغير =
وأما حفظه لشوارد اللغة فأمر مشهور، وكنت أنا أقرأ عليه كتاب "التلخيص" للقاضي جلال الدين
(1)
، في المعاني والبَيان، أنا وآخَرُ معي، ولم يكن فيما أظن وقف على "التلخيص" قبل ذلك، وإنما أقرأه لأجلي، وكنا نُحْكِم المطالعةَ قبل القراءة عليه، فيجيء فيستحضر من "مفتاح السَّكَّاكي" وغيرِه من كلام أهل المعاني والبيان، ما لم نَطَّلع عليه نحن، مع مبالغتنا في النظر قبل المجيء، ثم يُوَشِّح ذلك بتحقيقاته التي تُطْرِب العقول.
وكنت أقرأ عليه "المحصول" للإمام فخر الدِّين، و"الأربعين" في الكلام له، و"المُحَصَّل" فكنت أرى أنه يحفظ الثلاث عن ظهر قلب.
وأما "المُهَذَّب" و"الوسيط" فكان في الغالب ينقل عبارتَهما بالفاء والواو، كأنه درس عليهما.
وأما "شرح الرافعي" الذي هو كتابنا، ونحن ندأب فيه ليلًا ونهارًا، فلو قلتُ كيف كان يستحضره - لاتَّهمني مَنْ يسمعني.
= ذلك. قال الصفديُّ: ولم يكن عنده ورع، وجلس في مجلس شراب، فلم يزل يرجم بالنارنج إلى أن مات. توفي سنة 669 هـ.
انظر: شذرات 5/ 330، الأعلام 5/ 27.
(1)
هو القاضي محمد بن عبد الرحمن بن عمر العجلي القزويني ثم الدمشقي، جلال الدين أبو المعالي الشافعي. ولد بالموصل سنة 666 هـ. اشتغل في الفنون، وأتقن الأصول والعربية والمعاني والبيان. من مصنفاته:"تلخيص المفتاح" في المعاني والبيان، "والإيضاح" شرح التلخيص، وغيرهما. توفي سنة 739.
انظر: الدرر 3/ 4، شذرات 6/ 123، الأعلام 6/ 192.
هذا وكأنه ينظر "تعليقة" الشيخ أبي حامد
(1)
، والقاضي الحسين
(2)
، والقاضي أبي الطيب
(3)
، و"الشامل" و"التَّتِمَّة" و"النهاية" وكتب المحامِلِيّ
(4)
، وغيرهم مِنْ قُدماء الأصحاب، ويتكلم لكثرة ما يستحضره منها بالعبارة.
حَكَى لي الحافظ تقيُّ الدين بن رافع
(5)
، قال: سَبَقنا مرةً إلى البستان،
(1)
هو أحمد بن أبي طاهر محمد بن أحمد الإسفراييني، أبو حامد، شيخ الإسلام وشيخ الشافعية ببغداد. ولد سنة 344 هـ. من مؤلفاته: التعليقة الكبرى، وكتاب في أصول الفقه. توفي سنة 406 هـ. انظر: تاريخ بغداد 4/ 368، الطبقات الكبرى 4/ 61، سير 17/ 193.
(2)
هو الإمام الحسين بن محمد بن أحمد، أبو علي القاضي المَرْوَرُّوذِيُّ، فقيه خراسان، وحَبْر الأمة. من مصنفاته:"التعليقة" في الفقه، وغيرها. توفي سنة 462 هـ.
انظر: الطبقات الكبرى 4/ 356، شذرات 3/ 310، الأعلام 2/ 254.
(3)
هو الإمام القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر الطبري الشافعي، شيخ الإسلام، وفقيه بغداد. ولد سنة 348. من مصنفاته: شرح مختصر المزني، التعليقة الكبرى في الفروع الشافعية، والمجرد. توفي سنة 450 هـ. انظر: تاريخ بغداد 9/ 358، طبقات الفقهاء ص 135، سير 17/ 668، الطبقات الكبرى 5/ 12.
(4)
هو أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم الضبي البغدادي، المحاملي، الإمام الكبير شيخ الشافعية. ولد سنة 368 هـ. من مصنفاته: المجموع، والمقنع، واللباب، وغيرها. توفي سنة 415 هـ، أو 414 هـ.
انظر تاريخ بغداد 4/ 372، طبقات الفقهاء ص 136، سير 17/ 403، الطبقات الكبرى 4/ 48.
