الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل التاسع في لحن الخطاب وفحواه ودليله وتنبيهه واقتضائه ومفهومه
فلحن الخطاب هو دلالة للاقتضاء وهو دلالة اللفظ التزاماً على ما لا يستقل الحكم إلا به، وإن كان اللفظ لا يقتضيه وضعاً نحو قوله تعالى «فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق» (1) تقديره فضرب فانفلق وقوله تعالى «فأتيا فرعون» إلى قوله تعالى حكاية عن فرعون «قال ألم نربك فينا وليدا (2) » تقديره فأتياه، وقيل هو فحوى الخطاب والخلاف لفظي، قال القاضي عبد الوهاب واللغة تقتضي الاصطلاحين، وقال الباجي هو دلل الخطاب وهو مفهوم المخالفة وهو إثبات نقيض حكم المنطوق به للمسكوت عنه، وهو عشرة أنواع: مفهوم العلة نحو ما أسكر فهو حرام، ومفهوم الصفة نحو قوله عليه الصلاة والسلام «في سائمة الغنم الزكاة» والفرق بينهما أن العلة في الثاني الغنى، والسوم مكمل له، وفي الأول العلة عين (3) المذكور، ومفهوم الشرط نحو من تطهر صحت صلاته، ومفهوم الاستثناء نحو قام القوم إلا زيد، ومفهوم الغاية نحو «أتموا الصيام إلى الليل (4) » ومفهوم الحصر «إنما الماء من الماء» ومفهوم الزمان نحو سافرت يوم الجمعة، ومفهوم المكان نحو جلست أمام زيد، ومفهوم العدو نحو قوله تعالى «فاجلدوهم ثمانين جلدة (5) » ومفهوم اللقب وهو تعليق الحكم على مجرد الذوات نحو في الغنم الزكاة وهو أضعفها، وتنبيه الخطاب
(1) 63 الشعراء.
(2)
16، 17، 18 الشعراء.
(3)
في المطبوعة: غير المذكورة.
(4)
187 البقرة.
(5)
4 النور.
وهو (1) مفهوم الموافقة عند القاضي عبد الوهاب أو المخالفة عند غيره (2) وكلاهما وكلاهما فحو الخطاب عند الباجي، فترادف تنبيه الخطاب وفحواه ومفهوم الموافقة لمعنى واحد وهو إثبات حكم المنطوق به للمسكوت عنه بطريق الأولى كما ترادف مفهوم المخالفة ودليل الخطاب وتنبيهه، ومفهوم الموافقة نوعان أحدهما: ثباته في الأكثر نحو قوله تعالى «فلا تقل لهما أف» (3)
فإنه يقتضي تحريم الضرب بطريق الأولى وثانيهما إثباته في الأقل نحو قوله تعالى «ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤدي إليك» (4) فإنه يقتضي ثبوت أمانته في الدرهم بطريق الأولى.
لحن الخطاب أصله في اللغة إفهام الشيء من غير تصريح ومنه قوله تعالى «ولتعرفنهم في لحن القول (5) » أي في فلتات الكلام من غير تصريح بالنفاق، ولذلك قال المأمون أيها الناس لا تضمروا لنا بغضاً فإنه والله من يضمر لنا بغضاً ندركه في
فلتات كلامه وصفات وجهه ولمحات عينه، ومن ذلك قول الشاعر:
وحديث ألذه وهو مما
…
يشتهي الناعتون يوزن وزنا
منطق صائب وتلحن أحيا
…
نا وأحلى الحديث ما كان لحنا
أي تعريضاً وتشويقاً من غير تصريح، وقال ابن دريد اللحن الفطنة، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض» أي أفطن لها، قال ابن يونس ذكر أهل اللغة اللحن بإسكان الحاء أنه الخطأ، وبفتحها الصواب، وقال عبد الحق في النكت: اللحن من أسماء الأضداد للصواب والخطأ، فلذلك قال القاضي عبد الوهاب هنا اللغة تقتضي الاصطلاحين، وأما
(1) في نسخة هو بحذف الواو.
(2)
في نسخة من المخطوطات أسقط: عند غيره.
(3)
23 الإسراء..
(4)
75 آل عمران.
(5)
26 سورة محمد عليه السلام.
