الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول في الاصطلاحات
وفيه عشرون فصلاً
الفصل الأول في الحد
الحد: هو شرح ما دل عليه اللفظ بطريق الإجمال.
إنما بدأت بالحد في هذا الكتاب؛ لأن العلم إما تصور أو تصديق، والتصديق مسبوق بالتصور، فكان التصور وضعه أن يكون قبل التصديق والتصور إنما يكتسب بالحد كما أن التصديق لا يكتسب إلا بالبرهان، فكان الحد متقدماً على التصور المتقدم على التصديق، فالحد قبل الكل طبعاً، فوجب أن يقدم وضعاً: فلذلك تعين تقديم الحد أول الكل، وهذا السبب أيضاً في تقديم الباب الأول في الاصطلاحات؛ فإن الاصطلاحات هي الألفاظ الموضوعة للحقائق، واللفظ هو المفيد للمعنى عند التخاطب، والمفيد قبل المفاد، فاللفظ ومباحثه متقدمة طبعاً، فوجب أن تتقدم وضعاً.
فإن الغزالي في مقدمة المستصفي (1) : أخلف الناس في حد الحد فقيل: حد الشيء هو نفسه وذاته، وقيل: هو اللفظ المفسر لمعناه على وجه يجمع ويمنع. فقال ثالث. تصير حينئذ هذه المسألة مسألة خلاف، وليس الأمر كما قال هذا الثالث؛ فإن القائلين الأولين لم يتواردا على محل واحد، بل الأول اسم الحد
(1) أنظر المستصفي ص 31 - 32 طبعة مكتبة الجندي، وإن كان المعنى واحداً فإن التعبير مختلف.
عنده موضوع لمدلول لفظ الحد، والثاني: اسم الحد عنده موضوع للفظ نفسه، ومتى كان المعنى مختلفاً لم يتوارد فلا خلاف بينهما. . قال: والمختار عندي أن الشيء له في الوجود أربع رتب - حقيقة في نفسه وثبوت مثاله في الذهن ويعبر عنه بالعلم التصوري. الثالث: تأليف أصوات بحروف تدل عليه وهي العبارة الدالة على المثال الذي في النفس. الرابع: تأليف رقوم تدرك بحاسبة البصر دالة على اللفظ وهي الكتابة، والكتابة تبع اللفظ إذ تدل عليه، واللفظ تبع للعلم، والعلم تبع للمعلوم. فهذه الأربعة متطابقة متوازية، إلا أن الأولين وجوديان حقيقيان لا يختلفان في الأعصار والأمم، والآخرين وهما اللفظ والكتابة يختلفان في الأعصار والأمم لأنهما موضوعان بالاختيار. والحد مأخوذ من المنع، وإنما أستعبر لهذه المعاني لمشابهتها في معنى المنع.
قلت ومنه سمي السجان حداداً لأنه يمنع المعتقل من الخروج من السجن، وسميت الحدود حدوداً لأنها تمنع الجناة من العودة إلى الجنايات.
قال: فانظر أين تجد المشابهة في هذه الأربعة، فإذا ابتدأت بالحقيقة لم تشك في أنها حاضرة للشيء بخصوصه، لأنه حقيقة كل شيء ليست لغيره وثابتة له فهي جامعة مانعة، وإذا نظرت إلى الصورة الذهنية وجدتها أيضاً كذلك والعبارة أيضاً كذلك لأنها مطابقة للعلم المطابق للحقيقة والمطابق للمطابق مطابق، والكتابة مطابقة للفظ المطابق فهي مطابقة، فقد وجدنا المنع والجمع في الكل، غير أن العادة لم تجر بإطلاق اسم الحد على الكتابة ولا على العلم، بل اللفظ والحقيقة فقط؛ فاللفظ مشترك بينهما، وكل واحد منهما يسمى حداً، واللفظ المشترك لا بد لكل مسمى من مسمياته من حد يخصه، فمن حد المعنى الأول قال القول الشارح: ومن حد الثاني قال حقيقة الشيء ونفسه. قلت: قال غيره لكل حقيقة أربع وجودات: وجود في الأعيان ووجود في الأذهان ووجود في البيان ووجود في البنان. يريد الأربعة المتقدمة.
