الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يُطلب منهم من أموال وهم صاغرون
(1)
.
وأما الصناعة:
فقد ازدهرت في عصر المماليك نتيجةً لكثرة الثروة. والمعروف أن الصانع أو الفَنَّان يحاول دائمًا أن يرقى بإنتاجه إذا اطمأنَّ إلى أنه سيجني في النهاية ثمنَ أتعابه، ويتقاضى جزاءً يناسب ما يبذله من جهدٍ ووقت، ومن ناحية أخرى فإن المستهلك إذا عظمت ثروته وفاضت عن مطالبه الأساسية فإنه يفكِّر في اقتناء الكماليات، ولا يضن بمالٍ يبذله في شراء التحف والحصول على النفائس. وكان هذا الوضع الذي أثَّر في ارتقاء الصناعة والصُّنَّاع على عصر المماليك عندما فاضت الخزائن بالثروة العظيمة، فانعكس أثر ذلك فيما خلَّفه ذلك العصر من مصنوعات راقية، بلغت شأوًا بعيدًا في الدقة والإتقان.
ومن المعلوم أن دولة المماليك دولةٌ حربية بكل معاني الكلمة، قامت وليدة المعركة الصليبية في أرض المنصورة
(2)
، وأثبتت جدارتها في ساحة الحرب ضد التتار والصليبيين في الشام، واستمدت بقاءها من نجاحها في الدفاع عن مصر والشام ضد الأخطار الخارجية الكبرى التي هددتهما في ذلك الدور الهام من العصور الوسطى. هذا إلى أن المماليك أنفسهم من سلاطين وأمراء وأجناد كانوا يمثِّلون طبقةً حربية تعتمد على الفروسية، ويستطيع كلُّ فردٍ فيها أن يصل إلى أسمى الدرجات، ويحقِّق أضخم الآمال
(1)
انظر: العصر المملوكي في مصر والشام ص 285 - 288.
(2)
انظر: معركة المنصورة في العصر المماليكي ص 7 - 8.
بفضل مهارته في القتال، واستعمال القوس والنشاب والحربة.
لذلك لا عجب إذا احتلت الصناعات الحربية مكانًا بارزًا في النشاط الصناعي لدولة المماليك، وقد وُجد بالقاهرة في ذلك العصر سوق كبير اسمه سوق السلاح ذَخَر بالأسلحة المتنوعة، وبالصُّنَّاع الذين كانوا يصنعونها، فإذا حدثت فتنة أو نشبت حربٌ هَرَع الأمراء والجنود إلى ذلك السوق، وعندئذٍ يرتفع سعر الحديد، وأجور الحدَّادين وصُنَّاعِ آلات السلاح؛ لإقبال الناس على شرائه.
ويرتبط بالصناعات الحربية صناعة السفن، إذ حَرِص سلاطين المماليك على إنشاء أسطول بحري قوي يحمي شواطئ دولتهم الواسعة، ويَصُدُّ غارات المعتدين، ويؤدِّب القراصنة الذين دأبوا على مهاجمة السفن الإسلامية في البحر المتوسط.
وكانت السفن الحربية على أنواع، منها الشواني والحراريق والطرائد:
أما الشواني: فكانت أعظمها شأنًا، وهي مراكب حربية كبيرة أقيمت فيها أبراج وقِلاع للدفاع والهجوم، وتكونت هذه الأبراج من عدة طبقات، تقف في الطبقة العليا منها العساكر المسلحة بالأقواس والسهام والحِراب، وفي الطبقة السفلى الملَّاحون بالمجاديف.
وأما الحراريق: فكانت أقلَّ حجمًا، وهي بمثابة ناقلات الجند والذخيرة، فكان يُحمل فيها المشاة المقاتلون فضلًا عن الذخيرة والبارود والنفط.
أما الطرائد: فهي السفن الخاصة بحمل الخيل، وكانت تتسع لنحو أربعين فرسًا، وأحيانًا لثمانين فرسًا
(1)
.
هذا عن الصناعات الحربية، أما الصناعات المدنية فكانت عديدة، وعلى جانب كبير من الرقي في عصر المماليك، ومن أهم هذه الصناعات صناعة المنسوجات المتنوعة، حتى غدت لمصر في ذلك العصر شهرة خاصة في صناعة أنواع معينة من المنسوجات، مثل قماش الفستيان نسبة إلى الفسطاط
(2)
، والقماش الدبيقي نسبةً إلى دَبِيق
(3)
. وكذلك اشتهرت دمياط بصناعة أقمشة من التيل ذات عدة ألوان بحيث يتغير لونها باختلاف الضوء الواقع عليها.
وسواءٌ كانت الأقمشة التي صُنعت في مصر في عصر المماليك من الحرير أو القطن أو الصوف أو الكتان، فإنها امتازت جميعًا بدقة الصناعة، وثبات الألوان، وجودة الخامة، ومتانة النسج، كما تشهد على ذلك قِطَع النسيج المتبقاة من ذلك العصر.
