الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الْقَاعِدَة الرَّابِعَة
(الْمَادَّة / 5))
("
الأَصْل بَقَاء مَا كَانَ على مَا كَانَ
")
(أَولا _ الشَّرْح)
" الأَصْل بَقَاء مَا كَانَ على مَا كَانَ، حَتَّى يقوم الدَّلِيل على خِلَافه " لِأَن الأَصْل إِذا اعْترض عَلَيْهِ دَلِيل خِلَافه بَطل. (ر: رد الْمُحْتَار، كتاب الدَّعْوَى، آخر دَعْوَى الرجلَيْن، نقلا عَن الزَّيْلَعِيّ) .
الأَصْل فِي اللُّغَة: أَسْفَل الشَّيْء، وَفِي الِاصْطِلَاح يُطلق على معَان كَثِيرَة، مِنْهَا أَنه يسْتَعْمل بِمَعْنى القانون وَالْقَاعِدَة المنطبقة على جزئياتها. (ر: كليات أبي الْبَقَاء) ، وَهُوَ المُرَاد هُنَا.
وَمعنى هَذِه الْقَاعِدَة أَنه إِذا جهل فِي وَقت الْخُصُومَة حَال الشَّيْء وَلَيْسَ هُنَاكَ دَلِيل يحكم بِمُقْتَضَاهُ، وَكَانَ لذَلِك الشَّيْء حَال سَابِقَة معهودة، فَإِن الأَصْل فِي ذَلِك أَن يحكم بِبَقَائِهِ واستمراره على تِلْكَ الْحَال الْمَعْهُودَة الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، حَتَّى يقوم الدَّلِيل على خلاف ذَلِك فيصار حِينَئِذٍ إِلَيْهِ.
وَذَلِكَ الدَّلِيل أحد أَرْبَعَة أَشْيَاء: الْبَيِّنَة، وَالْإِقْرَار، والنكول، والأمارة الظَّاهِرَة؛ على أَن النّكُول يرجع إِلَى مُجَرّد الْقَرِينَة الظَّاهِرَة:(ر: مَا سَيَأْتِي عَن معِين الْحُكَّام أثْنَاء الْكَلَام على الْقَاعِدَة الثَّامِنَة: " الأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة ") . فَأَما الْبَيِّنَة وَالْإِقْرَار والنكول فأمثلتها وَاضِحَة مَعْلُومَة، وَأما الأمارة الظَّاهِرَة فكتحكيم الْحَال الْآتِي قَرِيبا فِي الْكَلَام على النَّوْع الثَّانِي من نَوْعي الِاسْتِصْحَاب.
إِن هَذِه الْقَاعِدَة لَيست من الْقَوَاعِد الْكُلية الَّتِي لَيست دَاخِلَة تَحت غَيرهَا،
بل هِيَ _ وَمَا بعْدهَا من الْقَوَاعِد الْآتِيَة حَتَّى الْمَادَّة / 13 / _ من فروع الْمَادَّة الرَّابِعَة الْمُتَقَدّمَة وَهِي " الْيَقِين لَا يَزُول بِالشَّكِّ " وداخلات تحتهَا.
(ثَانِيًا _ التطبيق)
يتَفَرَّع على هَذِه الْقَاعِدَة مسَائِل كَثِيرَة: (أ) مِنْهَا: مَا لَو ادَّعَت الزَّوْجَة على زَوجهَا عدم وُصُول النَّفَقَة الْمقدرَة إِلَيْهَا، وَادّعى الزَّوْج الإيصال، فَالْقَوْل قَوْلهَا بِيَمِينِهَا، لِأَن الأَصْل بَقَاؤُهَا بعد أَن كَانَت ثَابِتَة فِي ذمَّته حَتَّى يقوم على خِلَافه دَلِيل من بَينه أَو نُكُول.