مسألة: قال هل يجوز أن يكون للشيء الواحد حدان؟ قال أما اللفظي والرسمي فلا ينضبط عددهما لإمكان تعدد اللفظ الدال على الشيء وجواز تعدد
لوازم الشيء، فمن كل لازم رسم، ومن كل لفظ يؤلف دلالة. قلت: ومعنى قولنا في حد الحد: إنه شرح ما دل عليه اللفظ، نعني باللفظ لفظ السائل، فإنه إذا قال: ما حقيقة الإنسان؟ فقلنا له هو الحيوان الناطق، فهو إن كان عالماً بالحيوان وبالناطق فهو عالم بالإنسان وإنما سمع لفظ الإنسان ولم يعلم مسماه وعلم أن له مسمى غير معنى؟
فبسطنا له نحن ذلك المسمى المجهول وقلنا له: هو الحيوان الناطق فصال مفصلاً ما كان عنده مجملاً بالنظر إلى اللفظ لا بالنسبة إلى مسمى اللفظ في نفسه، ولا بالنسبة إلى الحقيقة، وإن فرضناه جاهلاً بحقيقة الإنسان فقد حددنا له بما هو مجهول عنده، فوجب حينئذ أن يكون حدنا باطلاً، لأن التحديد بالمجهول لا يصح، لكنه صحيح فدل ذلك على أنه كان عالماً بالحقيقة، فما أفاده حينئذ أن يكون حدنا باطلاً، لأن التحديد بالمجهول لا يصح، لكنه صحيح فدل ذلك على أنه كان عالماً بالحقيقة، فما أفاده حينئذ لفظنا إلا بيان نسبة اللفظ إلى المعنى الذي يسأل عنه. .
فإن قلت: هل يتصور أن يكتسب بالحد حقيقة مجهولة فإن ما ذكرته يمنع من ذلك؟ قلت: لا شك أن من لم يعرف الحبر قط إذا سأل عنه يمكننا أن نقول له: هل تعرف الزاج
والعفص والسواد والماء؟ (1) فيقول: نعم، فنقول له: اعلم أنه عبارة عن ماء العفص والزاج يجمع بينهما فيحدث حينئذ السواد، فهذا هو الحبر؛ فيئول الحال إلى تعريف الهيئة الاجتماعية من هذه البسائط المعلومة له، أما تعرفه بما يجهله فلا سبيل إليه، والهيئة الاجتماعية وقعت في نفسه بعد أن كانت مجهولة، بخلاف المثال المتقدم في الإنسان، ومع هذا فلا تخرج من هذه الصورة عن الحد المتقدم، وإنما شرحنا ما كان مجملاً بألفاظ بسائط الزاج وغيره.
وهو غير المحدود إن أريد به اللفظ وعينه إن أريد به المعنى.
هذا هو إشارة على القولين المتقدمين اللذين حكاهما الغزالي، ولا شك أن لفظ الحيوان والناطق الذي وقع في التحديد هو غير الإنسان، ومدلول هذا اللفظ هو عين الإنسان.
(1) هي المواد المكونة للحبر
وشرطه أن يكون جامعاً لجملة أفراد المحدود مانعاً من دخول غيره معه.
الحد أربعة أقسام: جامع مانع، ولا جامع ولا مانع، وجامع غير مانع، ومانع غير جامع. وأمثِّلها كلها بالإنسان. فقولنا الحيوان الناطق في حد الإنسان هو الجامع المانع. وقولنا في حده: هو الحيوان الأبيض ما جمع، لخروج الحبشة وغيرهم من السودان، وغير مانع لدخول الإبل والغنم والخيل والطير البيض.