كذلك اشتهرت مصر في ذلك العصر بصناعة الفرش، والستور،
(1)
انظر: العصر المماليكي ص 288 - 291.
(2)
الفسطاط: هي المدينة التي بناها عمرو بن العاص رضي الله عنه في مصر، وسبب تسميتها بالفسطاط أن عمرو بن العاص نصب فسطاطه في تلك البقعة، ثم أمر المسلمين أن يحيطوا حول فسطاطه ففعلوا. انظر: معجم البلدان 4/ 263 - 264، حسن المحاضرة 1/ 25.
(3)
قال ياقوت رحمه الله: "دَبِيقٌ: بُليدة كانت بين الفَرَما وتِنِّيس من أعمال مصر، تنسب إليها الثياب الدبيقية، والله أعلم". معجم البلدان 2/ 438.
والخيام، والفساطيط، والحبال المكسوة بالقطن والحرير.
ولم تكن العنايةُ بصناعة المعادن في عصر المماليك أقلَّ منها بصناعة المنسوجات، فاستخدم النحاس بصفةٍ خاصةً في صناعة الثُّرَيَّات والأواني المنزلية والأباريق والصحون والطسوت وغيرها.
كذلك استخدم النحاس في عيسر المماليك في تغطية بعض أبواب المساجد وقصور السلاطين والأمراء، وكان النحاس عند استخدامه في هذا الغرض يُعَدُّ على هيئة صفائح رقيقة مُقَسَّمة إلى أشكال هندسية بديعة المنظر، وما زال بدار الآثار العربية بالقاهرة باب من مِصْراعين مُصَفَّحَيْن بصفائح من النحاس، منقوشة برسومات عربية رائعة، تتخللها كتابة بالنسخ الجميل، وهذا الباب كان لأحد أمراء السلطان قلاوون.
وازدهرت صناعة الزجاج في مصر في العصر المماليكي، وتشهد بذلك أعداد المِشْكاوات الزجاجية المحفوظة بدور الآثار، والتي تمتاز بجمال أشكالها، وانسجام زخرفتها، وإتقان صنعها.
وبالإضافة إلى ذلك صُنع في مصر الزجاج الملون المستخدم في الشبابيك، وكذلك بعض أنواع البلور الصخري المحبَّب.
أما الخزف فكانت مصر من المراكز الأساسية لصناعته في العالم الإسلامي، ومنها انتشر كثير من نماذجه إلى البلاد الأخرى.
وبلغت المصنوعات الخشبية درجةً كبيرة من التقدم في عصر المماليك، واتبع المصريون في زخرفة المصنوعات الخشبية عدة طرق.
ويضيق بنا المقام عن تتبع كافَّة الصناعات الصغيرة التي ازدهرت في عصر المماليك، ولكن يكفي أن نختتم هذا العرض السريع بالإشارة إلى أن مصر شهدت أيضًا في ذلك العصر عددًا من الصناعات الغذائية أهمها صناعة السكر، ويذكر المقريزي
(1)
أنه كان في سَمْهود
(2)
سبعة عشر معصرًا لعصير القصب، كما كان في ملوى عدة معاصر.
هذا عن الصناعة، أما الصُّنَّاع وأصحاب الحِرَف فقد خضعوا في عصر المماليك لنظام النقابات، فكان أفراد كل حرفة يُكَوِّنون نقابةً خاصةً بهم، لها نظام ثابت يحدِّد عددَهم ومعاملاتهم فيما بينهم وبين بعضٍ من ناحية، وفيما بينهم وبين الجمهور من ناحيةٍ ثانية، وفيما بينهم وبين الحكومة من ناحيةٍ ثالثة، ولكل نقابة من هذه النقابات رئيس أو شيخ يرأسهم، يفض مشاكل أفراد النقابة، ويرجعون إليه في كل ما يهمهم.
ولما كان دخول أيِّ فردٍ غريبٍ في حِرْفةٍ من الحِرَف يؤدي إلى منافسة
(1)
هو أحمد بن علي بن عبد القادر بن محمد الحسيني العبيدي، البعلي الأصل، المصري المولد والدار والوفاة، ويعرف بابن المقريزي وهي نسبة لحارة في بعلبك تُعرف بحارة المقارزة. ولد سنة 766 هـ بالقاهرة.
من تصانيفه: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، وعقد جواهر الأسفاط في ملوك مصر والفسطاط، والسلوك بمعرفة دول الملوك، والتاريخ الكبير، وغيرها. مات سنة 845 هـ. انظر: الضوء اللامع 2/ 21، حسن المحاضرة 1/ 557، معجم المؤلفين 2/ 11.
(2)
سمهود: بفتح السين وبالدال في آخرها على المشهور، ويقال بالطاء بدل الدال: قرية كبيرةٌ غربيَّ نيل مصر بالصعيد. انظر: تاج العروس 10/ 298، مادة (سمهط)، معجم البلدان 3/ 255.