الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع: فصاحته وبلاغته
لقد جمع للتاج رحمه الله مع قوته في العلم والذكاء والحفظ، بسطةٌ في البيان واللفظ، فتراه في مطالع تراجمه التى يترجم بها لأهل مذهبه يُطْرِب الأسماع، ويستولي على القلوب والألباب، بعبارات سبكية ذهبية، لا زيف فيها بل خالصة نقية، بلا تكلف أو تقعر بل سَلِسَةٌ عَذْبة رويَّة، قد انقادت له البلاغة والفصاحة كما انقادت للبلغاء من أهل العربية.
اسمع هذه الأبيات التى يرثي بها شيخَه الذهبي عند وفاته رحمه الله والتاج آنذاك ابن إحدى وعشرين سنة:
مَن للحديثِ وللسَّارينَ في الطَّلَبِ
…
من بعدِ موتِ الإمامِ الحافظِ الذهبي
مَن للرِّواية للأخبار يَنشُرُها
…
بين البريَّةِ من عُجْمٍ ومِن عَرَبِ
مَن للدراية والآثار يَحفَظُها
…
بالنَّقْدِ مِن وَضْعِ أهلِ الغيِّ والكذبِ
مَن للصناعةِ يَدْري حَلَّ مُعْضِلِها
…
حتى يُريكَ جِلاءَ الشَّك والرِّيَبِ
مَن للجَماعَةِ أهلِ العلمِ تُلْبِسُهُمْ
…
أعلامُهُ الغُرُّ من أبرادِها القُشُبِ
(1)
(1)
أعلام جمع عَلَم: رسْم الثوب ورَقْمُه في أطرافه. انظر: لسان العرب 12/ 420، تاج العروس 17/ 498، مادة (علم). الغُرُّ: البيض. وفي اللسان 5/ 14 - 15، مادة (غرر). والأبراد جمع بُرْد: وهو ثوبٌ فيه خطوط، وخَصَّ بعضهم به الوشْي. انظر: لسان العرب 3/ 87، مادة (برد). والقُشُب جمع قَشِيب: وهو الثوب الجديد =
من للتخاريج يُبْدِيها ويَدْخُلُ في
…
أبوابها فاتحًا للمُقْفَلِ الأشِبِ
(1)
مَن في القِراآتِ بين الناس نافِعُهُمْ
…
وعاصِمٌ رُكْنُها في الجَحْفَلِ اللَّجِبِ
(2)
مَن للخِطابةِ لما لاحَ يَرْفُلُ في
…
ثَوْبِ السَّواد كبدرٍ لاحَ في سُحُبِ
(3)
ومنها:
بالله يا نفسُ كُوني لي مساعدةً
…
وحاذِري جَزَعَ الأوْصابِ والرُّعُبِ
(4)
فهذه الدَّارُ دار لا ذِمامَ لها
…
ليستْ بنَبْعٍ إذا عُدَّتْ ولا غَرَبِ
(5)
= النظيف. والقَشِيب من الأضداد يُقال للجديد وللخَلِق. والمعنى: من الذي بعد الإمام الذهبي رحمه الله يُلبسنا ثياب العلم البيضاء الناصعة، المرقومة والموشَّاة بالألوان الجميلة!
(1)
الأَشِب: المختلط الملتبس. في اللسان 1/ 214، مادة (أشب).
(2)
الجَحْفل: الجيش الكثير، ولا يكون ذلك حتى يكون فيه خَيْل. انظر: لسان العرب 11/ 102، مادة (جحفل). واللَّجَبُ: الصوت والصياح والجَلَبة، تقول: لَجِبَ، بالكسر. واللَّجَبُ: ارتفاع الأصوات واختلاطها. واللَّجَبُ: صوت العَسْكر. وعَسْكرٌ لَجِبٌ: عَرَمْرَمٌ وذو لَجَبٍ وكثرة. انظر: لسان 1/ 735. والمعنى: من الذي يضاهي هذا الإمام في علم القراءات، فهو نافعنا وهو عاصمنا بين جموع العلماء العظيمة الكثيرة عالية الصوت.
(3)
رفل: مَشَى مُسْبلًا ثوبه متبخترًا فيه. انظر: اللسان 11/ 292، مادة (رفل).
(4)
الرُّعْب والرُّعُب: الفزع والخوف. انظر: لسان العربط 1/ 420، مادة (رعب).
(5)
النَّبْع: شجر من أشجار الجبال تُتخذ منه القِسِيّ. وقَوْس النَّبْع أفضل الأقواس، لجمعه الشدة واللين ومن أغصانه تُتخذ السهام. انظر: لسان العرب 8/ 345 - 346. الغَرَب جمع غَرَبة: ضربٌ من الشجر تُعمل منه الأقداح البيض. انظر: تاج العروس 2/ 279، لسان العرب 1/ 644، مادة (غرب). والمعنى: أن دار الدنيا لا عهد لها ولا ذمة، فهي كثيرة الغدر والخداع، وهي ليست بشيء قليل ولا كثير، ولا قوي ولا ضعيف، فلا معوَّل عليها. فشجر النبع مثال للقوة، والغَرَب مثال للضعف. =
وليس تَبْقَى على حالٍ وليس لها
…
عَهْدٌ يُمَسَّكُ بالأَوْتادِ والطُّنُبِ
(1)
بينا يُرَى المرءُ في بَحْرِ المَعَزَّةِ ذا
…
خَوْضٍ تَرامَتْ عليه ذِلَّةُ النُّوَبِ
(2)
إلى أن يقول رحمه الله:
وإنْ تَغِبْ ذاتُ شمسِ الدين لا عَجَبٌ
…
فأيُّ شَمْسٍ رأيناها ولم تَغِبِ
هو الإمامُ الذي رَوَّتْ روايتُهُ
…
وطَبَّقَ الأرضَ مِن طُلَّابهِ النُّجُبِ
مُهَذَّبُ القولِ لاعِيٌّ ولَجْلَجَةٌ
…
مُثَبَّتُ النَّقْلِ سامِي القَصْد والحَسَبِ
ثَبْتٌ صَدُوقٌ خبيرٌ حافِظٌ يَقِظٌ
…
في النقلِ أصْدَقُ أنباءً مِن الكُتُبِ
كالزُّهْرِ في حَسَبٍ والزَّهْر في نَسَبٍ
…
والنَّهْرِ في حَدَبٍ والدَّهْرِ في رُتَبِ
وانظر قصيدته في "المُعاياة" وهي ألغاز ذكرها شعرًا، ومع كونها مسائل علمية، إلا أن حلاوة أسلوبها، وطلاوة ألفاظها لتطرب السمع، ومنها قوله:
مَن باتِّفاقِ جميعِ الخَلْقِ أفضَلُ مِنْ
…
شيخِ الصِّحابِ أبي بكر ومِنْ عُمرِ
= والله أعلم. والشطر الثاني من البيت مقتبس من قصيدة أبي تمام في فتح عمورية. انظر: ديوانه 1/ 42.
