الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس: قوته في المناظرة
يقول جمال الدين الإسنوي رحمه الله عن شيخه التقي السبكي رحمه الله: "شيخنا تقي الدين أبو الحسن، علي بن عبد الكافي بن علي السبكي. كان أنظر مَنْ رأيناه مِنْ أهل العلم، ومِنْ أجمعهم للعلوم، وأحسنهم كلامًا في الأشياء الدقيقة، وأجلدهم على ذلك. إن هَطَل درُّ المقال فهو سحابُه، أو اضطرم نارُ الجدل فهو شهابُه. وكان شاعرًا أديبًا، حسن الخط، وفي غاية الإنصاف، والرجوع إلى الحق في المباحث، ولو على لسان أحد المستفيدين منه. . ."
(1)
.
يقول التاج رحمه الله عن والده حينما كان بالشام في طلبه للحديث سنة ست وسبعمائة، يعني ووالده يبلغ من العمر ثلاثًا وعشرين سنة:
"وحضر دروس أكثرهم، فحضر دروس قاضي القضاة نجم الدين بن صَصْرَى، وناظر بين يديه الشيخَ صدرَ الدين بن الوكيل.
وحضر دروسَ الشيخ كمال الدين بن الزَّمْلكاني، بالشامية البَرانية
(2)
،
(1)
انظر: طبقات الإسنوي 1/ 350.
(2)
هذه مدرسة أنشأتها ست الشام خاتون ابنة نجم الدين أيوب بن شادي بن مروان، أخت السلطان صلاح الدين الأيوبي، وهي من أكبر المدارس وأعظمها وأكثرها فقهاء، وأكثرها أوقافًا. قال ابن كثير رحمه الله عن ست الشام هذه: =
وناظره، وطال بهما المجلس حتى كادت الشمس تزول، والفضلاء وابن الزملكاني يقول: سَبَكنا السبكيُّ اليومَ.
وحضر درسَ الشيخ صدر الدين بن المُرحِّل، في الشامية الجُوانِيَّة، وناظره"
(1)
.
ويقول التاج أيضًا: "واجتمعنا ليلة، أنا والحافظ تقيُّ الدين أبو الفتح، والأخ المرحوم جمال الدين الحُسين
(2)
، والشيخ فخر الدين الأَقْفَهْسِيُّ
(3)
، وغيرُهم، فقال لي بعض الحاضرين نشتهي أن نسمع
= "واقفة المدرستين: البرانية والجوانية، الست الجليلة المصونة خاتون ست الشام بنت أيوب بن شادي، أخت الملوك وعمة أولادهم، وأم الملوك، كان لها من الملوك المحارم خمسة وثلاثون ملكًا. . . . وكانت ست الشام من أكثر النساء صدقة وإحسانًا إلى الفقراء والمحاويج، وكانت تعمل في كل سنة في دارها بألوفٍ من الذهب أشربة وأدوية وعقاقير وغير ذلك، وتفرِّقه على الناس". البداية والنهاية 13/ 92. وكانت شرطت في وقفها: أن لا يجمع المدرِّس بينها وبين غيرها. توفيت الخاتون سنة 616 هـ. انظر: الدارس في تاريخ المدارس 1/ 277، دول الإسلام 2/ 120.
(1)
الطبقات الكبرى 10/ 166.
(2)
الحسين بن علي بن عبد الكافي السبكي، جمال الدين أبو الطيب القاضي. ولد سنة 722 هـ. كان من أذكياء العالم. قال الصفدي: كان ذهنه ثاقبًا، وفهمه لإدراك المعاني مراقبًا، حفظ "التسهيل" لابن مالك. . . وحفظ "التنبيه". اهـ. توفي في شهر رمضان سنة 755 هـ. انظر: الطبقات الكبرى 9/ 411، الدرر 2/ 61، شذرات 6/ 177.
(3)
هو محمد بن عبد الوهاب بن يوسف الإِقْفَهْسِيُّ ثم الدمشقيُّ، الفقيه الشافعيّ، فخر الدين، كان فاضلًا نَقَّالًا، قويَّ الحافظَة، يُقال: إنه حفظ المُحَرَّر في ستة وثلاثين يومًا. مات شابًا في ذي القَعدة سنة 741 هـ. انظر: الدرر 4/ 37، شذرات 6/ 132.
مناظرتَه، وليس فينا مَنْ يَدِلُّ عليه غيرُك. فقلت له: الجماعةُ يريدون سماعَ مناظرتك على طريق الجدل.
فقال: بسم الله. وفهمتُ أنه إنما وافق على ذلك لمحبته فيَّ، وفي تعليمي.
فقال: أبْصِروا مسألةً فيها أقوالٌ بقدر عَدَدِكم، وينصرُ كلٌّ منكم مقالةً يختارها من تلك الأقوال، ويجلس يَبْحث معي.
فقلت أنا: مسألة الحرام.
فقال: بسم الله، انصرِفُوا فلْيطالعْ كلٌّ منكم، ويحرِّرْ ما ينصرُه فقمنا وأعملَ كلُّ واحدٍ جُهدَه، ثم عُدْنا وقد كاد الليلُ ينتصف، وهو جالسٌ يتلو هو وشيخنا المسنِد أحمد بن علي الجزري الحنبلي
(1)
رحمه الله، فقال: عبد الوهَّاب هاتِ، حسين هاتِ، هكذا يخصُّني أنا وأخي بالنداء.
فابتدأ واحدٌ من الجماعة، فقال له: إن شئتَ كُن مستدلًا وأنا مانعٌ، وإن شئتَ بالعكس.
فحاصل القضية أن كُلًّا منا صار يستدل على مقالته، وهو يمنعه، ويبيِّن فسادَ كلامه إلى أن ينقطع، ويأخذ في الكلام مع الآخر حتى انقطع الجميع.
(1)
هو أحمد بن علي بن الحسن الجزري ثم الصالحي أبو العباس الهكاري العابد. ولد سنة 649 هـ. قال الذهبي: تفرد وقصده الطلبة، وكان كثير الذكر والتلاوة. قال السبكي: لم أر أجلد على العبادة منه. توفي سنة 743 هـ. انظر: الدرر 1/ 207.
فقال بعضنا: فأين الحق؟ .
فقال: أنا أختار المذهب الفلاني الذي كنت يا فلان تنصره، ونصره إلى أن قلنا: هو الحق.
ثم قال: بل أختار المذهب الذي كنتَ يا فلان تنصرُه.
وهكذا أخذ ينصر الجميع، إلى أن قال له بعضنا: فأين الباطل؟ .
فقال: الآن حصحص الحق، المختار مذهب الشافعي، وطريق الردِّ على المذهب الفلاني كذا، والمذهب الفلاني كذا، والمذهب الفلاني كذا، وقَرَّر ذلك كله، إلى أن قضينا العَجَب، وكلٌّ منا يَعرف أن أقلَّ ما يكون للشيخ الإمام عن النظر في مسألة الحرام سِنين كثيرة
(1)
"
(2)
.
(1)
وعمر التاج آنذاك في الرابعة عشر على الأكثر؛ لأن الشيخ الأقْفَهْسِيّ مات في سنة 741 هـ، فعمر التاج حين موته أربع عشرة سنة، فالتاج حين حصول المناظرة المذكورة إما في هذا السن أو دونه.
(2)
انظر: الطبقات الكبرى 10/ 203 - 204.