(5)
هو محمد بن رافع بن أبي محمد هجرس السلامي تقي الدين أبو المعالي، الحوراني الأصل، المصري المولد والمنشأ ثم الدمشقي الشافعي. ولد سنة 704 هـ. كان =
فجئنا بعدَه، ووجدناه نائمًا، فما أردنا التشويشَ عليه، فقام من نومه، ودخل الخَلاء على عادته، وكان يريد أن يكون دائمًا على وضوء، فلما دخل ظهرَ لنا كراس تحت رأسه، فأخذناه فإذا هو مِنْ "شرح المنهاج"، وقد كتب عن ظَهر قلب نحو عشرة أوراق، قال: فنظرها رفيقٌ كان معي، وقال: ما أَعجب لكتابته لها مِنْ حفظه، ولا مما نقله من كلام الرافعي و"الروضة"، وإنما أَعجب من نقله عن سُلَيم
(1)
في "المُجَرَّد"، وابن الصَّبَّاع
(2)
في "الشامل" ما نَقَل، ولم يكن عنده غير "المنهاج" ودواةٍ وورقٍ أبيض، وكنا قد وجدنا فيها نقولًا عنهما.
قلتُ أنا: مَن نظر "شرح المنهاج" بخطِّه عرف أنه كان يكتب من
= محدثًا متقنًا، معجم شيوخه يشتمل على أكثر من ألف شيخ، وكان تقي الدين السبكي يرجِّحه في معرفة اصطلاح أهل الحديث على ابن كثير. من مصنفاته: معجم شيوخه، ذيل على تاريخ بغداد لابن النجار. توفي سنة 774 هـ بدمشق. انظر: الدرر 3/ 439، شذرات 6/ 234.
(1)
سُلَيْم بن أيوب بن سُلَيْم، أبو الفتح الرازي الشافعي المفسِّر، صاحب التصانيف. ولد سنة 365 هـ. كان فقيهًا أصوليًا رأسًا في العلم والعمل. من مصنفاته:"ضياء القلوب" في التفسير، "غريب الحديث". تُوفي غريقًا سنة 447 هـ. انظر: الطبقات الكبرى 4/ 388، طبقات الفقهاء ص 139، شذرات 3/ 275، الأعلام 3/ 116.
(2)
هو الإمام العلامة الفقيه الأصولي المجتهد عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد البغدادي، أبو نصر بن الصباغ الشافعي. ولد ببغداد سنة 400 هـ. من مصنفاته:"الكامل" في الخلاف بين الحنفية والشافعية، "تذكرة العالم والطريق السالم"، "العدة" في أصول الفقه. توفي سنة 447 هـ. انظر: سير 18/ 264، الطبقات الكبرى 5/ 122، شذرات 3/ 355.
حفظه، ألا تراه يَعمل المَسْطَرة والورق على قَطْع الكبير، أحدَ عشَر سطرًا، وما ذلك إلا لأنه يكتب من رأس القلم، ويُريد أن ينظر ما يُلْحِقُه، فلذلك يعمل المَسْطَرة مُتَّسِعةً، ويترك بياضًا كثيرًا.
قلت: وكنت أراه يكتب متن "المنهاج"، ثم يفكر، ثم يكتب، وربما كتب المتن، ثم نظر الكتب، ثم وضعها من يده، وانصرف إلى مكانٍ آخر، وجلس ففكَّر ساعة، ثم كتب.
وكثير من مصنَّفاته اللِّطاف كتبها في دُرُوج ورق المُراسَلات، يأخذ الأوصال ويُثنيها طُولًا، ويجعل منها كراسًا ويكتب فيه؛ لأنه ربما لم يكن عنده ورقُ كراريس، فيكتب فيها من رأس القلم، وما ذلك إلا في مكانٍ ليس عنده فيه كتب ولا ورقُ النسخ.
وأما البحث والتحقيق وحُسْنُ المناظرة - فقد كان أستاذَ زمانه، وفارسَ ميدانه، ولا يختلف اثنان في أنه البحر الذي لا يُسَاجَل في ذلك، كلُّ ذلك وهو في عَشْر الثمانين، وذِهنُه في غاية الاتقاد، واستحضاره في غاية الازدياد.
