المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الخامس في خبر الواحد - شرح تنقيح الفصول

[القرافي]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأول في الاصطلاحات

- ‌الفصل الأول في الحد

- ‌الفصل الثاني في تفسير أصول الفقه

- ‌الفصل الثالث في الفرق بين الوضع والاستعمال والحمل

- ‌الفصل الرابع في الدلالة وأقسامها

- ‌الفصل الخامس الفرق بين الكلي والجزئي

- ‌الفصل السادس في أسماء الألفاظ

- ‌الفصل السابع الفرق بين الحقيقة والمجاز وأقسامهما

- ‌الفصل الثامن في التخصيص

- ‌الفصل التاسع في لحن الخطاب وفحواه ودليله وتنبيهه واقتضائه ومفهومه

- ‌الفصل العاشر في الحصر

- ‌الفصل الحادي عشر خمس حقائق لا تتعلق إلا بالمستقبل من الزمان وبالمعدوم وهي الأمر والنهي والدعاء والشروط وجزاؤه

- ‌الفصل الثاني عشر حكم العقل بأمر على أمر

- ‌الفصل الثالث عشر في الحكم وأقسامه

- ‌الفصل الرابع عشر في أوصاف العبادة

- ‌الفصل الخاس عشر فيما تتوقف عليه الأحكام

- ‌الفصل السادس عشر في الرخصة والعزيمة

- ‌الفصل السابع عشر في الحسن والقبح

- ‌الفصل الثامن عشر في بيان الحقوق

- ‌الفصل التاسع عشر في العموم والخصوص والمساواة والمباينة وأحكامها

- ‌الفصل العشرون في المعلومات

- ‌الباب الثاني في معاني حروف يحتاج إليها الفقيه

- ‌الباب الثالث في تعارض مقتضيات الألفاظ

- ‌الباب الرابع في الأوامر وفيه ثمانية فصول

- ‌الفصل الأول في مسماه ما هو

- ‌الفصل الثاني ورود الأمر بعض الحظر

- ‌الفصل الثالث في عوارضه

- ‌الفصل الرابع جواز تكليف ما لا يطاق

- ‌الفصل الخامس الأمر بالمركب أمر بأجزائه

- ‌الفصل السادس في متعلقه

- ‌الفصل السابع في وسيلته

- ‌الفصل الثامن في خطاب الكفار

- ‌الباب الخامس في النواهي وفيه ثلاثة فصول

- ‌الفصل الأول في مسماه

- ‌الفصل الثاني في أقسامه

- ‌الفصل الثالث في لازمه

- ‌الباب السادس في العمومات

- ‌الفصل الأول في أدوات العموم

- ‌الفصل الثاني في مدلوله

- ‌الفصل الثالث في مخصصاته

- ‌الفصل الرابع فيما ليس من مخصصاته

- ‌الفصل الخامس فيما يجوز التخصيص إليه

- ‌الفصل السادس في حكمه بعد التخصيص

- ‌الفصل السابع في الفرق بينه وبين النسخ والاستثناء

- ‌الباب السابع في أقل الجمع

- ‌الباب الثامن في الاستثناء

- ‌الفصل الأول في حده

- ‌الفصل الثاني في أقسامه

- ‌الفصل الثالث في أحكامه

- ‌الباب التاسع في الشروط

- ‌الفصل الأول في أدواته

- ‌الفصل الثاني في حقيقته

- ‌الفصل الثالث في حكمه

- ‌الباب العاشر في المطلق والمقيد

- ‌الباب الحادي عشر في دليل الخطاب وهو مفهوم المخالفة

- ‌الباب الثاني عشر في المجمل والمبين

- ‌الفصل الأول في معنى ألفاظه

- ‌الفصل الثاني فيما ليس مجملاً

- ‌الفصل الثالث في أقسامه

- ‌الفصل الرابع في حكمه

- ‌الفصل الخامس في ورقته

- ‌الفصل السادس في المبين

- ‌الباب الثالث عشر في فعله عليه الصلاة والسلام

- ‌الفصل الأول في دلالة فعله عليه الصلاة والسلام

- ‌الفصل الثاني في اتباعه عليه الصلاة والسلام

- ‌الفصل الثالث في تأسيه عليه الصلاة والسلام

