الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الْقَاعِدَة الْحَادِيَة وَالثَّلَاثُونَ
(الْمَادَّة / 32))
("
الْحَاجة تنزل منزلَة الضَّرُورَة، عَامَّة كَانَت أَو خَاصَّة
")
(أَولا _ الشَّرْح)
الْحَاجة تتنزل فِيمَا يحظره ظَاهر الشَّرْع منزلَة الضَّرُورَة عَامَّة كَانَت أَو خَاصَّة. وتنزيلها منزلَة الضَّرُورَة فِي كَونهَا تثبت حكما. وَإِن افْتَرقَا فِي كَون حكم الأولى مستمراً وَحكم الثَّانِيَة موقتاً بِمدَّة قيام الضَّرُورَة إِذْ الضَّرُورَة تقدر بِقَدرِهَا.
وكيفما كَانَت الْحَاجة فَالْحكم الثَّابِت بِسَبَبِهَا يكون عَاما بِخِلَاف الحكم الثَّابِت بِالْعرْفِ وَالْعَادَة فَإِنَّهُ يكون مُقْتَصرا وخاصاً بِمن تعارفوه وتعاملوا عَلَيْهِ واعتادوه، وَذَلِكَ لِأَن الْحَاجة إِذا مست إِلَى إِثْبَات حكم تسهيلاً على قوم لَا يمْنَع ذَلِك من التسهيل على آخَرين وَلَا يضر، بِخِلَاف الحكم الثَّابِت بِالْعرْفِ وَالْعَادَة فَإِنَّهُ يقْتَصر على أهل ذَلِك الْعرف إِذْ لَيْسَ من الْحِكْمَة إِلْزَام قوم بعرف آخَرين وعادتهم ومؤاخذاتهم بهَا.
ثمَّ الضَّرُورَة فِي الْحَالة الملجئة إِلَى مَا لَا بُد مِنْهُ.
وَالْحَاجة هِيَ الْحَالة الَّتِي تستدعي تيسيراً أَو تسهيلاً لأجل الْحُصُول على الْمَقْصُود، فَهِيَ دون الضَّرُورَة من هَذِه الْجِهَة، وَإِن كَانَ الحكم الثَّابِت لأَجلهَا مستمراً، وَالثَّابِت للضَّرُورَة موقتاً كَمَا تقدم.
ثمَّ إِنَّمَا يُضَاف تَجْوِيز الحكم إِلَى الْحَاجة فِيمَا يظْهر إِذا كَانَ تجويزه مُخَالفا للْقِيَاس، وَإِلَّا كَانَت إِضَافَته للْقِيَاس أولى.
وَالظَّاهِر أَن مَا يجوز للْحَاجة إِنَّمَا يجوز فِيمَا ورد فِيهِ نَص يجوزه، أَو تعامل، أَو لم يرد فِيهِ شَيْء مِنْهُمَا وَلَكِن لم يرد فِيهِ نَص يمنعهُ بِخُصُوصِهِ وَكَانَ لَهُ نَظِير فِي الشَّرْع يُمكن إِلْحَاقه بِهِ وَجعل مَا ورد فِي نَظِيره وارداً فِيهِ.
كَمَا فِي بيع الْوَفَاء فَإِن مُقْتَضَاهُ عدم الْجَوَاز، لِأَنَّهُ إِمَّا من قبيل الرِّبَا لِأَنَّهُ انْتِفَاع بِالْعينِ بِمُقَابلَة الدّين، أَو صَفْقَة مَشْرُوطَة فِي صَفْقَة كَأَنَّهُ قَالَ: بِعته مِنْك بِشَرْط أَن تبيعه مني إِذا جئْتُك بِالثّمن. وَكِلَاهُمَا غير جَائِز، وَلَكِن لما مست الْحَاجة إِلَيْهِ فِي بُخَارى بِسَبَب كَثْرَة الدُّيُون على أَهلهَا جوز على وَجه أَنه رهن أُبِيح الِانْتِفَاع بأنزاله، وَالرَّهْن على هَذِه الْكَيْفِيَّة جَائِز.