وَمثله: كل مَدين، فَلَو ادّعى الْمُسْتَقْرض دفع الدّين إِلَى الْمقْرض، أَو ادّعى المُشْتَرِي دفع الثّمن إِلَى البَائِع، أَو ادّعى الْمُسْتَأْجر دفع بدل الْإِجَارَة إِلَى الْمُؤَجّر، وَأنكر الْمقْرض وَالْبَائِع والمؤجر الْقَبْض فَالْقَوْل قَوْلهم، لِأَن الأَصْل بَقَاء مبلغ الْقَرْض وَالثمن وَالْأُجْرَة بعد ثُبُوتهَا فِي الذِّمَّة.
(ب) وَمِنْهَا: مَا لَو اخْتلف البَائِع وَالْمُشْتَرِي فِي مُضِيّ مُدَّة خِيَار الشَّرْط، أَو فِي مُضِيّ مُدَّة أجل الثّمن، فَالْقَوْل لمنكر الْمُضِيّ، لِأَنَّهُمَا تَصَادقا على ثُبُوت الْخِيَار وَالْأَجَل ثمَّ ادّعى أَحدهمَا السُّقُوط، وَالْأَصْل بقاؤهما بعد الثُّبُوت. (ر: الدُّرَر وحاشيته، أَوَاخِر خِيَار الشَّرْط من كتاب الْبيُوع) .
(ج) وَمِنْهَا: مَا لَو بَاعَ إِنْسَان شَيْئَيْنِ صَفْقَة وَاحِدَة فَهَلَك أَحدهمَا عِنْد المُشْتَرِي وَجَاء بِالْآخرِ ليَرُدهُ بِعَيْب فِيهِ على البَائِع بِحِصَّتِهِ من الثّمن، فاختلفا فِي قيمَة الْهَالِك، فَالْقَوْل للْبَائِع. (ر: رد الْمُحْتَار، من البيع الْفَاسِد، عِنْد قَول المُصَنّف: وَفَسَد بيع زَيْت على أَن يزنه فِي ظرفه ويطرح عَن الظّرْف كَذَا رطلا) لِأَن الثّمن جَمِيعه ثَابت فِي ذمَّة المُشْتَرِي فَالْأَصْل بَقَاء الْقدر الْمُخْتَلف فِيهِ فِي ذمَّته حَتَّى يبرهن على دَعْوَاهُ.
(د) وَمِنْهَا: مَا لَو ادَّعَت امتداد الطُّهْر وَعدم انْقِضَاء الْعدة، صدقت بِيَمِينِهَا، وَلها نَفَقَة الْعدة، لِأَن الأَصْل بَقَاء الْعدة بعد وجودهَا
يطلقون على هَذَا الأَصْل الْمَذْكُور، أَعنِي قَاعِدَة بَقَاء مَا كَانَ على مَا كَانَ، لَفْظَة (الِاسْتِصْحَاب) ، وَهُوَ عبارَة عَن الحكم على أَمر ثَابت فِي وقتٍ بِثُبُوتِهِ فِي وَقت آخر.
وَهُوَ نَوْعَانِ: الأول _ جعل الْأَمر الثَّابِت فِي الْمَاضِي مستصحباً للْحَال، وَمن هَذَا النَّوْع هَذِه الْقَاعِدَة وَمَا تفرع عَلَيْهَا.
