الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واستقصاء مَا يُمكن تفريعه على هَذِه الْقَاعِدَة من الْمسَائِل تَنْقَطِع الآمال دون الْوُصُول إِلَيْهِ، وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ من التفاريع مستوضح لذِي لب.
(تَنْبِيه)
إِن تَفْسِير لَفْظَة: " وَلَا ضرار " بِالْمَعْنَى السَّابِق الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي صدر الْكَلَام على الْمَادَّة هُوَ بِمَعْنى قَول الْمجلة، فِي الْمَادَّة / 921 / " لَيْسَ للمظلوم أَن يظلم غَيره " وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ شَامِل للظالم أَيْضا، فَلَيْسَ للمظلوم أَن يَظْلمه أصلا، بل لَهُ أَن يتَخَلَّص من ظلمه وَيَأْخُذ الْحق مِنْهُ وَيسْعَى وَرَاء ردعه عَن الظُّلم بِمَا يَكْفِي رادعاً لأمثاله عَن المعاودة، كَمَا يعلم ذَلِك من مُرَاجعَة أَحْكَام التَّعْزِير، أما مَا زَاد على ذَلِك فَلَا يجوز، قَالَ الله تَعَالَى:{وَلمن انتصر بعد ظلمه فَأُولَئِك مَا عَلَيْهِم من سَبِيل إِنَّمَا السَّبِيل على الَّذين يظْلمُونَ النَّاس ويبغون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق} .
وَلِهَذَا لم يجوز الشَّرْع لأحد الاعتداء على حق أحد وَلَو كَانَ غَاصبا، فَلَو غصب أَرضًا مثلا وزرعها فجَاء رَبهَا، فإمَّا أَن يكون الزَّرْع قد نبت أَو لَا، وَإِذا كَانَ نبت فإمَّا أَن يكون قد استحصد أَو لَا، فَإِن كَانَ نبت واستحصد فَهُوَ للْغَاصِب، وللمالك أَن يرجع بِنُقْصَان أرضه، وَإِن كَانَ نبت وَلم يستحصد فللمالك أَن يَأْمر الْغَاصِب بقلعه وتفريغ ملكه، فَإِن أَبى يقلعه بِنَفسِهِ أَو يرفع الْأَمر للْحَاكِم ليقلعه، وَإِن كَانَ لم ينْبت فالمالك مُخَيّر إِن شَاءَ تَركهَا حَتَّى ينْبت فيأمره بقلعه وَإِن شَاءَ أعطَاهُ مَا زَاد الْبذر فِي الأَرْض فتقوم مبذورة ببذر يجب قلعه إِذا نبت وَتقوم غير مبذورة، فَيعْطى فصل مَا بَينهمَا؛ وَهُوَ الْأَصَح، وَعَن أبي يُوسُف أَنه يُعْطِيهِ مثل بذره؛ وَرجح بعلامة الْمُخْتَار، (ر: جَامع الْفُصُولَيْنِ وحاشيته للرملي، الْفَصْل الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ، صفحة / 100 - 101) وَالظَّاهِر أَنه فِي صُورَة مَا إِذا كَانَ الزَّرْع لم ينْبت بعد وَاخْتَارَ الْمَالِك تَركهَا إِلَى أَن ينْبت فَإِنَّهَا تتْرك بِأَجْر الْمثل لَا مجَّانا، وَهُوَ دَاخل تَحت قَول صَاحب جَامع الْفُصُولَيْنِ، فِي الْمحل الْمَذْكُور برمز " الْوَاقِعَات ": قَالَ أَبُو يُوسُف رحمه الله: لَو غصب أَرضًا وزرعها وَلم تنْبت حَتَّى جَاءَ رَبهَا فَهُوَ مُخَيّر لَو شَاءَ ترك بذره فِيهَا بِأَجْر الْمثل وَلَو شَاءَ ضمن الْبذر للْغَاصِب. انْتهى.