أَو كَانَ لم يرد فِيهِ نَص يجوزه أَو تعامل، وَلم يرد فِيهِ نَص يمنعهُ، وَلم يكن لَهُ نَظِير جَائِز فِي الشَّرْع يُمكن إِلْحَاقه بِهِ، وَلَكِن كَانَ فِيهِ نفع ومصلحة. كَمَا وَقع فِي الصَّدْر الأول من تدوين الدَّوَاوِين، وَضرب الدَّرَاهِم، والعهد بالخلافة وَغير ذَلِك مِمَّا لم يَأْمر بِهِ الشَّرْع وَلم ينْه عَنهُ وَلم يكن لَهُ نَظِير قبل، فَإِنَّهُ دعت إِلَيْهِ الْحَاجة وسوغته الْمصلحَة، بِخِلَاف الضَّرُورَة فَإِن مَا يجوز لأَجلهَا لَا يعْتَمد شَيْئا من ذَلِك.
أما مَا لم يرد فِيهِ نَص يسوغه، وَلَا تعاملت عَلَيْهِ الْأمة، وَلم يكن لَهُ نَظِير فِي الشَّرْع يُمكن إِلْحَاقه بِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مصلحَة عملية ظَاهِرَة، فَإِن الَّذِي يظْهر عندئذ عدم جَوَازه، جَريا على ظواهر الشَّرْع، لِأَن مَا يتَصَوَّر فِيهِ أَنه حَاجَة وَالْحَالة هَذِه يكون غير منطبق على مَقَاصِد الشَّرْع. وَقد ذكر ابْن الْهمام أَن نفي الْمدْرك الشَّرْعِيّ يَكْفِي لنفي الحكم الشَّرْعِيّ (ر: فتح الْقَدِير فِي بَاب شُرُوط الصَّلَاة) .
وَأما مَا ورد فِيهِ نَص يمنعهُ بِخُصُوصِهِ فَعدم الْجَوَاز فِيهِ وَاضح وَلَو ظنت فِيهِ مصلحَة لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ وهم. (ر: مَا سَيَأْتِي تَحت الْقَاعِدَة / 38) .
(ثَانِيًا _ التطبيق)
مِمَّا فرع على هَذِه الْقَاعِدَة: (أ) تَجْوِيز الْإِجَارَة، فَإِنَّهَا جوزت بِالنَّصِّ على خلاف الْقيَاس، للْحَاجة إِلَيْهَا، وَذَلِكَ لِأَن عقد الْإِجَارَة يرد على الْمَنَافِع وَهِي مَعْدُومَة، وتمليك الْمَعْدُوم قبل وجوده يَسْتَحِيل، وَلَا يُمكن جعل العقد فِيهَا مُضَافا إِلَى زمن وجود الْمَنْفَعَة لِأَن التمليكات لَا تقبل الْإِضَافَة.
(ب) وَمِنْه: تَجْوِيز السّلم، فَإِنَّهُ جوز بِالنَّصِّ أَيْضا على خلاف الْقيَاس للْحَاجة، لِأَنَّهُ بيع الْمَعْدُوم أَيْضا.
(ج) وَمِنْه: تَجْوِيز ضَمَان الدَّرك، فَإِنَّهُ جوز بِالْإِجْمَاع، على خلاف الْقيَاس. وَذَلِكَ لِأَن الْكفَالَة من جِهَة الْمَطْلُوب، وَهُوَ الْمَكْفُول عَنهُ، بِمَنْزِلَة الطَّلَاق وَالْعتاق لَا تتَوَقَّف على قبُوله، وَمن جِهَة الطَّالِب، وَهُوَ الْمَكْفُول لَهُ، بِمَنْزِلَة البيع لِأَنَّهَا تملكه حق مُطَالبَة الْكَفِيل، فتستدعي التَّنْجِيز كَسَائِر التمليكات، وَضَمان الدَّرك عبارَة عَن ضَمَان الثّمن للْمُشْتَرِي عِنْد اسْتِحْقَاق الْمَبِيع، فَهُوَ كَفَالَة مُضَافَة، وَالْقِيَاس يأباها لِأَنَّهَا تمْلِيك للطَّالِب كَمَا ذكرنَا، والتمليكات لَا تقبل الْإِضَافَة، لَكِنَّهَا جوزت بِالْإِجْمَاع (ر: الْهِدَايَة، من الْكفَالَة) لمَكَان التَّعَامُل، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلمن جَاءَ بِهِ حمل بعير وَأَنا بِهِ زعيم} على مَا فِيهِ من الْبَحْث.
