الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الْقَاعِدَة الْحَادِيَة عشرَة
(الْمَادَّة / 12))
(الأَصْل فِي الْكَلَام الْحَقِيقَة)
(أَولا: الشَّرْح)
" الأَصْل فِي الْكَلَام الْحَقِيقَة " وَالْمجَاز فرع فِيهِ وَخلف عَنْهَا، ولكونها أصلا قدمت على الْمجَاز وَكَانَ الْعَمَل بهَا أولى من الْعَمَل بِهِ، مَا لم يُوجد مُرَجّح لَهُ فيصار إِلَيْهِ.
الْحَقِيقَة فِي اللُّغَة من حق الشَّيْء إِذا ثَبت، وَهِي فعيلة بِمَعْنى فاعلة. وَهِي فِي الِاصْطِلَاح: الْكَلِمَة المستعملة فِيمَا وضعت لَهُ فِي اصْطِلَاح التخاطب، كاستعمال لَفْظَة الْقَتْل مثلا فِي إزهاق الرّوح، فَإِنَّهُ حَقِيقَة لاستعماله فِي الْمَعْنى الوضعي لَهُ، وكاستعمال لفظ الْوَصِيَّة مثلا عِنْد أهل الشَّرْع فِي التَّمْلِيك الْمُضَاف لما بعد الْمَوْت، فَإِنَّهُ حَقِيقَة أَيْضا بِالنِّسْبَةِ لاصطلاحهم وتخاطبهم.
وَالْمجَاز: هُوَ اسْتِعْمَال الْكَلِمَة فِي غير مَا وضعت لَهُ لقَرِينَة (ر: تعريفات السَّيِّد) ، وَذَلِكَ كاستعمال لَفْظَة الْقَتْل الْمَذْكُورَة فِي الإيلام، وَاسْتِعْمَال لَفْظَة الْوَصِيَّة عِنْد أهل الشَّرْع فِي الْعَهْد الَّذِي هُوَ مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ، فَإِن كلا مِنْهُمَا مجَاز، لاستعمال الأول فِي غير مَا وضع لَهُ لُغَة وَاسْتِعْمَال الثَّانِي فِي غير مَا وضع لَهُ اصْطِلَاحا.
المُرَاد بِهَذِهِ الْقَاعِدَة أَنه إِذا كَانَ للفظ مَعْنيانِ متساوٍ اسْتِعْمَالهَا، معنى حَقِيقِيّ وَمعنى مجازي، وَورد مُجَردا عَن مُرَجّح يرجح أحد الْمَعْنيين على الآخر
يُرَاد بِهِ حينئذٍ الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ لَا الْمجَازِي، لِأَن الْمجَاز، كَمَا قُلْنَا أَولا، خلف عَن الْحَقِيقَة، فترجح هِيَ عَلَيْهِ فِي نَفسهَا.
وَذَلِكَ كلفظة النِّكَاح، فَإِنَّهَا حَقِيقَة فِي الْوَطْء مجَاز فِي العقد، وَقد تساوى استعمالهما فيهمَا، فَإِذا جَاءَ مُجَردا عَن مُرَجّح يرجح أحد الْمَعْنيين على الآخر، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:{وَلَا تنْكِحُوا مَا نكح آباؤكم من النِّسَاء} ترجحت الْحَقِيقَة، لِأَنَّهَا الأَصْل وَلم يُوجد صَارف عَنْهَا إِلَى الْمجَاز فَتكون حُرْمَة مَوْطُوءَة الْأَب ثَابِتَة بِالنَّصِّ، وَأما حُرْمَة من عقد عَلَيْهَا الْأَب عقدا صَحِيحا وَلم يدْخل بهَا فثابتة بِالْإِجْمَاع.
وَإِذا قدمت الْحَقِيقَة على الْمجَاز عِنْد تساويهما فِي الِاسْتِعْمَال كَانَ تَقْدِيمهَا حِين تكون هِيَ أَكثر اسْتِعْمَالا بِالْأولَى.
أما إِذا وجد مُرَجّح للمجاز فَلَا شكّ فِي تَقْدِيمه على الْحَقِيقَة، كَمَا فِي قَول الْأَعْشَى:
(فَلَا تقربن جَارة إِن سرها
…
عَلَيْك حرَام فانكحن أَو تأبدا)
فَإِن المُرَاد الْمَعْنى الْمجَازِي وَهُوَ العقد، والقرينة فِيهِ صدر الْبَيْت.