وقولنا في حده: هو الحيوان جامع غير مانع، فجمع جميع أفراد الإنسان لم يبق إنسان حتى دخل في لفظ الحيوان، وما منع الدخول الفرس وغيره في حده. وقولنا في حده هو الحيوان، الرجل ما منع لأنه لا يتناول هذا اللفظ إلا الإنسان، وغير جامع لخروج النساء والصبيان وغيرهم منه، فهذه الأربعة ليس فيها صحيح غلا الأول وهو الجامع المانع، والثلاثة الأخر باطلة لعدم الجمع أو عدم المنع أو عدمهما، والحد إنما أريد للبيان، وليس بيان الحقيقة بأن يترك بعضها لم يتناوله الحد، فيعتقد السائل أنه ليس منها أو يدخل معها غيرها فيعتقد أنه منها فيقع في الجهل، وإنما قصد الخروج منه بسؤالنا، وهذا الشرط يشمل الحدود والرسوم وتبديل اللفظ باللفظ على ما سيأتي. وقولنا جامع هو معنى قولنا مطرد، وقولنا مانع هو معنى قولنا منعكس، فالجامع المانع هو: المطرد المنعكس.
قاعدة: أربعة لا يقام عليها برهان، ولا يطلب عليها دليل ولا يقال فيها لِمَ؟ فإن ذلك كله نمط واحد، وهي: الحدود والعوائد والإجماع والاعتقادات الكائنة في النفوس، فلا يطلب دليل على كونها في النفوس، فلا يطلب دليل على كونها في النفوس بل على صحة وقوعها في نفس الأمر.
فإن قلت: فإذا لم يطالب على صحة الحد بالدليل ونحن قد نعتقد بطلانه، فكيف الحيلة في ذلك؟.
قلت: الطريق في ذلك أمران. أحدهما: النقص كما لو قال: الإنسان عبارة عن الحيوان، فيقال له: ينتقض عليك بالفرس فإنه حيوان مع أنه ليس بإنسان. وثانيهما: المعارضة كما لو قال: الغاصب من الغاصب يضمن لأنه غاصب، أو ولد
المغصوب مضمون لأنه مغصوب؛ لأن الغاصب هو من وضع يده بغير حق، وهذا وضع يده بغير حق فيكون غاصباً، فنقول: تعارض هذا الحد بحد آخر وهو أن الغاصب هو رافع اليد المحقة وواضع اليد المبطلة وهذا لم يرفع يداً محقة فلا يكون غاصباً.
ويحترز فيه من التحديد بالمساوى والأخفى وما لا يعرف إلا بعد معرفة المحدود والإجمال في اللفظ.
المراد بالمساوى أي في الجهالة كما لو سئلنا عن العرفج فنقول هو العرفجين وهما متساويان عند السامع في الجهالة، والأخفى نحو ما البقلة الحمقاء فيقال هي العرفج؛ فإن البقلة الحمقاء هي أشهر عند السامع من العرفج والعرفجين. والجميع هي البقلة المسماة بالرجلة التي جرت عادة الأطباء يصفون بزرها لتسكين العطش، ونظير هذه التعريفات في الحدود: التزكية عند الحاكم، فإذا طلب تزكية من لا يعرفه البتة فزكاه رجل آخر لا يعرفه البتة لا يحصل المقصود. أو أتاه من يزكي وهو لا يعرفه البتة ولا رآه أصلاً، والأول رآه الحاكم، فإذا طلب تزكية من لا يعرفه البتة فزكاه رجل آخر لا يعرفه البتة لا يحصل المقصود. أو أتاه من يزكى وهو لا يعرفه البتة ولا رآه أصلاً، والأول رآه الحاكم يصلي في المسجد، فهذا الثاني أخفى من الأول، وفي المثال الأول مساو، فكذلك في الحدود لا يحصل المقصود بالتعريف، كما لم يحصل المقصود بتلك التزكية.
وأمّا ما لا يعرف إلا بعد معرفة المحدود فهو قسمان، تارة لا يعرف إلا بعد معرفته بمرتبة وتارة بمراتب. مثال الأول: قولنا في حد العلم هو معرفة المعلوم على ما هو به، مع أن المعلوم مشتق من العلم، والمشتق لا يعرف إلا بعد معرفة المشتق منه، فلا يعرف المعلوم إلا بعد معرفة العلم، والعلم لا يعرف إلا بعد معرفة المعلوم لوقوعه في حد العلم فيلزم الدَّور، وكذلك قولنا: الأمر هو القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به، فالمأمور والمأمور به مشتقان من الأمر، فتعريف الأمر بهما دور كما تقدم، وكذلك الطاعة تعرف بأنها موافقة الأمر، فلا تعرف إلا بعد معرفة الأمر، فتعريف الأمر بها دور.