- ‌الباب الرابع عشر في النسخ

- ‌الفصل الأول في حقيقته

- ‌الفصل الثاني في حكمه

- ‌الفصل الثالث في الناسخ والمنسوخ

- ‌الفصل الرابع فيما يتوهم أنه ناسخ

- ‌الفصل الخامس فيما يعرف به النسخ

- ‌الباب الخامس عشر في الإجماع

- ‌الفصل الأول في حقيقته

- ‌الفصل الثاني في حكمه

- ‌الفصل الثالث في مستنده

- ‌الفصل الرابع في المجمعين

- ‌الفصل الخامس في المجمع عليه

- ‌الباب السادس عشر في الخبر

- ‌الفصل الأول في حقيقته

- ‌الفصل الثاني في التواتر

- ‌الفصل الثالث في الطرق المحصلة للعلم غير التواتر وهي سبعة

- ‌الفصل الرابع في الدال على كذب الخبر وهو خمسة

- ‌الفصل الخامس في خبر الواحد

- ‌الفصل السادس في مستند الراوي

- ‌الفصل السابع في عدده

- ‌الفصل الثامن فيما اختلف فيه من الشروط

- ‌الفصل التاسع في كيفية الرواية

- ‌الفصل العاشر في مسائل شتى

- ‌الباب السابع عشر في القياس

- ‌الفصل الأول في حقيقته

- ‌الفصل الثاني في حكمه

- ‌الفصل الثالث في الدال على العلة

- ‌الفصل الرابع في الدال على عدم اعتبار العلة

- ‌الفصل الخامس في تعدد العلل

- ‌الفصل السادس في أنواعها

- ‌الفصل السابع فيما يدخل القياس

- ‌الباب الثامن عشر في التعارض والترجيح

- ‌الفصل الأول هل يجوز تساوي الأمارتين

- ‌الفصل الثاني في الترجيح

- ‌الفصل الثالث في ترجيحات الأخبار

- ‌الفصل الرابع في ترجيح الأقيسة

- ‌الفصل الخامس في ترجيح طرق العلة

- ‌الباب التاسع عشر في الاجتهاد

- ‌الفصل الأول في النظر

- ‌الفصل الثاني في حكمه

- ‌الفصل الثالث فيمن يتعين عليه الاجتهاد

- ‌الفصل الرابع في زمانه

- ‌الفصل الخامس في شرائطه

- ‌الفصل السادس في التصويب

- ‌الفصل السابع في نقض الاجتهاد

- ‌الفصل الثامن في الاستفتاء

- ‌الفصل التاسع فيمن يتعين عليه الاستفتاء

- ‌الباب العشرون في جمع أدلة المجتهدين وتصرفات المكلفين

- ‌الفصل الأول في الأدلة

- ‌الفصل الثاني في تصرفات المكلفين في الأعيان

الفصل: ‌الفصل الخامس في خبر الواحد

فإذا لم يتواتر شيء من ذلك ولم ينقله إلاّ واحد دل على كذب الخبر إن كان قد حضره جمع عظيم، ولم يقم غيره مقامه في حصول المقصود منه، فالقيد الأوّل احتراز من انشقاق القمر، فإنه كان ليلاً ولم يحضره عدد التواتر. والقيد الثاني احتراز عن بقية معجزات الرسول عليه الصلاة والسلام كنبع الماء من بين أصابعه وإشباع العدد العظيم من الطعام القليل، فإنه حضره الجمع العظيم، غير أن الأمة اكتفت بنقل القرآن وإعجازه عن غيره من المعجزات، فنقلت آحاداً من أن شأنها أن تكون متواترة. وأما الأحاديث فلها حالتان: أول الإسلام قبل أن تدون وتضبط فهذه الحالة إذا طلب حديث ولم يوجد ثم وجد لا يدل على كذبه، فإن السنة كانت مفرقة في الأرض في صدور الحفظة. الحالة الثانية: بعد الضبط التام وتحصيلها إذا طلب حديث فلم يوجد في شيء من دواوين الحديث ولا عند رواته دل ذلك على عدم صحته، غير أنه يشترط استيعاب الاستقراء بحيث لا يبقى ديوان ولا راوٍ إلى وكشف أمره في جميع أقطار الأرض وهو عسر متعذر. وأما الكشف في البعض فلا يحصل القطع بكذبه لاحتمال أن يكون في البعض الآخر.