(1)
في اللسان 1/ 560 - 561، مادة (طنب):"الطُّنْبُ والطُّنُبُ معًا: حَبْل الخِباء والسُّرادقِ ونحوِهما. . . والأَطْناب: الطوال مِنْ حبال الأَخْبية، والأُصُر: القِصار، واحدها: إِصار".
(2)
النُّوَب جمع نائبة: وهي ما يَنُوب الإنسان، أي: ينزل به من الهمات والحوادث. وجمع النائبة نوائب وهو الأكثر، أما جمعها على نُوَب فهو نادر. انظر: لسان العرب 1/ 774، مادة (نوب).
ومِن عليٍّ ومن عثمانَ وهْوَ فَتًى
…
من أمة المُصطفى المبعُوثِ من مُضَرِ
(1)
وقد سبق ذكر بعض قصيدته التي رَثَى بها والده - رحمهما الله تعالى - وهي ملحمة رائعة، يُضَمِّن فيها التاج أبياتًا للفرزدق رحمه الله فلا تكاد تفرِّق بين أبيات الفرزدق وسائر القصيدة.
يقول الحافظ ابن حجي رحمه الله: "وكان له يدٌ في النظم والنثر، جيدَ البديهة، ذا بلاغةٍ وطلاقة لسان"
(2)
.
وكذا يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وأجاد في الخطِّ والنظم والنثر. . . وكان ذا بلاغة وطلاوة اللسان. . . وكان جَيِّدَ البديهة طَلْق اللسان"
(3)
.
ويصف الحافظ ابن كثير رحمه الله فصاحة التاج وطلاقة لسانه، وهو عصريُّه وبلديُّه: "وفي يوم الجمعة سابع شهر ذي القَعْدة
(4)
خطب بجامع دمشق قاضي القضاة تاج الدين السبكي خطبةً بليغةً فصيحةً أدَّاها أداء حسنًا، وقد كان يُحَسُّ من طائفة من العوام أن يُشَوِّشُوا، فلم يتكلم أحدٌ منهم، بل ضَجُّوا عند الموعظة وغيرها، وأعجبهم الخطيب وخطبته، وأداؤه وتبليغه ومهابته، واستمر يخطب هو بنفسه"
(5)
.
(1)
انظر: الطبقات 9/ 135 - 136.
(2)
انظر: طبقات ابن قاضي شهبة 3/ 105 - 106.
(3)
انظر: الدرر 9/ 426.
(4)
من سنة 764 هـ.
(5)
انظر: البداية والنهاية 14/ 318 - 319.
وأختم الحديث عن هذا المبحث بأبياتٍ قالها التاج رحمه الله في أول الشباب ما أظرفها، وهي أول السيل، فكيف بآخره!
يقول التاج في ترجمة الصفدي - رحمهما الله -: "كنت أصحبه منذ كنت دون سنِّ البلوغ، وكان يكاتبني وأكاتبه، وبه رغبتُ في الأدب، فربما وقع لي شعرٌ ركيكٌ مِن نظم الصِّبيان فكتبه هو عني إذ ذاك، وأنا ذاكِر بعضَ ما بيننا مما كان في صِغَري، ثم لمّا كان بعد ذلكَ كتب إليَّ مرة وقد سافر إلى مِصْر ولم يودِّعْني:
يا سيِّدًا سافرتُ عنه ولم أجِدْ
…
جَلَدِي يُطَاوِعُنِي على تودِيعِهِ
إنْ غِبْتُ عنكَ فإنَّ قَلْبِيَ حاضِرٌ
…
يَصِفُ اشتياقِي لِلْحِمَى ورُبُوعِهِ
في أبياتٍ أُخَر، فكتبتُ الجواب:
يا راحلًا بحشا المُقِيم عَلَى الوَفا
…
ما الطَّرْفُ بَعْدَكَ مُؤْذِنًا بهُجُوعِهِ
إن غبتَ عنه فما تغيَّر منه إلَّا جِسْمُـ
…
ـه سَقَمًا ولَونُ دُمُوعِهِ
(1)
والقلبُ بيتُ هواكَ راحَ كأنَّهُ
…
بَيْتُ العَرُوضِيِّين مِن تَقْطِيعِهِ
في أبياتٍ أُخَر أُنْسِيتُها"
(2)
.
(1)
أى: أصبحت دموعه دمًا.
(2)
انظر: الطبقات 10/ 6 - 7.