الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكانت مناهج التعليم في هذه المكاتب تدور حول القراءة والكتابة وتعليم القرآن والحديث وآداب الدين، فضلًا عن مبادئ الحساب وقواعد اللغة وبعض الشعر. ويبدأ الأطفال بالكتابة في ألواح ثم ينتقلون بعد ذلك إلى الكتابة بالمداد، فإذا بلغ الطفل الحلم وزالت عنه صفة اليتم - صُرِف من المكتب ليحل محله مستحقٌ آخر. وقد أُوصي المؤدِّب بأن يحسن معاملة الأطفال ولا يقسو عليهم ولا يضربهم، إلا إذا أساء صبي منهم الأدب وعندئذ يضربه المؤدب ضربًا وسطًا يؤلم ولا يؤذي.
النشاط الديني:
أما عن الحياة الدينية - فالملاحظ أن مصر شهدت في عصر المماليك نشاطًا دينيًا منقطع النظير، وقد يكون السِّرُّ في هذا النشاط الديني الكبير هو شعور المماليك أنفسِهم بأنهم أغرابٌ عن البلاد وأهلها، مغتصبون للحكم والعرش من أصحابه الشرعيين، ولذلك أرادوا أن يتخذوا من الدين ورجاله ستارًا يُخفي هذه الحقائق عن أعين المحكومين، ويقرِّبهم إلى قلوب الشعب، وما دام المماليك مسلمين، يؤمنون بالله ورسوله، ويحرصون على إقامة شعائر الدين وإحياء سنن الأولين، ويَعْمُرون مساجدَ يُذكر فيها اسم الله كثيرًا - فهم إذًا حكامٌ صالحون، ولا داع للتفكير كثيرًا في أصلهم وطريقة وصولهم إلى الحكم.
وثَمَّة ملاحظةٍ أخرى؛ هي أن جزءًا كبيرًا من النشاط الديني في عصر المماليك كان مُوَجَّهًا لخدمة المذهب السنيِّ ومحاربة المذهب الشيعيّ، ذلك أنه على الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلها صلاح الدين الأيوبي ومَنْ
خلفه من سلاطين بني أيوب لمحاربة الشيعة والتشيع في مصر، إلا أن الكثير من آثار المذهب الشيعي ظلت قائمةً في عصر المماليك. وقد لجأ سلاطين المماليك إلى استخدام العنف أحيانًا لكبت الشيعة، حتى أن الناس في ذلك العصر كانوا إذا أرادوا أن يكيدوا لشخصٍ دَسُّوا عليه مَنْ رماه بالتشيع، فتصادر أملاكه، وتنهال عليه العقوبات والإهانات، حتى يُظْهِر التوبة من الرفض. وفي الوقت نفسِه حارب سلاطين المماليك ظاهرةَ التشيع عن طريقٍ غير مباشر، فأمر السلطان الظاهر بيبرس 1267 م (665 هـ) باتباع المذاهب السنية الأربعة وتحريم ما عداها، كما أمر بألا يُولى قاضٍ ولا تُقبل شهادةُ أحدٍ ولا يرشَّح لإحدى وظائف الخطابة أو الإمامة أو التدريس ما لم يكن مقلِّدًا لأحد هذه المذاهب.