وقد ذكروا أبو حازم حديثاً في مجلس هارون الرشيد وحضره ابن شهاب الزهري فقال ابن شهاب: لا أعرف هذا الحديث فقال له أبو حازم أكل سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفتها؟! فقال لا، فقال أثلثيها؟ فقال لا، قال أنصفها؟ فسكت فقال له اجعل هذا من النصف الذي لم تعرفه، هذا هو ابن شهاب الزهري شيخ مالك، فما ظنك بغيره؟!.

‌الفصل الخامس في خبر الواحد

وهو خبر العدل الواحد أو العدول المقيد للظن وهو عند مالك رحمة الله عليه وعند أصحابه حجة واتفقوا على جواز العمل به في الدنيويات والفتوى

ص: 356

والشهادات، والخلاف إنّما هو في كونه حجة في حق المجتهدين فالأكثرون على أنه حجة لمبادرة الصحابة رضوان الله عليهم إلى العمل به.

كون خبر الجماعة إذا أفاد الظن يسمى خبر الواحد هو اصطلاح لا لغة، وقد تقدم أول الباب أن الأخبار ثلاثة أقسام: تواتر وآحاد ولا تواتر ولا آحاد وهو خبر الواحد المنفرد إذا احتفت به القرائن حتى أفاد العلم، وجمهور أهل العلم على أن خبر الواحد حجة عند: مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم.

قال القاضي عبد الوهاب في «الملخص» : اختلف الناس في جواز التعبد بخبر الواحد فقال به الفقهاء والأصوليون وخالف بعض المتكلمين، والقائلون في جواز التعبد به اختلفوا في وقوع التعبد به، فمنهم من قال: لا يجوز التعبد لأنه لم يرد التعبد به بل ورد السمع بالمنع منه. ومنهم من يقول: يجوز العمل به إذا عضده غيره ووجد أمر يقويه، ومنهم من يقول لا يقبل إلى خير اثنين فصاعداً إذا كانا عدلين ضابطين قاله الجبائي، وحكى المازري وغيره أنه قال لا يقبل في الأخبار التي تتعلق بالزنا إلاّ أربعة قياساً للرواية على الشهادة.

حجة المنع من جواز التعبد به، أن التكاليف تعتمد تحصيل المصالح ودفع المفاسد وذلك يقتضي أن تكون المصلحة أو المفسدة معلومة وخبر الواحد لا يفيد إلاّ الظن وهو يجوز خطؤه فيقع المكلف في الجهل والفساد وهو غير جائز وهذه الحجة باطلة إما لأنها مبنية على قاعدة الحسن والقبح ونحن نمنعها، أو لأن الظن إصابته غالبة وخطؤه نادر، ومقتضى القواعد أن لا تترك المصالح الغالبة للمفسدة النادرة، فلذلك أقام صاحب الشرع الظن مقام العلم لغلبة صوابه وندرة خطئه.

حجة المنع من الوقوع: قاله تعالى: «ولا تقف ما ليس لك به علم» (1) ، خبر

(1) 36 الإسراء.

ص: 357

الواحد لا يوجب علماً فلا يتبع وقوله تعالى: «إن الظن لا يغني من الحق شيئاً» (1) وقوله تعالى: «إن يتبعون إلاّ الظن» (2) في سياق الذم وذلك يقتضي تحريم اتباع الظن وهذه النصوص كثيرة.

وجوابها: أن ذلك مخصوص بقواعد الديانات وأصول العبادات القطعيات، ويدل على ذلك قوله عليه السلام:«نحن نقضي بالظاهر والله يتولى السرائر» وقوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة» (3) فجعل تعالى الموجب للتبين كونه فاسقاً فعند عدم الفسق يجب العمل وهو المطلوب، ولقوله تعالى:«فلولا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون» (4) أوجب الله تعالى الحذر بقول الطائفة الخارجة من الفرقة مع أن الفرقة تصدق على الثلاثة فالخارج منها يكون أقل منها، فإذا وجب الحذر عند قولهم كان قولهم حجة وهو المطلوب، قياساً على الفتوى والشهادة.