القسم الثاني: وهو ما لا يعرف المحدود إلا بعد معرفته بمراتب نحو قولنا
ما الزوج؟ فيقول الاثنان، فيقال ما الاثنان؟ فيقول المنقسم بمتساويين، فيقال ما المنقسم بمتساويين؟ فيقال الزوج، وقد عرفنا الزوج بما لا يعرف إلا بعد معرفته بمراتب، فهو أشد فساداً من القسم الأول.
وكان الخسروشاهي يجيب عن القسم الأول في تلك الحدود فيقول: هي صحيحة لأن الحد هو شرح ما دل اللفظ الأول عليه بطريق الإجمال فجاز أن يكون السائل يعرف معنى المعلوم ولا يعرف لفظ العلم لأي شيء وضع، فيسأل عن مسمى العلم ما هو.
فإذا قيل له هو معرفة المعلوم على ما هو به وهو يعلم مدلول هذه الألفاظ ويجهل مدلول لفظ العلم حصل مقصوده من غير دور، وكذلك القول في المأمور والمأمور به، وأما الإجمال في اللفظ فهو أن يقال ما العسجد؟ فيقال العين، مع أن العين لفظ مشترك بين الذهب وعين الماء وعين الشمس والحدقة وعين الميزان وغيرها، وكل مشترك مجمل فلا يحصل مقصود السائل من البيان، بل ينبغي أن يقول: هو الذهب.
وقال جماعة ممن تكلم عن الحد لا يجوز أن يدخل في لفظ الحد: المجاز، وقال الغزالي في مقدمة المستصفي «يجوز دخول المجاز إذا كان معروفاً بالقرائن الحالية أو المقالية لحصول البيان حينئذ فلا يختل المقصود، وإنما المحظور فوات المقصود من البيان» (1) .
وكذلك أقول أنا أيضاً في اللفظ المشترك أنه يجوز وقوعه في الحدود إذا كانت القرائن تدل على المراد به، فإنا إذا قلنا: العدد إما زوج أو فرد، فإنا لا نفهم من هذا الكلام إلا التنويع مع أن لفظة (أو) مشتركة بين خمسة أشياء؛ التخيير والإباحة والشك والإبهام والتنويع (2) ، وكذلك إذا قلنا العالم إمَّا جماد
(1) أنظر المستصفي ص 30 وما بعدها طبعة مكتبة الجندي.
(2)
المعروف أن أو حرف من حروف اعطف وتفيد هذه المعاني الخمسة التي ذكرها المؤلف فمثال التخيير: تزوج هنداً أو أختها. وهي اتي تأتي بعد الطلب فلا يجوز له الجمع بينهما ومثال الإباحة: ذاكر النحو أو الفقه. ومثال الشك قوله تعالى «لبثنا يوماً أو بعض يوم» ومثال الإبهام «وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين» وقد ذكر له المتأخرون معاني انتهت إلى اثني عشر. أنظر حاشية العلامة الدسوقي صفحة 65 وما بعدها.
أو نبات أو حيوان لم يفهم أحد إلا التنويع لقرينة هذا السياق، فإذا وقع مثل هذه السياقات في الحدود لا يخل بالبيان فيجوز.
واتفقوا على أن النكايات لا تجوز في الحدود لأنها أمر باطن لا يطلع السائل عليه فلا
يحصل له البيان فيقع الخلل جزماً، فلا يجوز أن يريد معنى لا يدل عليه لفظه ولا يعذر بذلك، بل لا بد من التصريح.