ولما شَغَرت مشيخةُ دار الحديث الأشرفيَّة، بوفاة الحافظ المِزِّي - عَيَّن هو الذهبي لها، فوقع السَّعْيُ فيها للشيخ شمس الدين بن النقيب
(1)
، وتُكُلِّم في حق الذهبي: بأنه ليس بأشعريّ، وأن المِزِّيَّ ما وَلِيَها
(1)
هو الإمام محمد بن أبي بكر بن إبراهيم الدمشقي القاضي شمس الدين بن النقيب الشافعي. ولد سنة 661 أو 662 هـ. كان من أصحاب الإمام النووي رضي الله عنه، وكان من قضاة العدل وبقايا السلف. من مصنفاته: مقدمة في التفسير، عمدة السالك وعدة الناسك. توفي بدمشق سنة 745 هـ. انظر: الدرر 3/ 398، الطبقات الكبرى 9/ 307، الأعلام 6/ 55.
إذ وَلِيَها إلا بعد أن كتب خطه وأشهد على نفسه: بأنه أشعريُّ العقيدة.
واتسع الخَرْق في هذا، فجمع ملك الأمراء الأمير علاء الدين ألْطُنْبُغا نائبُ الشام إذ ذاك - العلماءَ، فلما استشار الشيخَ الإمام - أشار بالذهبي.
فقام الصائح بين الشافعية والحنفية والمالكية، وتوقَّفوا فيه أجمعون، وكان من الحاضرين الشيخ نجم الدين القَحْفازيُّ
(1)
شيخ الحنفية، فقال له الشيخ الإمام: أَيْشَ تقول؟ فقال:
وإليكُمُ دارُ الحديث تُسَاقُ
أبْدلَ "هذا" بـ "دار".
فاستحسن الجماعة هذا منه، ودار إلى مَلِك الأمراء، وقال: أعْلَمُ الناس اليوم بهذا العلمِ قاضي القضاة، والذهبيُّ، وقاضي القضاة أشعريٌّ قطعًا، وقطع الشك باليقين أولى.
فَوَلِيَها الشيخ الإمام، ولم يكن مختارًا ذلك، بل كان يكرهه، وقام من وقته إلى دار الحديث، وبين يديه الذهبي وخَلْق، فروى بسنده من طرقٍ شتى منه إلى أبي مُسْهِر - حديثَ "يا عبادي"، وتكلم على رجاله ومُخَرِّجه، بحيث لم يسع المجلسُ الكلامَ على أكثرَ من رجال الحديث
(1)
هو علي بن داود بن يحيى بن كامل الزبيري، القرشي الأسدي، من نسل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، ولد سنة 668 هـ. كان شيخ أهل دمشق في عصره، خصوصًا العربية. قال الذهبي:"كان من أذكياء وقته، مع الديانة والورع". لم يصنف إلا مَنْسكًا للحج خشية من الانتقاد عليه في التصنيف. توفي سنة 745 هـ. انظر: الدرر 3/ 47، بغية الوعاة 2/ 166، الجواهر المضية 4/ 283.
ومُخَرِّجه، إلى أن بُهِت الحاضرون، لعلمهم أن الشيخ الإمام مِن سنين كثيرةٍ لا ينظر الأجزاءَ ولا أسماءَ الرجال، ولقد قال الذهبي:
وما عَلَّمَتْنِي غيرَ ما القلبُ عالِمُهْ
(1)
والله كنتُ أعلم أنه فوق ذلك، ولكن ما خَطَر لي أنه مع التَّرك والاشتغال بالقضاء يَحْضُر من غير تهيئةٍ، ويُسْنِد هذا الإسناد. انتهى.
وبالجملة: كان مع صحة الذهن واتِّقاده - عظيمَ الحافظة، لا يكاد يسمع شيئًا إلا حَفِظه، ولا يحفظ شيئًا فينساه، وإن طال بُعْدُه عن تذكُّره، جُمِعت له الحافظة البالغة، والفهمُ الغريب، فما كان إلا نُدْرَةً في الناس، وَوَحقِّ الحقِّ لو لم أشاهدْه، وحُكِي لي أنَّ واحدًا من العلماء احتوى على مثل هذه العلوم، وبلغ أقصى غاياتها، نقلًا وتحقيقًا، مع صحة الذهن، وجودة المناظرة، وقوة المغالبة، وحُسْنِ التصنيف، وطولِ الباع في الاستحضار، واستواءِ العلوم بأسرها في نَظَره - أحسَبُه وَهْمًا.
وأقول: كيف تَفِي القُوَى البشرية بذلك، ولكن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء:
وليس على الله بمُسْتنكرٍ
…
أنْ يَجْمع العالَمَ في واحدِ"
قال الإمام السيوطي رحمه الله: "وقال ابنه في "الترشيح": قال
(1)
البيت للمتنبي من قصيدته التي يمتدح بها سيف الدولة، وهو بتمامه:
وما اسْتَغْرَبَتْ عيني فِراقًا رأيتُهُ
…
ولا عَلَّمَتْنِي غيرَ ما القلبُ عالِمهْ
انظر: ديوانه 3/ 332.