دلالة الاقتضاء فمعناها أن المعنى يتقاضها لا اللفظ، حتى قال جماعة في ضابطها، أنها دلالة اللفظ على ما يتوقف عليه صدق المتكلم، فإن قوله تعالى «فانفلق» (1) إنما ينتظم بالإضمار المذكور وكذلك قوله تعالى «وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون» إلى قوله تعالى «فلما جاء سليمان» (2) فمجيء الرسول إلى سليمان عليه الصلاة والسلام فرع إرساله فيتعين أن يضمر: فأرسلت رسولاً فلما جاء سليمان، فلذلك قلت إن المعنى يقتضيه دون اللفظ، بخلاف دليل الخطاب وفحواه اللذين هما مفهوم المخالفة ومفهوم الموافقة للفظ يتقاضاها بمفهومه، بخلاف المثل المذكورة لا يتقاضاها منطوق ولا مفهوم، بل المعنى فقط وانتظامه، وفحوى الخطاب معناه مفهومه تقول فهمت من فحوى كلامه كذا أي من مفهومه فوضع العلماء ذلك لمفهوم الموافقة، فهذه الألفاظ وضعها بإزاء هذه المعاني المذكورة هنا اصطلاحي لا لغوي.
وقولي في مفهوم المخالفة إنه إثبات نقيض حكم المنطوق به للمسكوت عنه، احتراز عما توهمه الشيخ بن أبي زيد وغيره فاستدلوا بقوله تعالى «ولا تصل على أحد منهم مات أبداً» (3) على وجوب الصلاة على أموات المسلمين بطريق المفهوم، وقالوا مفهوم التحريم على المنافقين الوجوب في حق المسلمين. وليس كما زعموا، فإن الوجوب هو ضد التحريم، والحاصل في المفهوم إنما هو سلب ذلك الحكم المرتب في المنطوق، وعدم التحريم أعم من ثبوت الوجوب، فإذا قال الله تعالى حرمت عليكم الصلاة على المنافقين فمفهومه أن غير المنافقين لا تحرم الصلاة عليهم، وإذا لم تحرم جاز أن تباح، فإن النقيض أعم من الضد، وإنما يعلم الوجوب أو غيره بدليل منفصل، فلذلك يتعين أن لا يزاد في المفهوم على إثبات النقيض.
ويعرض بين مفهوم العلة والصفة جواب عن سؤال مقدر وهو إن علة الإسكار صفة،
فقولي بعد ذلك مفهوم الصفة تكرار بغير فائدة، فأردت أن أبين بالفرق المذكور أن الصفة قد تكون متممة للعلة لا علة، فهي أعم من العلة؛ فإن الزكاة لم تجب في السائمة لكونها تسوم وغلا لوجبت الزكاة في الوحوش، وإنما وجبت لنعمة الملك وهي مع السوم أتم منها مع العلف، وفي كون الاستثناء من باب المفهوم إشكال من جهة أن (إلا) وضعت للإخراج فينبغي أن يكون الاتصاف بالعدم في المخرج مدلولاً بالمطابقة، فلا يكون مفهوماً لأن المفهوم هو من باب دلالة الالتزام.
وجواب هذا السؤال أن (إلا) وضعت للإخراج من المنطوق ولا يلزم من ذلك دخول المستثنى في عدمه باللفظ بل بدلالة العقل على أن النقيضين لا ثالث لهما، وحينئذ يتعين من الخروج من أحدهما الدخول في الآخر، أما لو فرض لهما ثالث لا يلزم الدخول في العدم بل في ذلك الثالث، أو في العدم فلا يتعين العدم؛ فحينئد إنما استفدنا الاتصاف بالعدم من جهة دلالة العقل لا من اللفظ، فكان الاتصاف بالعدم مدلولاً التزاماً لا مطابقة، وإنما المدلول مطابقة هو نفس الخروج من المتقدم، أما الدخول في نقيضه فمن جهة العقل، وكذلك نقول في مفهوم الغاية، وأما مفهوم الحصر فقد نقل أبو علي في المسائل الشيرازيات أن (ما) في (إنما) للنفي وأن النفي في المسكوت بها، فعلى هذا يكون منطوقاً لا مفهوماً، وهو الذي يقوى في نفسي، هذا إن كان الحصر بإنما، وأما بالنفي قبل إلا نحو «ما قام إلا زيد» فظاهر أنه ليس مفهوماً، وأما في تقديم المعمولات أو المبتدأ مع الخبر فيترجح أنه مفهوم، وسيأتي له باب - إن شاء الله تعالى - وفي مفهوم العدد إشكال، وتفصيله مبسوط في المحصول، وشرحه يقدح في اعتباره، والجمهور على عدم قدحه فلذلك تركته، ومفهوم اللقب إنما ضعف لعدم رائحة التعليل فيه فإن الصفة تشعر بالتعليل وكذلك الشرط ونحوه، بخلاف اللقب لجموده بعد التعليل فيه.