الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: طلبه للعلم وشيوخه
قال التاج السبكي رحمه الله: "وتفقه في صغره على والده، وكان من الاشتغال على جانب عظيم، بحيث يستغرق غالب ليله وجميع نهاره، وحَكى لي أنه لم يأكل لحم الغنم إلا بعد العشرين من عمره؛ لحدة ذهنه، وأنه كان إذا شَمَّ رائحته حصل له شَرَى
(1)
، وإنما كان يخرج من البيت صلاة الصبح، فيشتغل على المشايخ إلى أن يعود قريب الظهر، فيجدَ أهل البيت قد عملوا له فروجًا، فيأكله ويعود إلى الاشتغال إلى المغرب، فيأكل شيئًا حُلْوًا لطيفًا، ثم يشتغل بالليل، وهكذا لا يعرف غير ذلك، حتى ذكر لي أن والده قال لأمه: هذا الشاب ما يطلب قط درهمًا ولا شيئًا، فلعله يرى شيئًا يريد أن يأكله، فضعي في مِنْدِيله درهمًا أو درهمين، فوضعتْ نصف درهم.
قالت الجدة فاستمر نحو جمعتين وهو يعود والمنديلُ معه، والنصفُ فيه، إلى أن رمى به إليَّ وقال: أَيْش أعملُ بهذا! خذوه عني.
وكان الله تعالى قد أقام والده ووالدته للقيام بأمره، فلا يدري شيئًا من حال نفسه.
(1)
أي: اضطراب. انظر اللسان 14/ 430، مادة "شري".
ثم زوَّجه والدُه بابنة عمه، وعُمْره خمسَ عشرةَ سنة، وألزمها أن لا تحدِّثه في شيءٍ من أمر نفسها، وكذلك ألزمه والدها، وهو عمه الشيخ صدر الدين
(1)
، فاستمرت معه، ووالده ووالدها يقومان بأمرهما، وهو لا يراها إلا وقت النوم، وصَحِبَتْه مدة، ثم إن والدها بلَغه أنها طالبته بشيءٍ من أمر الدنيا، فطلبه وحلف عليه بالطلاق ليُطلِّقَها، فطلَّقها.
فانظر إلى اعتناء والده وعمِّه بأمره، وكان ذلك خوفًا منهما أن يشتغل بالُه بشيءٍ غير العلم.
ثم إنه دخل القاهرة مع والده، وعَرَض محافيظ حفظها:"التنبيه"، وغيره - على ابن بنت الأَعَزّ
(2)
وغيره. وقيل: إن والده دخل به إلى شيخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العيد، وعرض عليه "التنبيه"، وإن الشيخ تقي الدين قال لوالده رحمه الله: رُدَّ به إلى البر، إلى أن يصير فاضلًا عُدْ به إلى القاهرة، فردَّ به إلى البر.
قال الوالد رحمه الله: فلم أَعُد إلا بعد وفاة الشيخ تقي الدين، ففاتني مجالسته في العلم.
(1)
هو يحيى بن علي بن تمام بن يوسف السبكي، القاضي صدر الدين أبو زكريا. برع في الفقه وأصوله، وتولى قضاء بعض البلاد المصرية، ثم دَرَّس بالمدرسة السَّيْفِيَّة بالقاهرة، واستمر بها إلى حين وفاته. توفي سنة 725 هـ، ودفن بالقرافة. انظر: الطبقات الكبرى 10/ 391، الدرر 4/ 422.
(2)
هو أحمد بن عبد الوهاب بن خَلَف العَلامِيُّ البَصْريُّ، علاء الدين بن بنت الأعز. كان فقيهًا أديبًا، رئيسًا، وله شعر كثير. توفي سنة 699 هـ.
انظر: الطبقات الكبرى 8/ 23، شذرات 5/ 444.
وسمعت الوالد يقول: أنا ما أتحقق الشيخ تقي الدين، ولكني أذكر أني دخلت دار الحديث الكاملية
(1)
بالقاهرة، ورأيت شيخًا هيئته كهيئة الشيخ تقي الدين الموصوفة لنا، لعله هو، وسمعت الحافظ تقي الدين أبا الفتح
(2)
ابن العم رحمه الله يقول: هو الشيخ تقي الدين. ولكن الشيخ الإمام لورعه لا يجزم مع أدنى احتمال. ثم لما دخل القاهرة بعد أن صار فاضلًا - تفقَّه على شافعي الزمان الفقيه نجم الدين بن الرِّفْعة
(3)
، وقرأ الأصلين وسائر المعقولات على الإمام النظار علاء الدين الباجي
(4)
، والمنطق
(1)
هي دار الحديث بمصر، بناها الملك الكامل ناصر الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب، وكملت عمارتها في سنة إحدى وعشرين وستمائة، وكان الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله ممن وَلِيها. انظر: حسن المحاضرة 2/ 262، مقدمة تحقيق مختصر تيسير الوصول إلى منهاج الأصول 1/ 61.
(2)
هو محمد بن عبد اللطيف بن يحيى بن علي بن تَمَّام السبكي، الفقيه المحدث، الأديب المتقن. تفقه على جده الشيخ صدر الدين يحيى، وعلى الشيخ تقي الدين السبكي وبه تخرج في كل فنونه، وهو صهره. توفي سنة 705 هـ. انظر: الطبقات الكبرى 9/ 167، الدرر 4/ 25، شذرات 6/ 141.