فَانْظُر كَيفَ حفظ الشَّرْع حق الْغَاصِب وَلم يتساهل فِيهِ، بل أوجب لَهُ مَا زَاد بذره فِي قيمَة الأَرْض، على مَا هُوَ الْأَصَح، أَو أوجب لَهُ مثل بذره، على مَا هُوَ الْمُخْتَار، مَعَ كَونه أَلْقَاهُ بِاخْتِيَارِهِ فِي أَرض الْغَيْر بِلَا حق يسوغ لَهُ ذَلِك؛ وَذَلِكَ لِأَن فعله هَذَا لَا يخرج الْبذر عَن كَونه ملكا لَهُ مُحْتَرما، وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَلَا يجوز ظلمه بتفويته عَلَيْهِ بِلَا عوض، وَذَلِكَ غير منَاف لوُجُوب ردعه عَن ظلمه بِمَا يَكْفِي زاجراً لَهُ عَن الْعود إِلَى مثله.
وَكَذَلِكَ لَو غصب ثوبا فصبغه، فالمالك مُخَيّر بَين ترك الثَّوْب لَهُ وَأخذ قِيمَته مِنْهُ غير مصبوغ وَبَين أَخذه مصبوغاً وَيُعْطِي للْغَاصِب مَا زَاد الصَّبْغ فِيهِ (ر: الدّرّ الْمُخْتَار، من كتاب الْغَصْب، والمادة / 898 / من الْمجلة) .
هَذَا وكما لم يجوز الشَّارِع ظلم الْغَاصِب بتفويت ملكه عَلَيْهِ لم يجوز مُجَاوزَة الْحَد فِي تَضْمِينه غير مَا تنَاوله فعله وَورد عَلَيْهِ مُبَاشرَة، وَلذَا كَانَت زَوَائِد الْمَغْصُوب أَمَانَة لَا تضمن بِدُونِ تعدٍ أَو منع لَهَا عَن الْمَالِك، فَلَو غصب بقرة مثلا فَولدت عِنْده فَهَلَك وَلَدهَا فِي يَده بِلَا تعد وَلَا منع لَهُ عَن الْمَالِك، أَو غصب كرماً مثلا فأثمر فِي يَده ثمَّ هلك الثَّمر كَذَلِك فِي يَده بِلَا تعدٍ وَلَا منع لَهُ عَن الْمَالِك يهْلك أَمَانَة، لِأَنَّهُ لم يرد عَلَيْهِ الْغَصْب مُبَاشرَة (ر: الدّرّ الْمُخْتَار وَغَيره فِي كتاب الْغَصْب) .
وَكَذَلِكَ لَو أتْلفه لغيره مثلِيا ثمَّ التقيا فِي بلد آخر قيمَة الْمُتْلف من الْمثْلِيّ فِيهِ أَكثر من قِيمَته فِي بلد الْغَصْب، فالغاصب مُخَيّر بَين إِعْطَاء مثله وَإِعْطَاء قِيمَته الْمُعْتَبرَة فِي بلد الْغَصْب مَا لم يرض الْمَالِك بِتَأْخِير الْمُطَالبَة بِالْمثلِ إِلَى بلد الْغَصْب (ر: جَامع الْفُصُولَيْنِ، الْفَصْل الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ، صفحة / 130 /) فَلم يُوجب الشَّرْع الْمثل فِي الصُّورَة الْمَذْكُورَة على الْغَاصِب حتما بل خَيره وسوغ لَهُ دفع الْقيمَة مَعَ أَن الْمثْلِيّ مَضْمُون بِمثلِهِ، وَلم يجوز إضراره وَإِن كَانَ ظَالِما، وَلذَا يشْتَرط فِي دَعْوَى غصب الْمثْلِيّ غير النَّقْدَيْنِ ذكر مَكَان الْغَصْب، ليعلم هَل للْمُدَّعِي حق الْمُطَالبَة (ر: جَامع الْفُصُولَيْنِ، الْمحل السَّابِق) .
صفحة فارغة