الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: الحياة السياسية
عاش الإمامان تقي الدين السبكي وابنه تاج الدين - رحمهما الله - في فترة من الزمن كان العالم الإسلامي فيها متأثرًا بأحوال سياسية مضطربة مرت به من قبل، ولا زال أثرها باقيًا، حيث قد تعرض لهجمات وحشية في مطلع القرن السابع الهجري سنة 616 هـ، قام بها المغول الذين قدموا مِن أقصى الشرق، واجتاحوا العالم الإسلامي، وعاثوا فيه فسادًا، وأشاعوا فيه الرعب والخوف بين الناس، بقيادة طاغيتهم المفسد "جنكيزخان"، ولم يكن قصدهم الفتح والاستيطان، ولا الغُنْم والاستلاب فحسب، بل إراقة الدماء، وتعذيب الأرواح، ودَرْس البلاد، وملاشاة العمران، فذبحوا الشعوب، ودَكُّوا المدن، بحيث لم تنج بلاد حَلَّ فيها المغول من الهول، وكان شأنُهم في قطر شأنَهم في سائر الأقطار.
ولما مات جنكيزخان عام 626 هـ تابع أولاده اجتياح الأقاليم الإسلامية ونهب خيراتها، وإذلال أهلها، إلى أن تولى حفيده هولاكو القيادة عام 654 هـ، وسار على نهج جده في القتل والإبادة، وكلما مرَّ على مدينة خَرَّبها وأذل أمراءها وحكامها، وضرب عُنق مَنْ عصى منهم، وسفك الدماء، وغصب الأموال.
ثم أغار هولاكو على بغداد بالتآمر مع الوزير ابن العلقمي الرافضي
(1)
- قبحه الله ولعنه - فاستولى عليها، وقتل الخليفة المستعصم
(2)
، آخر خلفاء بني العباس، وأنهى الخلافة العباسية.
قال ابن السبكي رحمه الله: "واستمر القتل ببغداد بضعًا وثلاثين يومًا ولم ينج إلا مَن اختفى. وقيل: إن هلاكو أمر بعد ذلك بِعَدِّ القتلى، فكانوا ألف ألف وثمانمائة ألف، النصف من ذلك تسعمائة ألف، غير من لم يُعَدّ ومَنْ غَرِق"
(3)
.
وكان جيش المغول يبني الإصطبل لخيله من الكتب، وأُلقيت ملايين الكتب في دجلة، وأقاموا بها ثلاثة جسور.
وبعد أن ملك هذا الطاغية جميع العراق، توجه إلى الشام فملك حلب وبعض الشام وجملة من أراضي الروم، ونفذت مفاتيح دمشق وحماة إلى
(1)
هو محمد بن أحمد، مؤيد الدين أبو طالب بن العلقمي، وزير المستعصم البغدادي، وزير سوء على نفسه وعلى الخليفة وعلى المسلمين، مع أنه من الفضلاء في الإنشاء والأدب، وكان رافضيًا خبيثًا رديء الطوية على الإسلام وأهله. مات كمدًا في جمادي الآخرة سنة 656 هـ. انظر: البداية والنهاية 13/ 225، شذرات 5/ 272.
(2)
هو الخليفة الشهيد أبو أحمد عبد الله بن المستنصر بالله منصور بن الظاهر محمد الهاشمي العباسي البغدادي. ولد سنة 609 هـ. كان فاضلًا متدينًا، لكن فيه لين وعدم تيقظ، ومحبة للمال وجمعه، واستبد بالأمور في عهده ابن العلقمي الرافضي فأهلك الحرث والنسل. قتلته التتار في صفر من سنة 656 هـ. انظر: سير 23/ 174، البداية والنهاية 13/ 217، شذرات 5/ 270.
(3)
انظر: الطبقات الكبرى 8/ 271.