(3)
هو الإمام نجم الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن مُرْتَفِع بن الرِّفْعة، المصري الشافعي. ولد سنة 645 هـ. كان شافعي زمانه، وإمام أوانه، شيخ الإسلام، أعجوبة في معرفة النصوص والتخريج. من تصانيفه:"المطلب" في شرح الوسيط، و"الكفاية" في شرح التنبيه، و"النفائس في هدم الكنائس". وغيرها. توفي رحمه الله سنة 710 هـ. انظر الطبقات الكبرى 9/ 24، الدرر 1/ 284، شذرات 6/ 24.
(4)
هو علي بن محمد بن عبد الرحمن بن خَطَّاب الباجي، الشيخ الإمام علاء الدين، إمام الأصوليين في زمانه، وله الباع الواسع في المناظرة. ولد سنة 631 هـ. كان أعلم أهل الأرض بمذهب الأشعري في علم الكلام. من مصنفاته: الرد على اليهود =
والخلاف على سيف الدين البغدادي
(1)
، والتفسير على الشيخ علم الدين العراقي
(2)
، والقراءاتِ على الشيخ تقي الدين بن الصائغ
(3)
، والفرائض على الشيخ عبد الله الغِماري المالكي
(4)
.
وأخذ الحديث عن الحافظ شرف الدين الدمياطي، ولازمه كثيرًا، ثم لازم بعده وهو كبير: إمامَ الفن الحافظَ سعد الدين الحارثي
(5)
.
= والنصارى، وله مختصرات عدة. توفي سنة 724 هـ. انظر: الطبقات الكبرى 10/ 339، شذرات 6/ 34.
(1)
هو عيسى بن داود البغدادي الحنفي المنطقي. ولد في حدود سنة 630 هـ. برع في المنطق، وتخرج وفاق الأقران. كان سليم الباطن متواضعًا سمحًا. توفي سنة 705 هـ. انظر: الدرر 3/ 203.
(2)
عبد الكريم بن علي بن عمر الأنصاري، الشيخ علم الدين العراقي الضرير. ولد سنة 623 هـ. كان عالمًا فاضلًا في فنون كثيرة خصوصًا التفسير، فله فيه يد باسطة، وصنف فيه "الإنصاف في مسائل الخلاف" بين الزمخشري وابن المُنَيِّر. توفي بالقاهرة سنة 704 هـ. انظر: الطبقات الكبرى 10/ 95، الدرر 2/ 399، طبقات المفسرين 1/ 334.
(3)
هو محمد بن أحمد بن عبد الخالق بن علي بن سالم بن مكي، الشيخ تقي الدين، أبو عبد الله بن الصائغ، المصري الشافعي. ولد سنة 636 هـ. كان مُسْنِد عصره، ورُحَلةَ وقته، شيخ القراء، فقيهًا مشاركًا في عدة فنون. توفي بمصر سنة 725 هـ.
انظر غاية النهاية 2/ 65، الدرر 3/ 320.
(4)
لم أعثر على ترجمته مع كثرة البحث في كتب التراجم: المالكية، وغيرها.
(5)
هو الشيخ الإمام الفقيه الحافظ المتقن قاضي القضاة سعد الدين مسعود بن أحمد بن مسعود بن زيد الحارثي، العراقي المصري الحنبلي، أبو محمد. ولد سنة 652 هـ. كان قوي المعرفة بالمتون والأسانيد، صَيِّنًا. توفي سنة 711 هـ. انظر: تذكرة 4/ 1495، الدرر 4/ 347، شذرات 6/ 28.
وأخذ النحو عن الشيخ أبي حيان
(1)
، وصحب في التصوف الشيخ تاج الدين بن عطاء الله"
(2)
ثم عَدَّد التاج مشايخ أبيه بالإسكندرية والقاهرة ودمشق وبغداد إلى أن قال: "وجمع "معجمُه" الجمَّ الغفير، والعدد الكثير، وكتب بخطه، وقرأ الكثير بنفسه، وحَصَّل الأجزاء الأصول والفروع، وسمع الكتب والمسانيد، وخَرَّج وانتقى
(3)
على كثير من شيوخه، وحَدَّث بالقاهرة ودمشق"
(4)
.
(1)
هو محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حَيَّان النَّفْريّ الأندلُسي الجَيَّاني الأصل، الغِرْناطي المولد والمنشأ، المصري الدار، الظاهري الشافعي. ولد سنة 654 هـ. شيخ النحاة، وسيبويه الزمان. من مصنفاته "البحر المحيط" في التفسير، شرح التسهيل، الارتشاف. توفي سنة 745 هـ. انظر: الطبقات الكبرى 9/ 276، الدرر 4/ 302، بغية 1/ 280.
(2)
أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عطاء الله، تاج الدين أبو الفضل الإسكندراني، المالكي، الشاذلي، صحب الشيخ أبا العباس المرسي صاحب الشاذلي، وصنف مناقبه، ومناقب شيخه، وكان المتكلم على لسان الصوفية في زمانه. توفي سنة 709 هـ. انظر: الدرر 1/ 273، شذرات 6/ 19 البدر 1/ 107.
(3)
الانتقاء: هو أن يختار الطالب بعض أحاديث الشيخ، ويكتفي بها في الرواية عنه؛ إما لأن الشيخ كثير المرويات عَسِرٌ في الرواية عنه؛ أو لأن الطالب لا يمكنه طول الإقامة عند الشيخ. انظر: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي: 2/ 159.
(4)
انظر: الطبقات الكبرى 10/ 147.