الثَّانِي _ جعل الْأَمر الثَّابِت فِي الْحَال مستصحباً ومنسحباً للماضي، وَهُوَ الْمُسَمّى بالاستصحاب المعكوس، وبتحكيم الْحَال، وأمثلته كَثِيرَة: مِنْهَا: مَا لَو كَانَ للِابْن الْغَائِب مَال عِنْد أَبِيه، فأنفق الْأَب مِنْهُ على نَفسه، ثمَّ اخْتلفَا فَقَالَ الابْن للْأَب: إِنَّك أنفقت على نَفسك مِنْهُ وَأَنت مُوسر، وَقَالَ الْأَب: أنفقت وَأَنا مُعسر، وَلَا بَيِّنَة لأَحَدهمَا، فَإِنَّهُ يحكم الْحَال؛ فَلَو كَانَ حَال الْخُصُومَة مُعسرا فَالْقَوْل لَهُ، وَلَو مُوسِرًا فَالْقَوْل لِابْنِهِ، وَلَو برهن كل من الْأَب وَالِابْن على دعواهما تقدم بَيِّنَة الابْن. (ر: الدّرّ الْمُخْتَار، أَوَاخِر النَّفَقَة) ، فقد جعل الْيَسَار أَو الْإِعْسَار الْقَائِم فِي الْحَاضِر منسجماً مَعَ الْمَاضِي. وَإِنَّمَا لم يَجْعَل القَوْل قَول مدعي الْإِعْسَار مُطلقًا على أَنه الصّفة الْأَصْلِيَّة فِي الْإِنْسَان، وَالْأَصْل اعْتِبَار بَقَائِهِ، لِأَن اعْتِبَار بَقَاء مَا كَانَ على مَا كَانَ إِنَّمَا هُوَ عِنْد قيام دَلِيل على خِلَافه. (ر: مَا أسلفناه فِي أول الْكَلَام على هَذِه الْقَاعِدَة) ، وَلما كَانَ قيام صفة الْيَسَار حِين الْخُصُومَة أَمارَة ظَاهِرَة فِي تأييد كَلَام مدعيه طرح ذَلِك الأَصْل لقِيَام الدَّلِيل على خِلَافه وَاعْتبر القَوْل لمُدعِي الْيَسَار.
وَمِنْهَا: مَا لَو ادّعى الْمُسْتَأْجر سُقُوط الْأُجْرَة بزعم أَن الْمَأْجُور غصب مِنْهُ ففات الِانْتِفَاع بِهِ وَأنكر الْمُؤَجّر ذَلِك فَإِنَّهُ يحكم الْحَال وَينظر: إِن كَانَ الْمَأْجُور فِي يَد الْغَاصِب حِين الْخُصُومَة فَالْقَوْل للْمُسْتَأْجر، وَإِن لم يكن فِي يَد غَاصِب فَالْقَوْل للمؤجر. (ر: الذَّخِيرَة، من كتاب الْإِجَارَة، الْبَاب الثَّانِي وَالْعِشْرين) . وَالْحَالة الثَّانِيَة وَهِي عدم كَونه فِي يَد غَاصِب، تَشْمَل صُورَتَيْنِ، إِحْدَاهمَا: أَن يكون فِي يَد الْمُسْتَأْجر، وَالثَّانيَِة: أَن لَا يكون فِي يَد أحد.
وَمِنْهَا: مَا لَو بَاعَ الْأَب مَال طِفْله ثمَّ بلغ، فَادّعى _ بعد بُلُوغه _ على المُشْتَرِي أَن البيع كَانَ بِغَبن فَاحش وَالْمُشْتَرِي يُنكر ذَلِك، فَإِنَّهُ يحكم الْحَال لَو لم تكن الْمدَّة قدر مَا يتبدل بِهِ السّعر. (ر: جَامع الْفُصُولَيْنِ، الْفَصْل السَّابِع وَالْعِشْرين، صفحة / 28) .
وَمِنْهَا: مَسْأَلَة اخْتِلَاف مؤجر الطاحون ومستأجرها فِي أصل انْقِطَاع مَائِهَا الْمَذْكُورَة فِي الْمَادَّة / 1776 / من الْمجلة. وَمَسْأَلَة الِاخْتِلَاف فِي حُدُوث طَرِيق المَاء الَّذِي يجْرِي إِلَى دَار إِنْسَان وَقدمه الْمَذْكُورَة فِي الْمَادَّة / 1777 / مِنْهَا.