شهاب الدين بن النقيب صاحب "مختصر الكفاية" وغيرها من المصنفات: جلستُ بمكة بين طائفةٍ من العلماء، وقعدنا نقول: لو قَدَّر الله تعالى بعد الأئمة الأربعة في هذا الزمان مجتهدًا عارفًا بمذاهبهم أجمعين يركِّب لنفسه مذهبًا من الأربعة، بعد اعتبار هذه المذاهب المختلفة كلِّها - لازدان الزمانُ به، وانقاد الناس، فاتفق رأيُنا على أنَّ هذه الرتبة لا تعدو الشيخَ تقي الدين السبكي، ولا ينتهي لها سواه"
(1)
.
وأختم بمقالة التاج التي يكسوها ثوب الإنصاف، ومعرفة عظمة بعض أقرانه مع عدم الإجحاف، يقول رحمه الله:
"وقد عَرَّفناك أنه تفرَّد في الإقليم، وصار المشارَ إليه بالعلوم كلِّها، الملحوظَ بعَيْن التحقيق، من سنة ست عشرةَ التي مات فيها الشيخ صدر الدين بن الوكيل قرينُه
(2)
، واستمر إلى وفاة الشيخين تقي الدين بن تيمية، وكمال الدين بن الزَّمْلَكاني
(3)
، فلما تُوُفِّيا تَفَرَّد في العصر بأجمعه، ولا أعلم
(1)
انظر: حسن المحاضرة 1/ 321، الرد على مَنْ أخلد إلى الأرض ص 162.
(2)
هو الإمام محمد بن عمر بن مكي بن عبد الصمد، صدر الدين بن المُرَحِّل الشافعي ولد سنة 665 هـ. كان إمامًا كبيرًا، بارعًا في المذهب والأصلين، يضرب المثل باسمه، فارسًا في البحث نَظَّارًا، مُفْرِط الذكاء، عجيبَ الحافظة، حتى قيل: إنه حفظ كتبًا وُضِع بعضها على بعض فكانت قامة. من مصنفاته: شرح الأحكام لعبد الحق، الأشباه والنظائر. توفي بمصر سنة 716 هـ. انظر: الطبقات الكبرى 9/ 253، الدرر 4/ 115.
(3)
هو الإمام العلامة محمد بن علي بن عبد الواحد بن عبد الكريم، كمال الدين بن الزَّمْلَكَانِيّ الشافعي. ولد سنة 667 هـ. صنف الرد على ابن تيمية في الطلاق، وفي =
غيره مكث سبعًا وعشرين سنة لا يختلف اثنان في أنه أعلمُ أهلِ الأرض على الإطلاق في كل علم، فإنه مكث من سنة تسع وعشرين، إلى سنة ست وخمسين، وفيها مات عالم الأرض بالإجماع"
(1)
.
ونظيرها قوله رحمه الله: "وولِيَ بعد وفاة الحافظ المِزّيِّ مشيخةَ دار الحديث الأشرَفِيَّة، فالذي نراه أنه ما دخلها أعلمُ منه، ولا أحفظُ من المِزِّيِّ، ولا أورعُ من النووى وابن الصلاح"
(2)
.
ونظيرهما قوله: "لم تَرَ عينايَ أحفظَ من أبي الحجَّاج المِزِّي، وأبي عبد الله الذهبي، والوالد، رحمهم الله. وغالبُ ظني أن المِزِّي يفوقهما في أسماء رجال الكتب الستة، والذهبي يفوقهما في أسماء رجال مَنْ بعد الستة، والتواريخِ والوَفَيات، والوالد يفوقهما في العِلَل، والمُتُونِ، والجرحِ والتعديل، مع مشاركة كلٍّ منهم لصاحِبَيْه فيما يتميَّزُ به عليه - المشاركةَ البالغة"
(3)
.
= الزيارة، وصنف كتابًا في تفضيل البشر على الملك. توفي سنة 727 هـ. انظر: الطبقات الكبرى 9/ 190، الدرر 4/ 74.
(1)
انظر: الطبقات الكبرى 10/ 167.
(2)
انظر: الطبقات الكبرى 10/ 169.
(3)
انظر: الطبقات الكبرى 10/ 220.