ومعنى قولي اتفقوا على أنه حجة الدنيويات، أنه يجوز الاعتماد على قول العدل في الأسفار وارتكاب وارتكاب الأخطار إذا أخبر أنها مأمونة وكذلك سقي الأدوية ومعالجة المرضى وغير ذلك من أمور الدنيا، ويجوز بل يجب الاعتماد على قول المفتي وإن كان قوله لا يفيد عند المستفتين إلاّ الظن، ولذلك اجتمعت الأمة على أن الحاكم يجب عليه أن يحكم بقول

الشاهدين، وإن لم يحصل عنده إلاّ الظن، وإنما الخلاف إذا اجتهد العلماء في الأحكام المتعلقة بالفتاوى هل يجوز للمجتهد الاعتماد على ذلك؟

ويشترط في المخبر العقل والتكليف، وإن كان تحمل الصبي صحيحاً،

(1) 36 يونس.

(2)

116 الأنعام.

(3)

6 الحجرات.

(4)

122 التوبة.

ص: 358

والإسلام، واختلف في المبتدعة إذا كفرناهم، فعند القاضي أبي بكر منا والقاضي عبد الجبار لا نقبل روايتهم، وفصل الإمام فخر الدين وأبو الحسين بين من يبيح الكذب وغيره. والصحابة رضوان الله عليهم عدول إلاّ عند قيام المعارض.

أما العقل فلأنه أصل الضبط، والتكليف هو الوازع عن الكذب فمن لا تكليف عليه هو آمن من عذاب الله تعالى في كذبه فيقدم عليه، ولا يحصل الوثوق به، وتحمل الصبي جائز لأنه إنّما يقبل أداؤه وروايته بعد بلوغه وحصول التكليف الوازع في حقه، وكذلك تحمل الكافر والفاسق، ويؤدون إذا زالت هذه النقائص عنهم، فإن من حصل له العلم بشيء جاز له الإخبار عنه ولا تضره الحالة المقارنة لحصول العلم.

ونقل في مذهب الشافعي رضي الله عنه قول بجواز رواية الصبي وهو منكر من حيث النظر والقواعد بخلاف التحمل، وما زال الصحابة رضوان الله عليهم يسمعون رواية العدول فيما تحملوه في حالة الكفر والصبا وذلك غير قادح، وكذلك الشهادة لا يقدح فيها أن وقت التحمل كان عدواً أو صبياً أو كافراً أو فاسقاً إذا سلمت حالة الأداء عن ذلك، فكذلك هنا. وأما الكافر الذي هو من غير أهل القبلة فلا تقبل روايته في الدين، وإن كان أبو حنيفة رضي الله عنه قبل شهادة أهل الذمة في الوصية وعلى بعضهم لقوله تعالى:«أو آخران من غيركم» (1) فالجمهور يقولون من غير تلك القبلة، وأبو حنيفة يقول من غير دينكم، والمسألة مستقصاة في الفقه والخلاف.

وأما المبتدعة فقد قبل البخاري وغيره روايتهم كعمرو بن عبيد (2) وغيره من

(1) 106 المائدة.

(2)

عمرو بن عبيد توفي سنة 762 تلميذ الحسن البصري وزميل واصل بن عطاء انفصل عن أستاذه وقال بالمنزلة بين المنزلتين للعاصي فاعتبروه غير مؤمن وغير كافر.

ص: 359

المعتزلة وغيرهم، نظراً إلى أنهم من أهل القلة من حيث الجملة، وردها غيرهم لأنهم إما كفرة أو فسقة وهو مذهب مالك رحمه الله لقوله تعالى:«إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا» (1) وهؤلاء إما فسقة أو كفرة، والعدالة شرط لقوله تعالى:«ذوى عدل منكم» (2) مع قوله تعالى: «واستشهدوا شهيدين من رجالكم» (3) فهذا مطلق وذاك مقيد، والمطلق يحمل على المقيد لقوله تعالى في الآية الأخرى:«ممن ترضون من الشهداء» (4) وإذا اشترطت العدالة في الشهادة المتعلقة بأمر جزئيّ لا يتعداه الحكم للشهود به فأولى

الرواية، لأنها تثبت حكماً عاماً على الخلق إلى يوم القيامة، ولأن الدليل ينفي العلم بالظن خالفناه في حق العدل، فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل. ولقوله تعالى:«إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا» دل على عدم قبول الفاسق فلا بد من العلم بعدم الفسق حتى يتعين حكم التوقف وذلك هو ثبوت العدالة وهو المطلوب.