وثمة وسيلة اتخذها سلاطين بني أيوب، واتبعهم فيها سلاطين المماليك؛ لمحاربة المذهب الشيعي والحد من انتشاره في البلاد: هي إنشاء المدارس. وقد سبق أن تكلمنا عن أهمية المدرسة من الناحية العلمية، ولكن الحقيقة الكبرى التي لا ينبغي أن تغيب عن أذهاننا هي أن صلاح الدين عندما أنشأ أُولى المدارس في مصر، إنما استهدف أن تكون المدرسة - قبل أي اعتبار آخر - مركزًا لتدعيم الفقه السني. وقد راعى هذا المبدأ خلفاء صلاح الدين، فأقاموا المدارس واشترطوا أن تكون كلٌّ منها خاصةً بتدريس مذهبٍ أو مذهبين من مذاهب السنّة الأربعة، حتى كانت المدرسة التي أنشأها السلطان الصالح نجم الدين أيوب
(1)
سنة 1242 (640 هـ)،
(1)
هو الملك الصالح أيوب بن محمد بن أبي بكر بن أيوب، أبو الفتوح نجم الدين، =
وهي أول مدرسة بُنيت في القاهرة على المذاهب الأربعة - الشافعي والمالكي والحنفي والحنبلي - واستمرت هذه المدرسة تؤدي رسالتها في خدمة السنّة حتى القرن التاسع الهجري - الخامس عشر الميلادي - على أيام المؤرخ تقي الدين المقريزي. وهكذا سار المماليك على سُنَّة الأيوبيين في إنشاء المدارس، فحرصوا على أن يجعلوا منها أداةً لخدمة السنّة ومذاهبها. من ذلك ما أورده النويري من وصفٍ للمدرسة الناصرية التي أقامها السلطان الناصر محمد بن قلاوون، إذ يقول إنه كان بها أربعة أواوين كل منها خاص بأحد مدرسي المذاهب الأربعة، فالمدرّس المالكي اختص بالإيوان القبلي، والشافعي بالإيوان البحري، والحنفي بالإيوان الشرقي، والحنبلي بالإيوان الغربي.
ولم تكن المدارس هي المؤسسات الدينية الوحيدة التي أكسبت عصر المماليك طابعه الديني الخاص، بل شهد ذلك العصر إقامة مؤسسات أخرى عديدة مثل المساجد والزوايا وغيرها. والملاحظ أن كلًّا من المدرسة والجامع في ذلك العصر قامت بدور مزدوج في خدمة الدين والعلم، ولكن الفارق بين الحالتين هو أن المدرسة - كما يتضح من اسمها - استهدفت أولًا خدمة العلم وجاء نشاطها الديني ضمنيًا عن طريق تدريس العلوم الدينية مثلًا، وبالعكس كان الهدف الأول من الجامع أو المسجد خدمة الدين
= من كبار الملوك الأيوبيين بمصر. ولد بالقاهرة سنة 603 هـ. ولي بعد خلع أخيه العادل سنة 637 هـ، وضبط الدولة بحزم، وكان شجاعًا مهيبًا عفيفًا صموتًا. مات بناحية المنصورة، ونقل إلى القاهرة، سنة 647 هـ. من آثاره: قلعة الروضة بالقاهرة. انظر: الأعلام 2/ 38، السلوك لمعرفة دول الملوك 1/ 435 - 443.
وإحياء شعائره، وبعد ذلك جاء استخدام بعض المساجد في التدريس ليحقِّق غرضًا آخر ثانويًا؛ لأن العلوم الدينية - من فقه وحديث وتفسير - احتلت مكان الصدارة في دراسات ذلك العصر.
والواقع أن النشاط الديني في عصر المماليك تطلب إقامة ما لا يكاد يُحصى من المساجد، وبخاصة في مصر والشام. وقد قَدَّر المقريزيُّ عدد المساجد التي تُقام بها الجمعة بمصر والقاهرة بمائة وثلاثين مسجدًا، في حين قَدَّرها خليل بن شاهين الظاهري
(1)
بأكثرَ مِنْ ألفِ مسجد. وفي عهد السلطان الناصر محمد، شَيَّد السلطان الناصر وأمراؤه ثمانيةً وعشرين مسجدًا، وكان إذا تم بناء جامعٍ أو مسجدٍ رُتِّب له خطيبٌ وخَدَمٌ واحتُفِل بافتتاحه في حفلٍ كبير
(2)
.
(1)
هو خليل بن شاهين الظاهريّ، غرس الدين، يعرف بابن شاهين. أميرٌ من المماليك، اشتهر بمصر، نسبته إلى الظاهر برقوق، وكان أبوه شاهين من مماليكه. ولد ببيت المقدس سنة 813 هـ. كان من المولَعين بالبحث، وله تصانيف ونظم. من مصنفاته: زبدة كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك، والإشارات إلى علم العبارات، والمواهب في اختلاف المذاهب. توفي سنة 873 هـ. انظر: الضوء اللامع 3/ 195، الأعلام 2/ 318.
(2)
انظر: العصر المماليكي في مصر والشام ص 348 - 351.