(د) وَمِنْه: تجويزهم اسْتِئْجَار السمسار على أَنه لَهُ فِي كل مائَة كَذَا، فَإِن الْقيَاس يمنعهُ، وَيُوجب لَهُ أجر الْمثل. وَلَكِن جوزوه للتعامل (ر: رد الْمُحْتَار، من الْإِجَارَة الْفَاسِدَة، نقلا عَن التَّتارْخَانِيَّة عَن مُحَمَّد بن سَلمَة) وَقَالَ عقبه: وَكثير من هَذَا غير جَائِز فجوزوه لحَاجَة النَّاس إِلَيْهِ.
(هـ) وَمِنْه: تَجْوِيز اسْتِئْجَار الظِّئْر للإرضاع، على القَوْل بِأَن العقد يرد على اللَّبن والخدمة تثبت تبعا، فَإِنَّهُ جوز للْحَاجة، بالتعامل وَبِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:{فَإِن أرضعن لكم فَآتُوهُنَّ أُجُورهنَّ} ، وَإِلَّا فَالْقِيَاس يأباه لِأَنَّهُ وَارِد على اسْتِهْلَاك الْعين، وَالْإِجَارَة إِذا وَردت على اسْتِهْلَاك الْأَعْيَان مَقْصُودا لَا تجوز.
(و) وَمِنْه: تَجْوِيز الاستصناع فِيمَا فِيهِ تعامل، على الصَّحِيح من أَن الاستصناع بيع لَا عدَّة، فَإِن الْقيَاس يأباه لِأَنَّهُ بيع الْمَعْدُوم، لَكِن جوزوه اسْتِحْسَانًا بِالْإِجْمَاع للْحَاجة بِسَبَب تعامل النَّاس عَلَيْهِ. وَمَا فِيهِ من الْخلاف فَلَيْسَ فِي أصل جَوَازه بل فِي أَنه بيع أَو عدَّة.
(ز) وَمِنْه: تَجْوِيز دُخُول الْحمام بِأَجْر، فَمُقْتَضى الْقيَاس عدم جَوَازه، لِأَنَّهُ وَارِد على اسْتِهْلَاك الْأَعْيَان وَهُوَ المَاء الْحَار، وَمَعَ ذَلِك فَإِن مَا يَسْتَوْفِيه كل من الآخر مَجْهُول. لكنه جوز لحَاجَة النَّاس، بالتعامل، وَله نَظِير فِي الشَّرْع يُمكن إِلْحَاقه بِهِ، وَهُوَ جَوَاز اسْتِئْجَار الظِّئْر بطعامها وكسوتها (ر: تنوير الْأَبْصَار، من الْإِجَارَة الْفَاسِدَة) فَإِن مَا يَسْتَوْفِيه كل من الْمُؤَجّر وَالْمُسْتَأْجر من صَاحبه مَجْهُول. وَهَذَا النظير (أَعنِي اسْتِئْجَار الظِّئْر بطعامها وكسوتها) هُوَ من السوابق الشائعة من صدر الْإِسْلَام بِلَا نَكِير، وجوازه مَرْوِيّ عَن أبي حنيفَة نَفسه (كَمَا فِي شُرُوح الْهِدَايَة ورد الْمُحْتَار من الْإِجَارَة الْفَاسِدَة) .
(ح) وَمِنْه: تَجْوِيز الْوَصِيَّة، فَإِن الْقيَاس يأباها لِأَنَّهَا تمْلِيك مُضَاف لما بعد الْمَوْت، والتمليكات لَا تقبل الْإِضَافَة، وَأَيْضًا بِالْمَوْتِ ينْتَقل الْملك إِلَى الْوَارِث فَلم يبْق ملك للمورث بعد الْمَوْت حَتَّى يملك تَمْلِيكه للْغَيْر. وَلَكِن جوزت بِنَصّ الْكتاب الْعَزِيز، للْحَاجة.