ومعنى قول العلماء: الصحابة رضوان الله عليهم عدول أي الذين كانوا ملازمين له والمهتدين بهديه عليه الصلاة والسلام، وهذا هو أحد التفاسير للصحابة، وقيل الصحابي من رآه ولو مرة، وقيل من كان في زمانه، وهذان القسمان لا يلزم فيهما العدالة مطلقاً، بل فيهم العدل وغيره بخلاف الملازمين له عليه السلام، وفاضت عليهم أنواره، وظهرت فيهم بركاته وآثاره، وهو المراد بقوله عليه السلام:«أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» .

وقولي: عند قيام المعارض، حذراً من زنا ماعز والغامدية وغير ذلك مِمّا جرى في زمن عمر في قصة أبي بكرة وما فيها من القذف والجلد والقصة مشهورة، فمع قيام أسباب الرد لا تثبت العدالة، غير أنها هي الأصل فيهم من غير عصمة وغيرهم

(1) 6 الحجرات.

(2)

2 الطلاق.

(3)

282 البقرة.

(4)

282 البقرة.

ص: 360

الأصل فيه عدم العدالة حتى تثبت العدالة عملاً بالغالب في الفريقين.

والعدالة اجتناب الكبائر وبعض الصغائر والإصرار عليها والمباحات الفادحة في المروءة.

الكبيرة والصغيرة يرجعان إلى كبر المفسدة وصغرها وقال بعض العلماء لا يقال في معصية الله تعالى صغيرة نظراً إلى من عُصي بها مع حصول الاتفاق على أن العدالة لا تذهب بجميع الذنوب، بل الخلاف في التسمية، قال بعض العلماء كلّ معصية فيها حد فهي كبيرة، وكذلك كلّ ما ورد في الكتاب أو السنة لعنة فاعلة أو التشديد في الوعيد عليه فهو كبيرة، ثم ما وقع من غير ذلك اعتبر بالنسبة غليه، فإن ساواه في المفسدة حكم بأنه كبيرة، ووردت السنة بأن القبلة في الأجنبية صغيرة والنظرة وأشياء نحوهما، فينظر أيضاً ما ساواهما فهو صغيرة، وأما الإصرار فيخرج الصغيرة عن أن تكون صغيرة، ولذلك يقال لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار. فالإصرار أن يكون العزم حاصلً على معاودة مثل تلك المعصية، أما من تقع منه الصغيرة فيقلع عنها ويتوب ثم يواقعها من غير عزم سابق على تكرار الفعل فليس بإصرار.

فائدة: ما ضابط الإصرار الذي تصير الصغيرة به كبيرة؟ قال بعض العلماء حد ذلك أن يتكرر منه تكراراً - يخل الثقة بصدقه كما تخل به ملابسة الكبيرة فمتى وصل إلى هذه الغاية صارت الصغيرة كبيرة، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص واختلاف الأحوال، والنظر

في ذلك لأهل الاعتبار والنظر الصحيح من الحكام وعلماء الأحكام الناظرين في التجريح والتعديل.

والمباحات الفادحة في المروءة نحو الأكل في الطرقات، والتعري في الخلوات ونحو ذلك مِمّا يدل على أنه غير مكترث باستهزاء الناس به. قال الغزالي إلى أن يكون ذلك فعل ممن يعمل ذلك على سبيل كسر النفس وإلزامها التواضع كما يفعله كثير من العُبَّاد.

