الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في الدين. وكانت رقابة المحتسِب أشدَّ ما تكون على الأطعمة والمشروبات التي تباع في الأسواق والطرقات؛ للتأكد مِنْ سلامتها ونظافتها، حرصًا على صحة الناس، فإذا وجد بعضها فاسدًا أخذ البائع بالشدة
(1)
.
وبعد هذه الدراسة الموجزة عن الحياة الاقتصادية في عصر المماليك نتكلم عن الأحوال الداخلية للمجتمع.
بناء المجتمع:
كان المجتمع في عصر المماليك مجتمعًا طبقيًا، بمعنى أنه تألف من عدة طبقات متميزة بعضها عن بعض في خصائصها وصفاتها ومظاهرها، فضلًا عن نظرة الدولة لها ومقدار ما تتمتع به من حقوق أو تنهض به من واجبات.
وفي ظل مثل هذا التنظيم الطبقي يبدو الفارق كبيرًا بين الحكام والمحكومين، وبخاصة إذا كان الحكام أغرابًا عن البلاد وأهلها، لم تربطهم بأبناء مصر والشام رابطة الدم أو الأصل والجنس، مما جعل المماليك لا يشعرون في كثير من الحالات بروح التجاوب مع الأهالي، والعطف على مصالحهم، والعمل من أجل رفاهيتهم.
والواقع أن المماليك حكموا البلاد دائمًا بوصفهم طبقة عسكرية ممتازة، استأثروا بالحكم وبشؤون الحرب، ونظروا إلى الأهالي على أنهم أقلُّ منهم درجة أو درجات، لا ينبغي لهم أن يشاركوا في الحياة الحربية،
(1)
انظر: العصر المماليكي في مصر والشام ص 308 - 310.
وإذا سمح لبعضهم بالمشاركة في شؤون الحكم فبالقدر المحدود الذي تخوِّله صلاحيتهم. وتشير الشواهد التاريخية إلى أن المماليك لم يكونوا جميعًا من أصل واحد، بل كان منهم التركي والجركسي والمغولي والصيني والأسباني والألماني واليوناني والسلافي وغير ذلك من الجنسيات العديدة التي حملها تجار الرقيق إلى مصر. وقد شجع التجارَ على مزاولة تلك التجارة الأرباحُ الطائلة التي كانوا يحصلون عليها من وراء الاشتغال بها، إذ لم يضن سلاطين المماليك وأمراؤهم بالمال في شراء مزيد من المماليك يكونوا لهم سندًا ودعامة تقوِّي مركزَهم داخلَ البلاد وخارجَها. وبقدر ما في الملوك من مزايا وصفات طيبة ومواهب بقدر ما يرتفع ثمنه، وبالعكس بقدر ما قد يكون فيه من عيوب بقدر ما ينحط سعره، ولعل هذا هو السر في أن مملوكًا مثل قلاوون عُرف بالألفي؛ لأنه اشْتُرِي بألف دينار، وهو مبلغ كبير يستحق الفخر؛ لأنه يشير إلى عِظَم مواهبه وحُسْن صورته.
وقد عُني سلاطين المماليك عنايةً فائقة بمماليكهم، وحرصوا على تربيتهم تربية سليمة، فإذا اشترى السلطان عددًا من المماليك أرسلهم أولًا لفحصهم للتأكد من سلامة أبدانهم، وبعد ذلك يُنزل كلًا منهم في طبقة جنسه بحيث لا يقيم في طبقةٍ من الطباق المخصَّصة للمماليك بالقلعة إلا المماليك ذوي الأصل المشترك أو المجلوبين من بلدٍ واحد. ويقوم بتربية المماليك في الطباق مجموعة من الطواشية الخِصْيان، فَضلًا عن الفقهاء الذين كانوا يترددون على الطباق لتعليم المماليك القرآن والخط وأحكام الدين الإسلامي، ثم إن الأساتذة - من سلاطين وأمراء - لم يضنوا على مماليكهم
بالأرزاق والأموال، وإنما نظروا إليهم نظرة أبوة مشبعة بالعطف والحنان، فخصصوا لهم أشهر الأطعمة وصرفوا لهم الكسوات الفاخرة.
فإذا شب المملوك وأدرك سن البلوغ بدأ تعليمه فنونَ الحرب والفروسية، حتى إذا انتهت هذه المرحلة التعليمية خرج من الطباق وانتقل في أدوار الخدمة السلطانية رتبةً بعد أخرى حتى يُصبح من الأمراء، وعندما يغادر المملوك الطباق تُعطى له جامكية
(1)
أو مصروف يبلغ ستة دنانير في المتوسط، ولكنه سرعان ما ينتقل من الجامكيات إلى الإقطاعات وإلى إمرة العشرات
(2)
ثم الطبلخانات
(3)
، وعندئذٍ يصبح الأمير سلطانًا مختصرًا.