وَقد تتحتم الْحَقِيقَة لِاسْتِحَالَة الْمَعْنى الْمجَازِي، كَمَا فِي قَول الفرزدق:
(إِذا سقى الله قوما صوب غادية
…
فَلَا سقى الله أهل الْكُوفَة المطرا)
(التاركين على طهر نِسَاءَهُمْ
…
والناكحين بشطي دجلة البقرا)
وكما يُصَار إِلَى الْمجَاز عِنْد وجود مُرَجّح لَهُ على الْحَقِيقَة يُصَار إِلَيْهِ أَيْضا عِنْد تعذر الْحَقِيقَة، أَو تعسرها، أَو مُعَارضَة الْعرف وَالْعَادَة لَهَا.
أما تعذرها فَإِنَّهُ يكون إِمَّا باستحالتها لعدم وجود فَرد لَهَا فِي الْخَارِج، كَمَا لَو وقف على أَوْلَاده وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا أحفاد، فَإِنَّهُ يصرف إِلَيْهِم لأَنهم أَوْلَاده مجَازًا. فَإِذا ولد لَهُ ولد صلبي يصرف إِلَيْهِ تَقْدِيمًا للْحَقِيقَة. وَإِمَّا بِكَوْنِهَا غير جَائِزَة شرعا، كَالْوكَالَةِ بِالْخُصُومَةِ فَإِنَّهَا بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيّ غير جَائِزَة شرعا. لِأَن
مَعْنَاهَا الْحَقِيقِيّ هُوَ الْمُنَازعَة، والمنازعة مَنْهِيّ عَنْهَا قَالَ سُبْحَانَهُ:{وَلَا تنازعوا} فَتحمل على الْمَعْنى الْمجَازِي لَهَا وَهُوَ إِعْطَاء الْجَواب.
وَأما تعسرها فَإِنَّهُ يكون بِعَدَمِ حُصُولهَا إِلَّا بِمَشَقَّة. كَمَا سَيَأْتِي تَوْضِيحه فِي الْكَلَام على الْمَادَّة / 61 /.
وَأما مُخَالفَة الْعرف وَالْعَادَة لَهَا فَسَيَأْتِي فِي الْكَلَام على الْمَادَّة الموفية أَرْبَعِينَ.
وَأما إِذا كَانَ الْمَعْنى الْمجَازِي أَكثر اسْتِعْمَالا من الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ فَالْعَمَل بالمجاز على وَجه عَام يَجْعَل الْحَقِيقَة فَردا من أَفْرَاده أولى عِنْد أبي يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله تَعَالَى، تَرْجِيحا بِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يريدونه من لَفْظَة (عُمُوم الْمجَاز) . وَعند أبي حنيفَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الْعَمَل بِالْحَقِيقَةِ، وَالْحَالة هَذِه، أولى أَيْضا، لِأَنَّهَا الأَصْل فَمَا دَامَت مستعملة لَا يعدل عَنْهَا وَإِن قل اسْتِعْمَالهَا.
وَذَلِكَ كَمَا لَو حلف بِطَلَاق امْرَأَته على أَن لَا يَأْكُل من هَذِه الْحِنْطَة، أَو على أَن لَا يَأْكُل من هَذِه الْغنم، وَكَانَت مقتناة للدر والنسل، فَإِن الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ، وَهُوَ الْأكل من عين الْحِنْطَة أَو الْغنم، مُسْتَعْمل، وَلَكِن الْمَعْنى الْمجَازِي، وَهُوَ الْأكل مِمَّا يخرج مِنْهُمَا، أَكثر اسْتِعْمَالا. فَعِنْدَ أبي حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى لَا يَقع الطَّلَاق على الْحَالِف إِلَّا بِالْأَكْلِ من عينهَا لِأَنَّهُ الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ، وَعِنْدَهُمَا يَقع عَلَيْهِ بِالْأَكْلِ من عينهما وبالأكل مِمَّا يخرج مِنْهُمَا، وَذَلِكَ بِأَن يُرَاد بِمَا يَقع عَلَيْهِ الْأكل مِنْهُمَا معنى أَعم تكون الْحَقِيقَة فَردا من جملَة أَفْرَاده، كَأَن يُرَاد لَا يُوقع فعل الْأكل على شَيْء حَاصِل من هَذِه الْعين مثلا.