وقولي بعض الصغائر: معناه أن من الصغائر ما لا يكون فيه إلاّ مجرد المعصية كالكذبة التي لا يتعلق بها ضرر، والنظرة لغير ذات محرم، ومنها ما يكون دالاً على الاستهزاء بالدين أو المروءة، كما لو قبَّل امرأة في الطريق أو أمسك فرجها

ص: 361

بحضرة الناس غير مكترث بهم فهذه أفعال من لا يوثق بدينه ولا مروءته، فلا تأمنه في الشهادة على الكذب فيها.

فائدة: ما تقدم من أن الكبيرة تتبع عظم المفسدة، فما لا تعظم مفسدته لا يكون كبيرة، استثنى صاحب الشرع من ذلك أشياء حقيرة المفسدة، وجعلها مسقطة للعدالة موجبة للفسوق، لقبح ذلك الباب في نفسه لا لعظم المفسدة، ولك كشهادة الزور فإنَّها فسوق مطلقاً، وإن كان لم يتلف بها على المشهود عليه إلاّ فلساً، ومقتضى القاعدة أنها لا تكون كبيرة إلاّ إذا عظمت مفسدتها، وكذلك السرقة والغصب لقبح هذه الأبواب في أنفسها، ومما يدل على التفرقة بين أسباب الفسوق وغيرها قوله تعال0ى:«وكرَّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان» (1) فرق تعالى بين الكفر والفسوق الذي هو من الكبائر، والعصيان الذي هو الصغائر التي ليست فسوقاً.

ثم الفاسق إن كان فسقه مظنوناً قبلت روايته بالاتفاق، وإن كان مقطوعاً قبل الشافعي رواية أرباب الأهواء إلاّ الخطابية من الرافضة (2) لتجويزهم الكذب لموافقة مذهبهم، ومنع القاضي أبو بكر من قبولها، واختلف العلماء في شارب النبيذ من غير سكر فقال الشافعي أحده وأقبل شهادته بناء أن فسقه مظنون وقال مالك أحده ولا أقبل شهادته كأنه قطع بفسقه.

معنى الفسق المظنون الذي تقبل معه الرواية أن يكون هو يعتقد أنه على صواب لمستند حصل له، ونحن نظن بطلان ذلك المستند ولا نقطع ببطلانه، فهو في حكم الفاسق

لولا ذلك المستند، أما لو ظننا فسقه ببينة شهدت بارتكابه أسباب الفسوق فليس هو من هذا القبيل، بل ترد روايته ومعنى أن أرباب الأهواء مقطوع بفسقهم أي خالفوا قطعياً، وهو يعتقدون أنهم على صواب. والقسم الأوّل خالف ظناً.

(1) 7 الحجرات.

(2)

الخطابية: طائفة من الشيعة أتباع أبي الخطاب الأجدع، الذي تتلمذ لجعفر الصادق، وزعم أن الألوهية حلت فيه، واستباح مع أتباعه ما حرم الله. وقد تبرأ منهم جعفر وحاربهم وأسر أبو الخطاب وقتل سنة 755م وامتزجت دعوته بالإسماعيلية.

ص: 362

حجة الشافعي: أنهم من أهل القبلة فتقبل روايتهم كما نورثهم ونرثهم ونجري عليهم أحكام الإسلام.

حجة القاضي: أن مخالفتهم القواطع تقتضي القطع بفسقهم، فيندرجون في قوله تعالى:«إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا» (1) ولأن قبول روايتهم ترويج لبدعتهم فيحرم (2) . وأما شارب النبيذ فالأمر فيه مبني على قاعدتين إحداهما أن الزواجر تعتمد المفاسد (3) ودرأها لا حصول العصيان ولذلك نؤلم الصبيان والبهائم استصلاحاً لهم وإن لم يكونوا عصاة؛ فلذلك يقام الحد على الحنفي لدرء مفسدة السكر وفساد العقل والتسبب له وإن لم يكن عاصياً لتقليده أبا حنيفة، فهذه القاعدة هي الموجبة لحده وقبول شهادته، ولا تناقض حينئذ لأن الزواجر لدرء المفسدة وقبول الشهادة لعدم المعصية.

ويرد على الشافعي في هذه القاعدة أنها وإن كانت صحيحة غير أنا لم نجدها إلاّ في الزواجر التي ليست محدودة، أما المحدودة فما عهدناها في الشرع إلاّ في المعاصي.