وإلى جانب طبقة المماليك - وهم حكام البلاد - وجدت جماعة المُعَمَّمِين أو أهل العمامة، وهذه الطبقة كانت تشمل أرباب الوظائف الديوانية والفقهاء والعلماء والأدباء والكتاب. والملاحظ أن هذه الفئة امتازت طول عصر المماليك بمميزات معيَّنة على الرغم مما تعرض له أفرادها من الامتحان أحيانًا. ويبدو أن المماليك أحسوا دائمًا بأنهم غرباء عن البلاد
(1)
الجامكية: وجمعها جوامك، الراتب المربوط لشهر أو أكثر. انظر: العصر المماليكي في مصر والشام ص 426.
(2)
إمرة العشرات: هى درجة من درجات الإمارة، وعدة كل إمرة عشرة فوارس. انظر: صبح الأعشى 4/ 15.
(3)
أمراء الطبلخاناه: هم أعلى رتبةً من أمراء العشرات؛ لأن عدة كلٍّ منهم في الغالب أربعون فارسًا، وقد يزيد بعضهم إلى سبعين أو ثمانين فارسًا. ومن أمراء الطبلخاناه تكون الرتبة الثانية من أرباب الوظائف والكُشَّاف بالأعمال، وأكابر الولاة. انظر: صبح الأعشى 4/ 15.
وأهلها، وبأنهم في حاجة إلى دعامة يستندون إليها في حكمهم، ويستعينون بها على إرضاء الشعب، فلم يجدوا أمامهم سوى فئة العلماء، بحكم ما للدين ورجاله من قوةٍ وأثر. فالمماليك احترموا العلماء ورجال الدين؛ لأنهم قوة لها خطرها في اكتساب الرأي العام في البلاد، ولأن بهم عرفوا دين الإسلام وفي بركتهم يعيشون.
ومن جهةٍ أخرى فإن المُعَمَّمين اعتدوا بمكانتهم في عصر المماليك فعمدوا أحيانًا إلى معارضة السلاطين في الحق، حتى حكى ابن بطوطة
(1)
عن السلطان الناصر محمد بن قلاوون أنه قال: إني لا أخاف أحدًا إلا شمس الدين الحريريَّ
(2)
قاضي قضاة الحنفية. على أن هذه المكانة الكبرى التي
(1)
هو محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي، أبو عبد الله ابن بطوطة. رحَّالة، مؤرخ. ولد ونشأ في طنجة بالمغرب الأقصى سنة 703 هـ. وخرج منها سنة 725 هـ ورحل إلى الشرق فطاف بالبلدان، ولقي من الملوك والمشايخ خلقًا كثيرًا. ثم رجع إلى المغرب الأقصى فانقطع إلى السلطان أبي عنان (من ملوك بني مرين) فأقام في بلاده، وأملى أخبار رحلته على محمد بن جزيِّ الكلبي بمدينة فاس سنة 756 هـ، وسماها "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار". ترجمت إلى اللغات البرتغالية والفرنسية والإنجليزية، ونشرت بها، وترجمت فصول منها إلى الألمانية ونشرت أيضًا. واستغرقت رحلته 27 سنة. ومات في مراكش سنة 779 هـ. انظر: الدرر 3/ 480، الأعلام 6/ 235، معجم المؤلفين 10/ 235.
(2)
هو محمد بن عثمان بن أبي الحسن بن عبد الوهاب الأنصاري القاضي شمس الدين بن صفي الدين الحريري الحنفي، كان أبوه يتجر في الحرير. ولد سنة 653 هـ. ولي قضاء دمشق، ثم طُلب إلى مصر فولي القضاء بها سنة 710 هـ. له شرح على الهداية، ومصنف في منع استبدال الوقف. توفي سنة 728 هـ. انظر: الدرر 4/ 39، الجواهر المضية 3/ 250، معجم المؤلفين 10/ 282.
وصل إليها العلماء في عصر المماليك لم تمنع بعض السلاطين والأمراء من التعرض لهم بالنقد والتهكم.
ولم يرض المماليك أن تشاركهم فئةٌ من السكان في ركوب الخيل، فاشترطوا على السلاطين حرمان المتعممين من ركوبها، وكثيرًا ما انسابت جموع المماليك في شوارع القاهرة للاعتداء على الفقهاء والمعممين وإنزالهم عن خيولهم وسلبهم إياها.
أما التجار فكانوا يؤلفون طبقة مقربة أحيانًا إلى سلاطين المماليك؛ لأنهم أحسوا بأن التجار دون غيرهم هم المصدر الأساسي الذي يمدهم بالمال في ساعات الحرج والشدة، وتدل جميع الشواهد على أن التجار تمتعوا في عصر المماليك بثروات طائلة، وهذا أمر طبيعي في عصرٍ كانت مصر حلقة النشاط التجاري بين الشرق والغرب. على أن كثرة الثروة في أيدي التجار جعلتهم دائمًا مطمع سلاطين المماليك، فأكثروا من مصادرتهم بين حينٍ وآخر، فضلًا عن إثقالهم بالرسوم الباهظة، لذلك لم يطمئن التجار في عصر المماليك على أموالهم وتجارتهم، بل كانوا يدعون على أنفسهم أحيانًا أن يغرقهم الله حتى يستريحوا مما هم فيه من الغرامات والخسارات وتحكُّم الظلمة فيهم
(1)
.
(1)
انظر: العصر المماليكي في مصر والشام ص 320 - 324.