قال الغزالي: الخلل يقع في الحدود من ثلاثة أوجه، تارة من جهة الجنس وتارة من جهة الفصل وتارة من أمر مشترك بينهما؛ أما من جهة الجنس فبأن يؤخذ الفصل بدله كما يقال في العشق: إنه إفراط المحبة، بل ينبغي أن يقال إنه المحبة المفرطة، فالإفراط هو الفصل ينبغي أن يؤخر، أو يؤخذ المحل بدل الجنس، كقولنا: الكرسي خشب يجلس عليه، أو السيف حديد يقطع بها، بل يقال آلة آلة صناعية من حديد مستطيلة عرضها كذا يقطع بها كذا؛ فالآلة جنس والحديد محل الصولة لا جنس، وأبعد من ذلك أن يؤخذ بدل الجنس ما كان في الماضي وعدم الآن؛ كقولنا في الرماد إنه خشب محترق والولد نطفة مستحيلة، أو يؤخذ الجزء بدل الجنس نحو العشرة خمسة وخمسة، أو توضع القدرة موضع المقدور نحو: العفيف هو الذي يقوى على اجتناب اللذات الشهوانية بل هو الذي تركها، لأن الفاسق يقوى على الترك، أو توضع اللوازم التي ليست ذاتية بدل الجنس كالواحد والموجود إذا أخذته في حد الشمس أو الأرض، أو يوضع النوع مكان الجنس كقولنا الشر ظلم الناس، والظلم نوع من الشر.
وأما من جهة الفصل فبأن نأخذ اللوازم والعرضيات بدل الذاتيات وأن لا نورد جميع الفصول.
قلت: كقولنا في حد الحيوان: إنه الجسم الحساس ونترك المتحرك بالإرادة وهو من جملة الفصول التي ميزت الحيوان عن النبات.
قال: وأما الأمور المشتركة فذكر ما هو أخفى كقولنا الحادث ما تعلقت به
القدرة القديمة أو مساوٍ في الخفاء نحو العلم ما يعلم به، أو يعرف الضد بالضد نحو العلم ما ليس بظن ولا جهل حتى يحصر الأضداد، وحد الزوج ما ليس بقرد فلا يحصل به بيان؛ لأنه يدور، أو يؤخذ المضاف في حد المضاف إليه وهما متكافئان في الإضافة نحو الأب من له ابن لاستوائهما في الجهل، أو يؤخذ المعلول في حد العلة مع أنه لا يوجد المعلول إلا بها، كقولنا: الشمس كوكب يطلع نهاراً، والنهار زمان تطلع فيه الشمس إلى غروبها.
والمعرفات خمسة؛ الحد التام، والحد الناقص، الرسم التام، والرسم الناقص، وتبديل لفظ بلفظ مرادف له هو أشهر منه عند السامع، فالأول التعريف بجملة الأجزاء نحو قولنا الإنسان هو الحيوان الناطق، والثاني التعريف بالفصل وحده وهو الناطق، والثالث التعريف بالجنس والخاصة كقولنا الحيوان الضاحك، والرابع بالخاصة وحدها
نحو قولنا هو الضاحك، والخامس نحو قولنا ما البُرَ فتقول القمح.
تقدم أن الحد أصله في اللغة المنع ثم يقصد به في الاصطلاح بيان الحقائق التصورية، فإذا قيل لك عرف حقيقة وحدها معناه بينها. ولما كنت إذا قيل لك ما حدود دار زيد أو حددها لنا فإنك تذكر جميع جهاتها وحدودها الأربعة إلى حيث تنتهي من الجهات الأربع، فلو اقتصرت على بعضها لم تكن مكملاً للمقصود؛ فلذلك سموا ذكر الأجزاء كلها حداً تاماً لاشتماله على جميع الأجزاء كاشتمال تحديد الدار على جميع الجهات، والاقتصار على بعضها حداً ناقصاً، فإن عدلنا عن جميع الأجزاء إلى اللوازم والخارجة عن الحقيقة سموه بالرسم؛ أي هو علامة على الحقيقة وإن لم يكشف عنها حق الكشف، كما إذا قلت دار زيد قبالة دار الأمير فإن هذا علامة على دار زيد، وإن كنا لا نعلم بذلك ما يحيط بدار زيد ولا مقادير تناهيها.