القاعدة الثانية: وهي أن قضاء القاضي ينقض إذا خالف أحد أربعة أشياء: الإجماع أو النص الجلي أو القياس الجلي أو القواعد. فمتى خالف إحدى هذه الأربعة قضاء قاض لا لمعارض له في القياس أو النص الجلي أو القواعد نقض هذا، وهو مدار الفتاوى في المذاهب المعمول بها، وإذا كنا لا نقره شرعاً مع تأكده بقضاء القاضي بنقضه، فأولى أن لا نقره شرعاً إن لم يتأكد، وإذا لم نقره شرعاً لم يجز التقليد فيه، ويكون الناطق به من المجتهدين كأنه ساكت لم يقل شيئاً والمقلد لذلك المجتهد كأنه لم يقلد أحداً، ومن لم يكن مقلداً في شرب النبيذ كان عاصياً، والعاصي بمثل هذه الفعلة يكون فاسقاً؛ فلهذه القاعدة قال مالك أحده للمعصية وأرد شهادته لفسقه وهو أوجه في النظر من قول الشافعي لما تقدم من الإشكال على

(1) 6 الحجرات.

(2)

في الأصول: فتحرم.

(3)

في الأصول: الفاسد.

ص: 363

قول الشافعي. ومسألة النبيذ خولف فيها النصوص لقوله عليه السلام: «كلّ مسكر خمر وكل خمر حرام» ونحوه، وهو كثير في السنة، والقياس الجلي على الخمر والقواعد من جهة أن القاعدة سد الذريعة في صون العقول لانعقاد الإجماع على تحريم النقطة من الخمر وإن كانت لا تسكر سداً لذريعة الإسكار.

وقال أبو حنيفة: يقبل قول المجهول.

خالفه الجمهور في ذلك لقوله عليه السلام: «يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله» . وهذه صيغته صيغة الخبر ومعناه الأمر تقديره ليحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله فلولا أن العدالة شرط وإلا لبطلت حكمة هذا الأمر فإن العدل وغيره سواء حينئذ.

احتج أبو حنيفة بقوله تعالى: «إن جاءكم فاسق بنبأ» (1) فتبينوا. أوجب الله تعالى التثبت عند وجود الفسق، فعند عدم الفسق وجب أن لا يجب التثبت، فيجوز العمل وهو المطلوب. ولقوه تعالى:«فلولا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون» (2) أوجب الحذر عند قبولهم قولهم ولم يشترط العدالة فوجب جواز قبول قول المجهول. ولأن أعرابياً جاء يشهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهلال فقبل شهادته وأمر الناس بالصوم. وإذا جاز ذلك في الشهادة جاز في الرواية بطريق الأولى؛ لأن الشهادة يشترط فيها ما لا يشترط في الرواية من الذكورية والحرية والعدد وغير ذلك.

والجواب عن الأوّل: أنا إذا علمنا زوال الفسق ثبتت العدالة لأنهما ضدان لا ثالث لهما متى علم نفي أحدهما ثبت الآخر. وعن الثاني: أن الطائفة مطلقة في الآية فيحمل على ما تقدم من تقييد السنة بقوله عليه السلام: «من كلّ خلف عدوله» وعن الثالث: أن القصة محتملة من حيث اللفظ، وليس في الحديث أنه كان مجهولاً ولا معلوماً، غير أن قضايا الأعيان تتنزل على القواعد وقاعدة الشهادة العدالة، ولو نقل

(1) 6 الحجرات.

(2)

122 التوبة.

ص: 364

عن بعض قضاة الزمان أنه حكم بقول رجل ولم يذكر صفته حمل على أنه ثبتت عدالته فرسول الله صلى الله عليه وسلم أولى لاسيما وهو يقول: «إذا شهد ذوا عدل فصوموا أفطروا وانسكوا» فتصريحه عليه السلام بالعدالة يأبى قبول شهادة المجهول.