(ثَانِيًا _ التطبيق)
مِمَّا يتَفَرَّع على هَذِه الْقَاعِدَة:
(أ) مَا لَو أوصى أَو وقف على أَوْلَاد أَوْلَاده، دخل أَوْلَاد الْبَنَات على الرَّاجِح، لِأَن ولد بنت الْإِنْسَان ولد وَلَده حَقِيقَة.
(ب) وَمِنْه مَا لَو حلف بِطَلَاق زَوجته أَن لَا يفعل الشَّيْء الْفُلَانِيّ، فَوكل غَيره فَفعله الْوَكِيل لَا يَحْنَث إِذا كَانَ فعل ذَلِك الشَّيْء لَا يقبل التَّوْكِيل بِهِ أصلا، أَو كَانَ يقبل التَّوْكِيل وَلكنه كَانَ من الْأَفْعَال الَّتِي لَا يلْزم الْوَكِيل حِين فعله لَهَا أَن يضيفها إِلَى الْمُوكل.
وَبَيَان ذَلِك أَن الْأَفْعَال بِالنِّسْبَةِ لقبُول التَّوْكِيل وَعَدَمه على نَوْعَيْنِ: (1) نوع مِنْهَا يقبل التَّوْكِيل، (2) وَنَوع مِنْهَا لَا يقبله.
أَولا _ أما الْأَفْعَال الَّتِي لَا تقبل التَّوْكِيل أصلا فَهِيَ الْأَفْعَال الحسية، كَالْأَكْلِ وَالشرب وَالدُّخُول وَالْخُرُوج وَالنَّوْم وَمَا شاكلها. فَلَو حلف على عدم فعل شَيْء من هَذِه الْأَفْعَال فَأمر غَيره فَفعل لَا يَحْنَث لعدم صِحَة أمره بهَا، وَإِذا لم يَصح أمره بهَا لَا يُمكن أَن يعْتَبر فَاعِلا الْمَحْلُوف عَلَيْهِ، إِذْ لَا يُمكن أَن يعْتَبر أكل غَيره مثلا أَو دُخُوله أَو خُرُوجه أَو نَحْو ذَلِك من الْأَفْعَال الحسية وَاقعا عَنهُ أصلا، فَلَا يَحْنَث فِي شَيْء مِنْهَا إِلَّا أَن يفعل الْمَحْلُوف عَلَيْهِ بِنَفسِهِ.
ثَانِيًا _ وَأما الْأَفْعَال الَّتِي تقبل التَّوْكِيل فَهِيَ على نَوْعَيْنِ أَيْضا: (1) نوع مِنْهَا يجب على الْوَكِيل لأجل وُقُوعه عَن الْمُوكل أَن يضيفه إِلَى مُوكله، (2) وَنَوع مِنْهَا لَا يجب على الْوَكِيل إِضَافَته إِلَيْهِ، بل يَقع عَنهُ وَينفذ عَلَيْهِ وَإِن لم يضفه إِلَيْهِ.
1 -
فَالَّذِي يَقع عَن الْمُوكل وَينفذ عَلَيْهِ من التَّصَرُّفَات بِدُونِ إِضَافَة إِلَيْهِ سَبْعَة، هِيَ: البيع، وَالشِّرَاء، والإيجار، والاستئجار، وَالْقِسْمَة، وَالْخُصُومَة، وَالصُّلْح عَن مَال بِمَال، فَلَو حلف على شَيْء مِنْهَا أَنه لَا يَفْعَله، وَكَانَ مِمَّن يُبَاشر هَذِه التَّصَرُّفَات بِنَفسِهِ، فَأمر أَو وكل غَيره فَفعل عَنهُ لَا يَحْنَث، وَذَلِكَ لِأَن هَذِه الْعُقُود يَسْتَغْنِي الْمَأْمُور فِيهَا عَن إضافتها إِلَى آمره ويضيفها إِلَيّ نَفسه فَيَقُول: بِعْت أَو اشْتريت أَو آجرت
…
الخ. وَلَا يلْزمه لأجل أَن تقع عَن الْمُوكل أَن يَقُول: بَاعَ موكلي أَو بِعْت عَن موكلي، أَو اشْترى موكلي أَو اشْتريت عَن موكلي
أَو لموكلي
…
الخ. وَكَذَلِكَ وَكيل الْخُصُومَة يقر أَو يُنكر أَو يَأْتِي بِالدفع وَيَقَع ذَلِك عَن مُوكله بِدُونِ أَن يضيفه إِلَيْهِ سَوَاء كَانَ مُدعيًا أَو مدعى عَلَيْهِ.