وَقد اخْتلف فِي حجية الِاسْتِصْحَاب بنوعيه، وَالْمَشْهُور فِي الْمَذْهَب أَنه يصلح حجَّة للدَّفْع لَا للاستحقاق. (ر: الْأَشْبَاه والنظائر، وجامع الْفُصُولَيْنِ، أَوَائِل الْفَصْل السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ مِنْهُ) .
وَذَلِكَ: كَمَا لَو تنَازع اثْنَان فِي جِدَار، وَكَانَ لأَحَدهمَا عَلَيْهِ جُذُوع وَللْآخر اتِّصَال تربيع، فذو التربيع أولى، إِذْ الِاسْتِعْمَال بالتربيع _ وَهُوَ تدَاخل أَطْرَاف اللبنات حِين بنائِهِ _ سَابق على الِاسْتِعْمَال بالجذوع، إِلَّا أَنه لَا ترفع جُذُوع الآخر لِأَن اتِّصَال التربيع من قبيل الظَّاهِر، وَالْملك الثَّابِت بِهِ ثَابت بِنَوْع ظَاهر، وَالظَّاهِر يصلح للدَّفْع لَا للاستحقاق.
بِخِلَاف مَا لَو برهن ذُو التربيع أَن الْحَائِط لَهُ، فَإِن جُذُوع الآخر ترفع، إِذْ الْبَيِّنَة حجَّة تصلح للدَّفْع والاستحقاق على الْغَيْر. (ر: جَامع الْفُصُولَيْنِ، الْفَصْل السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ، صفحة / 278، موضحاً) ثمَّ أعَاد الْمَسْأَلَة ثَانِيًا، فِي صفحة / 280 /، وَحكى الْإِجْمَاع على أَن جُذُوع الآخر ترفع لَو برهن
وَلَا يخفى أَن مَا ذكره من أَن جُذُوع الآخر ترفع عِنْد الْإِثْبَات بِالْبَيِّنَةِ إِنَّمَا هُوَ إِذا لم يثبت قدم وَضعهَا، أما إِذا ثَبت أَنَّهَا مَوْضُوعَة من الْقَدِيم فَإِنَّهَا لَا ترفع، إِذا ظهر أَنَّهَا مَوْضُوعَة بِحَق، فَإِن الْقَدِيم يتْرك على قدمه. (ر: مَا سَيَأْتِي فِي الْقَاعِدَة التالية لهَذِهِ) .
وكما فِي مَسْأَلَة الْمَفْقُود _ وَهُوَ الْغَائِب غيبَة مُنْقَطِعَة بِحَيْثُ لَا يعرف مَوته أَو حَيَاته _ فَإِنَّهُ يعْتَبر حَيا فِي حق نَفسه، أَي فِي دفع اسْتِحْقَاق الْغَيْر مِنْهُ، إِلَى أَن يثبت مَوته حَقِيقَة بِالْبَيِّنَةِ أَو حكما بِأَن يقْضِي القَاضِي بِمَوْتِهِ بعد موت جَمِيع أقرانه، فَلَا يقسم، قبل ذَلِك، مَاله بَين ورثته وَلَا تفسخ إِجَارَته. وَلَو كَانَ لَهُ وَدِيعَة عِنْد أحد يجب على الْمُسْتَوْدع حفظهَا، وَلَيْسَ لأحد من وَارِث أَو قَاض أَن يَأْخُذهَا مِنْهُ إِذا كَانَ مَأْمُونا عَلَيْهَا. (ر: مَا تقدم فِي شرح الْمَادَّة الرَّابِعَة) .
وَيعْتَبر كالميت فِي جَانب الِاسْتِحْقَاق من غَيره، لِأَن اسْتِصْحَاب حَيَاته السَّابِقَة لَا يَكْفِي حجَّة للاستحقاق، فَلَا يَرث من غَيره بل يُوقف نصِيبه من الْمُورث، فَإِن ظهر حَيا أَخذه، وَإِن ثَبت مَوته حَقِيقَة أَو حكما أُعِيد النَّصِيب إِلَى وَرَثَة ذَلِك الْمُورث (ر: الدُّرَر وحاشيته، كتاب الْمَفْقُود) .