وتثبت العدالة إما بالاختبار أو بالتزكية واختلف الناس في اشتراط العدد في التزكية والتجريح فشرطه بعض المحدثين في التزكية والتجريح في الرواية والشهادة واشترطه القاضي أبو بكر في تزكية الشهادة فقط واختاره الإمام فخر الدين، وقال الشافعي يشترط إبداء سبب التجريح دون التعديل لاختلاف المذاهب في ذلك والعدالة شيء واحد وعكس قوم لوقوع الاكتفاء بالظاهر في العدالة دون التجريح، ونفى ذلك القاضي أبو بكر فيهما.

الاختبار كالمعاملة والمخالطة التي تطلع على خبايا النفوس ودسائسها، والتزكية ثناء العدول المبرزين عليه بصفات العدالة على ما تقرر في كتب الفقه. وتعلم العدالة أيضاً بغير

هاتين الطريقتين وهي السمعة الجميلة المتواترة والمستفيضة ولذلك يقطع بعدالة أقوام من العلماء والصلحاء من سلف هذه الأمة ولم نختبرهم، بل بالسماع المتواتر أو المستفيض، فهذا كافٍ وقد نص الفقهاء على أن من عرف بالعدالة لا يطلب له تزكية.

حجة اشتراط العدد في الجميع: أن التجريح والتعديل صفتان فيحتاجان إلى عدلين فصاعداً كالرشد والسفه والكفاءة وغيرها.

حجة القاضي: أن الرواية يكفي فيها الواحد على الصحيح فأصلها كذلك، والشهادة لا يكفي فيها الواحد فلا يكفي في أصلها الواحد تسوية بين البابين والفروع والأصول، وأما إبداء أسباب التجريح والتعديل فالفقه فيه أن المجرح

ص: 365

والمعدل إذا كان عالماً مبرزاً اكتفى الحاكم بعلمه عن سؤاله، فإن العالم لا يجرح إلاّ بما لو سمع به الحاكم كان جرحاً، وكذلك التعديل.

وأما اختلاف المذاهب فالعالم المتقن لا يجرح بأمر مختلف فيه يمكن أن يصح التقليد فيه، ولا يفسق بذلك إلاّ جاهل، فما من مذهب إلاّ وفيه أمور ينكرها أهل المذاهب الأخرى، ولا سبيل إلى التفسيق بذلك، وإلا لفسقت كلّ طائفة الطائفة الأخرى، فتفسق جميع الأمة، وهو خلاف الإجماع، بل كلّ من قلد تقليداً صحيحاً فهو مطيع لأمر الله تعالى، وإن كان غيره من المذاهب يخالفه في ذلك.

وأما الاكتفاء بالظاهر فهو شأن الجهلة الأغبياء الضعفاء الحزم والعزم ومثل هؤلاء لا ينبغي للحاكم الاعتماد على قولهم في التزكية. وكل من كان يغلب عليه حسن الظن بالناس لا ينبغي أن يكون مزكياً ولا حاكماً لبعده عن الحزم. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «الحزم سوء الظن» فمن ضيع سوء الظن فقد ضيع الحزم، نعم لا ينبغي أن يبنى على سوء ظنه شيئاً إلاّ لمستند شرعي وهو معنى قوله تعالى:«اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم» (1) أي اجتنبوا العمل به حتى يثبت بطريق شرعي فالحق مذهب القاضي.

ويقدم الجرح على العديل إلاّ أن يجرحه بقتل إنسان معين فيقول المعدل رأيته حياً وقيل يقدم المعدل إن زاد عدده.

إنّما قدم الجرح لأن الجارح مطلع على ما لم يطلع عليه المعدل؛ لأن المعدل مدركه استصحاب الحال والمطلع على الرافع للاستصحاب مقدم على المتمسك بالاستصحاب، أما إذا جرحه بقتل من شهد بحياته فلا يمكن أن يقال اطلع الجارح على ما ذهل عنه المعدل فيحصل التعارض والتوقف، وليس أحدهما أولى من الآخر فيستصحب الحالة السابقة المتقررة من غير هاتين البينتين، وكأن هاتين البينتين ما وجدتا ووجه تقدم العدد الأكثر أن الكثرة تقوي الظن والعمل بأقوى الظنين وواجب كما في الأمارتين والحديثين وغيرهما.

(1) 36 يونس.

ص: 366