وإن اجتمع الجنس والخاصة فهو تام لاشتماله على القسمين، وإن اقتصرت على الخاصة وحدها سموه ناقصاً؛ كاقتصارك على الفصل وحده يسمى حداً ناقصاً، فهما متشابهان في ذلك.
واختلفت عبارة أهل هذا الشأن في الرسم التام فقيل الجنس والخاصة، وعلى هذا الاصطلاح لا يكون للفصل والخاصة اسم جامع مانع محصل للمقصود أكثر من الجنس لذكرك الميز، والخاصة وهي الفصل، وقيل الرسم التام: ما اجتمع فيه الداخل والخارج كيف كان، وعلى هذا يصدق الرسم التام عليهما، والأول عليه الأكثرون. وأما الخامس فاشترطت فيه المرادفة احترازاً من الرسم الناقص. والحد الناقص؛ فإنه تبديل لفظ بلفظ وله اسم يخصه ليس من هذا القبيل.
وقولي هو أشهر منه عند السامع لأن الشهرة قد تنعكس فيقول الشامي للمصري ما الفول فيقول له الباقلي لأنه اللفظ الذي يعرفه الشامي. ويقل المصري لشامي ما الباقلي فيقول له الفول لأنه اللفظ المشهور عند المصري. أما لو كان متساوياً في الجهالة أو أخفى مل يصح البيان به، فلذلك اشترطت الشهرة وقيل المرادفة احترازاً عن الحدود والرسوم؛ فإن مسمى كل لفظ منها غير المحدود فلا ترادف، بخلاف هذا القسم (1) .
فوائد
الفائدة الأولى: أن المراد بالضاحك والكاتب ونحو ذلك من خصائص الإنسان
الضاحك بالقوة دون الفعل؛ فإن الضحك بالقوة هو الموجود في جميع أفراد الإنسان فيكون جامعاً مانعاً. أما الضحك بالفعل فقد يعرى عنه كثير من أفراد الإنسان ويكون معبِّساً، فلا يكون الحد جامعاً، بل المراد القوة التي هي القابلية دون الفعل الذي هو الوجود والوقوع، وقس عليه غيره.
الفائدة الثانية: بأي ضابط يعرف الجزء الداخل من اللازم الخارج حتى يمتاز الحد عن الرسم؟ وهذا مقام قد أشكل على جمع كثير من الفضلاء فمنهم من يقول الناطق والضاحك سيان لأنهما صفتان للإنسان فلم قلتم أحدهما فصل والآخر خاصة؟! ومنهم من يقول نحن نعلم بالعقل الماهية المركبة وأجزاءها وما عدا ذلك فهو خارج عنهما وهذا معلوم بالعقل ضرورة.
وليس الأمر كما قال الفريقان. بل الحق أن هذه الأمور لا تعلم بالعقل فإن
(1) هذه المصطلحات التي وردت في هذا الجزء من الكتاب تنظر في علم المنطق قبل قراءة علم أصول الفقه.
العقل إنما يجد في العالم جواهر وأعراضاً وصفات وموصوفات وقابليات ومقبولات، وكلها بالقياس إلى الأجسام خارجة عنها، وباعتبار مجموعها - أعني الصفات والموصوفات - تكون داخلة فيها، وليس في العقل إلا هذان القسمان، ولا يوجد داخل وخارج البتة.
وإنما يتعين الداخل من الخارج بأحد طريقين: أحدهما أن يعلم عن واضع اللفظ أنه وضع لأمرين فيعلم أن كل واحد منهما داخل في المسمى، وأن ما عداهما خارج عنهما، كما فهم عن العرب أنهم وضعوا الإنسان للحيوان الناطق فقط، فلذلك كان الناطق داخلاً والضاحك خارجاً، فلو فهم عنهم أنهم وضعوا الللفظ للحيوان والضاحك داخلاً فصلا، أو وضعوا الثلاثة كان كل واحد مهما داخلاً وعلى هذا القانون.