وكما لَو مَاتَ نَصْرَانِيّ مثلا فَجَاءَت امْرَأَته مسلمة وَقَالَت: أسلمت بعد مَوته فلي الْمِيرَاث، وَقَالَ الْوَرَثَة: أسلمت قبل مَوته فَلَا مِيرَاث لَك، فَالْقَوْل للْوَرَثَة لَا للْمَرْأَة، فَهُنَا كل من الطَّرفَيْنِ متمسك بِنَوْع من الِاسْتِصْحَاب، فالمرأة تُرِيدُ اسْتِحْقَاق الْإِرْث تمسكاً بالاستصحاب الْحَقِيقِيّ، وَهُوَ استمرارها إِلَى مَا بعد موت زَوجهَا على دينه الَّذِي كَانَت تدين بِهِ، والاستصحاب لَا يَكْفِي حجَّة للاستحقاق، وَالْوَرَثَة يدفعونها عَن اسْتِحْقَاق الْإِرْث تمسكاً بالاستصحاب المعكوس، وَهُوَ انسحاب مَانع الْإِرْث الْقَائِم بِالْمَرْأَةِ حِين الْخُصُومَة، أَعنِي إسْلَامهَا، إِلَى مَا قبل موت الزَّوْج، والاستصحاب يَكْفِي حجَّة للدَّفْع، فَكَانَ القَوْل لَهُم.
أما لَو مَاتَ الْمُسلم وَله امْرَأَة نَصْرَانِيَّة مثلا، فَجَاءَت بعد مَوته مسلمة وَقَالَت: أسلمت قبل مَوته فلي الْمِيرَاث، وَقَالَ الْوَرَثَة: أسلمت بعد مَوته، فَإِنَّهُ
لَا يكون القَوْل قَوْلهَا حكما لَهَا بالاستصحاب المعكوس الْمُتَقَدّم، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تُرِيدُ بِهِ اسْتِحْقَاق الْإِرْث، وَهُوَ لَا يصلح حجَّة للاستحقاق بل يكون القَوْل للْوَرَثَة أَيْضا حكما بالاستصحاب الْحَقِيقِيّ وَهُوَ بَقَاؤُهَا على دينهَا إِلَى مَا بعد الْمَوْت، لِأَن الْوَرَثَة يدفعونها بذلك عَن الِاسْتِحْقَاق (ر: الْأَشْبَاه والنظائر) وَيشْهد لَهُم ظَاهر الْحُدُوث أَيْضا حَيْثُ يضيفون إسْلَامهَا الْحَادِث لأَقْرَب أوقاته (ر: مَا سَيَأْتِي فِي مستثنيات الْمَادَّة / 11) .
هَذَا، وَإِنَّمَا كَانَ الِاسْتِصْحَاب غير حجَّة فِي الِاسْتِحْقَاق لِأَنَّهُ من قبيل الظَّاهِر، وَمُجَرَّد الظَّاهِر لَا ينتهض حجَّة فِي إِلْزَام الْغَيْر، وَلما كَانَ الِاسْتِحْقَاق على الْغَيْر إلزاماً لَهُ لم يكتف فِيهِ بِالظَّاهِرِ. قَالَ الإِمَام الْكَرْخِي فِي أُصُوله:" الأَصْل أَن الظَّاهِر يدْفع الِاسْتِحْقَاق وَلَا يُوجب الِاسْتِحْقَاق "، وَقَالَ الإِمَام النَّسَفِيّ فِي شرح ذَلِك: " من مسَائِل هَذَا الأَصْل أَن من كَانَ فِي يَده دَار فجَاء رجل يدعيها فَظَاهر يَده يدْفع اسْتِحْقَاق الْمُدعى، حَتَّى لَا يقْضى لَهُ إِلَّا بِالْبَيِّنَةِ. وَلَو بِيعَتْ دَار لجنب هَذِه الدَّار فَأَرَادَ أَخذ الدَّار الْمَبِيعَة بِالشُّفْعَة بِسَبَب الْجوَار لهَذِهِ الدَّار، فَأنْكر الْمُدعى عَلَيْهِ أَن تكون هَذِه الدَّار الَّتِي فِي يَده مَمْلُوكَة لَهُ، فَإِنَّهُ بِظَاهِر يَده لَا يسْتَحق الشُّفْعَة مَا لم يثبت أَن هَذِه الدَّار ملكه.