فَإِذا كَانَ الْحَالِف مِمَّن يُبَاشر هَذِه الْعُقُود بِنَفسِهِ لم يكن هُنَاكَ مُرَجّح للمجاز فتصرف الْيَمين إِلَى الْحَقِيقَة، وَهِي فعله بِنَفسِهِ، وَلم يُوجد فَلَا يَحْنَث، لِأَن الْفَاعِل حَقِيقَة غَيره، بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ الْمَعْهُود من حَال الْحَالِف أَن لَا يُبَاشر هَذِه الْأَعْمَال بِنَفسِهِ فَإِن ذَلِك مِنْهُ قرينَة على تَرْجِيح الْمجَاز، وَهُوَ إِرَادَة مَا يَشْمَل فعل نَائِبه، فَيحنث حينئذٍ بِفعل وَكيله كَمَا يَحْنَث بِفعل نَفسه.
وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لما عدا الصُّلْح من التَّصَرُّفَات السِّتَّة الْمَذْكُورَة جَار على إِطْلَاقه، وَأما فِي الصُّلْح فَإِنَّهُ يشْتَرط أَن يكون فِيهِ معنى أحد عُقُود الْمُعَاوَضَات الْمَالِيَّة، كَالْبيع وَالْإِجَارَة، فَإِذا وجد معنى أَحدهمَا فِيهِ كَانَ فِي حكمهَا، إِذْ الصُّلْح يعْتَبر بأقرب الْعُقُود إِلَيْهِ وَحكمهَا _ أَي عُقُود الْمُعَاوَضَات الْمَالِيَّة _ كَمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا حكما للمسائل السِّت، من أَن الْحَالِف إِذا كَانَ مِمَّن يُبَاشر الْعُقُود بِنَفسِهِ لَا يَحْنَث بِفعل وَكيله وَإِلَّا فَيحنث، وَإِن الصُّور الَّتِي يكون الصُّلْح بِمَعْنى أحد عُقُود الْمُعَاوَضَات الْمَالِيَّة تعلم مِمَّا كتبناه فِي شَأْن الصُّلْح تَحت الْقَاعِدَة الثَّانِيَة فَليرْجع إِلَيْهِ.
2 -
وَأما الَّذِي لَا يَقع عَن الْمُوكل وَلَا ينفذ عَلَيْهِ من الْأَفْعَال الَّتِي تقبل التَّوْكِيل إِلَّا إِذا أَضَافَهُ الْوَكِيل إِلَيْهِ حِين يَفْعَله فَهِيَ مَا عدا هَذِه السَّبْعَة الْمَذْكُورَة من التَّصَرُّفَات الَّتِي تقبل التَّوْكِيل، كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاق وَالْإِبْرَاء وَالصُّلْح عَن دم الْعمد وَالْهِبَة وَالصَّدَََقَة والإيداع والإعارة وَمَا شاكلها.
وَحكمهَا أَنه يَحْنَث الْحَالِف فِيهَا بِفِعْلِهِ وَفعل وَكيله، فَلَو حلف بِالطَّلَاق لَا يتَزَوَّج مثلا فَوكل آخر فَزَوجهُ حنث، وَكَذَلِكَ بَقِيَّة الْمَذْكُورَات، وَذَلِكَ لِأَن الْوَكِيل فِيهَا سفير ومعبر عَن الْمُوكل وناقل لعبارته، وَلذَا لَا تتَعَلَّق حُقُوق هَذِه التَّصَرُّفَات بِهِ بل بالموكل، فَاعْتبر الْمُوكل فَاعِلا لَهَا فَيحنث.
وَالْحَاصِل: أَن من حلف لَا يفعل أمرا فَوكل غَيره فَفعله لَا يَحْنَث فِي ثَمَانِيَة محلات، السَّبْعَة الْمَذْكُورَة الَّتِي هِيَ البيع وَمَا عطف عَلَيْهِ، وَالثَّامِن