هولاكو، وتسلم قلعة بعلبك، وأخذ نابلس بالسيف، وكاد الأمر يتم للتتار، ولولا هذا النصر الذي حققه المماليك لدمَّر التتار مزيدًا من تراث المسلمين وحضارتهم. وقد كان المماليك أولَ مَنْ وقف في وجه التتار، فلم يؤثر في نفوسهم ما ذاع عنهم، ولم يَفُتَّ في عَضُدهم، وانضم إليهم الكثير من أمراء الشام وجنوده، وتوجه الجيش الإسلامي من مصر بقيادة الملك المظفر قطز
(1)
، والتقى الجمعان فأنزل جند الله بالتتار هزيمة نكراء عند عين جالوت
(2)
، وذلك في العشر الأخير من رمضان سنة 658 هـ، وأخذوا في التراجع والتقهقر، وأرسل المظفر قطز قائده بيبرس
(3)
في ملاحقة التتار وطردهم، فاستخلص الشام برمته من أيديهم.
(1)
هو السلطان الشهيد الملك المظفَّر سيف الدين قُطُز بن عبد الله المُعِزِّي. كان شجاعًا بطلًا، كثير الخير، ناصحًا للإسلام وأهله، وكان الناس يحبونه ويدعون له كثيرًا. وثب عليه بعض الأمراء وهو راجع إلى مصر فقتله، وذلك في شهر ذي القَعْدة، سنة 658 هـ، ولم يكمل سنة في السلطنة. انظر: سير 23/ 200، البداية والنهاية 13/ 238، شذرات 5/ 293.
(2)
قال ياقوت الحمويُّ في معجم البلدان 4/ 177: "عَيْنُ الجالوت: اسم أعجميٌّ لا ينصرف، وهي بُليدة لطيفة بين بَيْسان ونابُلس من أعمال فلسطين. . .".
(3)
هو الملك الظاهر، والسلطان الكبير، ركن الدين أبو الفتوح بيبرس التركي البندقداري ثم الصالحي. كان شجاعًا فارسًا مقدامًا، يُضرب بشجاعته المثل، له أيام بيض في الإسلام، وفتوحات مشهورة، ومواقف مشهودة، ولولا ظلمه وجبروته في بعض الأحايين لَعُدَّ مِن الملوك العادلين، وقد ذكر ابن كثير رحمه الله كثيرًا من مواقفه الحسنة التي تدل على حسن طويته وسريرته. توفي سنة 676 هـ. انظر: شذرات 5/ 350، البداية والنهاية 13/ 290.
هذا وكانت الصليبية الحاقدة قد نظمت جيشًا قويًا في مطلع القرن السابع الهجري بعد أن عرفت بضعف المسلمين وتناحرهم؛ للهجوم على مصر والشام واحتلالهما، ثأرًا لما أصابها أيام السلطان صلاح الدين
(1)
الأيوبي، واحتلالًا للديار المقدسة، فنزل جيشهم قرب دمياط، واحتلوها بعد قتال وحصار، وقتلوا أكثر أهلها عام 615 هـ، ثم هزمهم المسلمون، فأعادوا الكرة واستخدموا المكر والحيلة، واستلموا القدس عام 626 هـ، وقلعة صفد عام 628 هـ، واتجهوا ثانية إلى دمياط عام 647 هـ، فانهزموا ورُدوا على أعقابهم، وطهر الله الأراضي الإسلامية منهم.
هذان الحدثان العظيمان هما أهم الأحداث التى حصلت في القرن السابع، واللذان كان لهما الأثر الواضح في الأحداث بعدهما في القرن الثامن، وقد برز في خلال هذين الحدثين دور المماليك العظيم الذين كانوا جنودًا للأيوبيين، ومماليك مُسْتَرَقِّين لهم، وكان الأيوبيون في حالة من الضعف والتناحر، مما أدى إلى زوال دولتهم لا سيما مع الأحداث الجسام، وظهور دور المماليك البارز، فكانوا خلفًا لسادتهم الأيوبيين في الملك.
(1)
هو السلطان الكبير، الملك الناصر، صلاح الدين، أبو المظفر يوسف بن الأمير نجم الدين أيوب بن شاذي الدُّوَيْني، ثم التكريتي المولد. ولد سنة 532 هـ. كان خليقًا للإمارة، مهيبًا شجاعًا حازمًا، مجاهدًا كثير الغزو، عالي الهمة، وكان ردءًا للإسلام، وحرزًا وكهفًا من كيد الكفرة اللئام. توفي سنة 589 هـ. انظر: سير 21/ 278، البداية والنهاية 13/ 3.