الطريق الثاني: أن يخترع العقل ويفرض حقيقة مركبة من شيئين فيكون ما عداهما خارجاً عنهما أما إذا لم يوجد فرض عقلي ولا وضع لغوي استد باب معرفة الداخل والخارج فتأمل ذلك؛ فأكثر الناس ينكره ويقول نحن نعلم أجزاء الحقيقة والمركبات وأجزاءها في بعض المواضع بالضرورة فرض وضع أم لا: وقد دخل الغلط عليه من جهة أن تلك المركبات إنما حصلت في ذهنه على تلك الصورة من جهة مسميات الألفاظ، وتقرر في ذهنه من كل لفظ مسمى فيه أجزءا داخلة وما عداها خارج عنها، ولما استكشف ذلك اعتقد أنه بالعقل وإنما جاءه من جهة الوضع، فإذا قيل له ما مسمى السكنجبين نقول له جزءان الخل والسكر وما نفعه للصفراء أو غير ذلك فأمور خارجة، وذلك إنما جاءه من جهة وضع لفظ السكنجبين لهذين الجزأين على الصفة المخصوصة فلو فرضناه موضوعاً لأربعين عقاراً
كان كل واحد منهما داخلاً في المسمى، أو وضع السكر وحده لم يكن الخل داخلاً، فهذا تحرير الداخل والخارج.
الفائدة الثالثة: أن الناطق معناه عندهم المحصول للعلوم بقوة الفكر فهو يرجع إلى قبول تحصيل العلوم بالفكر وهذه القابلية مثل قابلية الضحك في أنها قابلية
ولا مميز إلا الوضع كما تقدم وليس مرادهم بالناطق اللساني؛ لأن الأخرس والساكت عندهم إنسان، وعلى هذا يبطل الحد بالجن والملائكة لأنهم أجسام حية لها قوة تحصل العلم بالفكر، فيكون الحد غير مانع، وبعضهم تخيل هذا السؤال فقال: الحيوان المائت، والنقض يرد كما هو؛ لأن الفريقين يموتان كالإنسان.
الفائدة الرابعة: يشترط في هذه الخاصة الخارجة إذا اقتصر عليها في التعريف أن تكون لازماً مساوياً للحدود، فإنها إن كانت أعم كان الحد غير مانع أو أخص كان غير جامع، وأن تكون معلومة للسامع لأن التعريف بالمجهول لا يصح.
الفائدة الخامسة: يجوز أن تكون هذه الخاصة مفردة كقوة الضحك ومركبة كقولنا في الصقالبي إنه الضاحك الأبيض؛ فبالضاحك امتاز عن جميع الحيوانات البهيمية وبالأبيض امتاز عن السودان.
الفائدة السادسة: قال الإمام فخر الدين القول بالتعريف محال لأنه إما أن يعرف بنفس الشيء وهو محال لوجوب تقديم العلم بالمعرف على العلم بالمعرف، فيلزم تقديم الشيء على نفسه أو بالداخل وهو محال؛ لأنه إن عرف جميع الأجزاء فقد عرف نفسه، وهو محال لما تقدم، أو ما عداه فيئول الحال إلى التعريف بالخارج وسنبطله بأن ذلك الخارج لا يوجب التعريف، حتى يعلم أنه مساو ليس في غيره، وكونه ليس في غيره متوقف على معرفته هو فيلزم الدور، ولأنه كونه ليس في غيره يتوقف على تصور جميع الأغيار على سبيل التفصيل وذلك محال لاستحالة تصور ما لا يتناهى على التفصيل.
ولهذه النكتة قال إنه لا شيء من التصورات بمكتسب. والجواب عنده أنه قد تقدم أن الحد هو شرح ما دل عليه اللفظ، فعل هذا التفسير المعرف نسبة اللفظ المسمى وهو أمر خارج عنه سواء وقع التعريف بالأجزاء أو بالخواص، أو يقع التعريف بهيئة صورية كما تقدم التمثيل بالحبر (1) ؛ كذلك تقول الملك جسم لطيف
(1) أنظر ص 6 من هذا الكتاب وهامشها.