وَذكر ابْن نجيم فِي الْأَشْبَاه، نقلا عَن التَّحْرِير، أَن الْأَوْجه أَن الِاسْتِصْحَاب لَيْسَ بِحجَّة مُطلقًا لَا فِي الدّفع وَلَا فِي الِاسْتِحْقَاق، وَأَن مَا يدل بِظَاهِرِهِ من الْفُرُوع على أَنه حجَّة فِي الدّفع فَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَة احتجاجاً بالاستصحاب، بل باستمرار الْعَدَم الَّذِي هُوَ الأَصْل فِي الْأَشْيَاء.
هَكَذَا ذكرُوا، وَلم يظْهر لي، لِأَن اسْتِمْرَار الْعَدَم فِي الْمسَائِل العدمية هُوَ عين الِاسْتِصْحَاب الْمَذْكُور، وَلَا فرق بَينهمَا إِلَّا فِي التَّعْبِير. على أَن كثيرا من الْأُمُور الَّتِي حكمُوا فِيهَا بالاستصحاب لَيست من الْأُمُور العدمية حَتَّى يَصح أَن يُقَال فِيهَا إِن الِاحْتِجَاج بهَا من قبيل الِاحْتِجَاج باستمرار الْعَدَم الْأَصْلِيّ، بل هُوَ من الْأُمُور الوجودية الْعَارِضَة، كَمَا فِي مَسْأَلَة اخْتِلَاف الْأَب وَالِابْن فِي الْيَسَار والإعسار الْمُتَقَدّمَة، فقد حكم فِيهَا بيسار الْأَب الْمَاضِي لما كَانَ مُوسِرًا وَقت الْخُصُومَة، فَكيف يُمكن أَن يعْتَبر هَذَا حكما باستمرار الْعَدَم الْأَصْلِيّ؟
…
.
(ثَالِثا _ الْمُسْتَثْنى)
خرج عَن هَذِه الْقَاعِدَة مسَائِل: مِنْهَا: مَا تقدم فِي الْمَادَّة / 3 / من أَن الْمُودع إِذا ادّعى رد الْوَدِيعَة أَو هلاكها، وَالْمَالِك يُنكر، فَالْقَوْل للْمُودع، مَعَ أَن الأَصْل بَقَاؤُهَا عِنْده، وَذَلِكَ لِأَن كل أَمِين ادّعى رد الْأَمَانَة إِلَى مستحقها فَالْقَوْل قَوْله بِيَمِينِهِ، لِأَن الأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة وَعدم التَّعَدِّي وَالتَّقْصِير.
وَمِنْهَا: مَا لَو ادَّعَت الْمَرْأَة مُضِيّ عدتهَا فِي مُدَّة تحْتَمل، صدقت بِيَمِينِهَا (ر: التَّنْوِير، بَاب الْعدة) مَعَ أَن الأَصْل بَقَاء الْعدة بعد وجودهَا، وَذَلِكَ لِأَن مُضِيّ الْعدة من الْأُمُور الَّتِي لَا تعلم إِلَّا مِنْهَا، فَإِذا لم يقبل قَوْلهَا فِي مضيها لَا يُمكن ثُبُوت مضيها أصلا، فَقبل قَوْلهَا فِي ذَلِك ضَرُورَة.
((صفحة فارغة))