الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الحادي عشر في دليل الخطاب وهو مفهوم المخالفة
وقد تقدمت حقيقته، وأنواعه العشرة، وهو حجة عند مالك رحمه الله وجماعة من أصحابه وأصحاب الشافعي، وخالف في مفهوم الشرط القاضي أبو بكر منا وأكثر المعتزلة، وليس معنى ذلك أن المشروط لا يجب انتفاؤه عند انتفاء الشرط فإنه متفق عليه، بل معناه أن هذا الانتفاء ليس مدلولاً للفظ، وخالف في مفهوم الصفة أبو حنيفة وابن سريج والقاضي وإمام الحرمين وجمهور المعتزلة، ووافقنا الشافعي والأشعري. وحكى الإمام أن مفهوم اللقب لم يقل به إلاّ القاق. لنا أن التخصيص لو لم يقتض سلب الحكم عن المسكوت عنه للزم الترجيح من غير مرجح وهو محال.
الحاصل في الشرط أربعة أمور: إذا قال أنت طالق إن دخلت الدار مثلاً. أحدها: ارتباط الطلاق بالدخول. وثانيها ارتباط عدم الطلاق بعدم الدخول. وثالثها: دلالة لفظ التعليق على ارتباط الطلاق بالدخول. ورابعها: دلالة لفظ التعليق على ارتباط عدم الطلاق بعدم الدخول. فالأقسام الثلاثة متفق عليها بين القاضي وغيره، وإنما الخلاف في الرابع وهو دلالة لفظ التعليق على ارتباط عدم الطلاق بعدم الدخول.
فيقول القاضي رحمه الله أنا أقول إنها لا تطلق إذا لم تدخل الدار لكن استصحاباً للعصمة السابقة. وغيره يقول لأمرين: الاستصحاب ودلالة لفظ التعليق. وهذا معنى قولنا إن المفهوم حجة، ولويس معناه إن عدم المشروط لا يتحقق عند عدم الشرط، بل ذلك مجمع عليه. والفرق بين مفهوم اللقب في كونه لم يقل به إلاّ الدقاق، وبين غيره من المفهومات، أن غيره من المفهومات نحو مفهوم الصفة وغيرها فيه رائحة التعليل، فإن الصفة والشرط ونحوهما يشعران
بالتعليل، ويلزم من عدم العلة عدم المعلوم، فيلزم عدم الحكم في صورة المسكوت عنه، وذلك هو المفهوم.
وأما اللقب فهو العَلم قاله التبريزي. قال ويلحق به أسماء الأجناس، ففرق بين قوله عليه السلام:«في سائمة الغنم الزكاة» ، وبين قوله:«في الغنم الزكاة» فإن الأوّل مشعر بالتعليل دون الثاني. هذا هو السبب في اهتضامه (1) والدقاق يقول لا بد للتخصيص بهذا الشخص من فائدة، فلو كان الحكم ثابتاً له ولغيره وتخصص هو بالذكر لزم الترجيح من غير مرجح كما قلناه نحن في مفهوم الصفة وغيرها.
حجة المنع من المفهوم: أنه يجوز أن تشترك الصورتان في الحكم، وتخصص إحداهما بالذكر لأمور: أحدها أن بيان الصورة الأخرى قد تقدم. وثانيها أن الحاضر الآن هو صاحب السائمة مثلاً دون المعلوفة فلذلك خصص بالذكر. وثالثها أن المتكلم سكت عن الصورة الأخرى ليفوز المجتهد بثواب الاجتهاد في التسوية بين الصورتين بالقياس، كما نص عليه الصلاة والسلام على الأشياء الستة، وحكم غيرها من الربويات مثلها، غير أنها فوضت لاجتهاد المجتهدين. ورابعها أن مقصود المتكلم أن ينص على كلّ واحد منها نصاً خاصاً ليكون ذلك أبعد عن احتمال التخصيص. وخامسها أن مقصود الشارع تكثير الألفاظ بتعديد النصوص حتى يكثر ثواب القارئ والحافظ والضابط لها، وبالجملة فالمرجحات كثيرة، فما تعين سلب الحكم عن المسكوت ولا يلزم الترجيح من غير مرجح.
فائدة: قد تقدم أن دلالة المفهوم من باب دلالة الالتزام وأنها من دلالة اللفظ لا من باب الدلالة باللفظ، فلا يدخل المفهوم الحقيقة ولا المجاز، ولا يوصف بهما، وإن المفهوم هو إثبات نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه لا ضده، وتقدم هذا عند الكلام على دليل الخطاب وفحوى الخطاب وما معهما.
فرعان: الأوّل أن المفهوم متى خرج مخرج الغالب فليس بحجة إجماعاً
(1) في إحدى نسخ الخط: في اقتضائه على مفهوم اللقب.
نحو قوله تعالى: «ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق» (1) ولذلك يرد على الشافعية في قوله عليه الصلاة والسلام: «في سائمة الغنم الزكاة» إنه خرج مخرج الغالب، فإن غالب أنعام الحجاز وغيرها السوم.
إنّما قال العلماء إن مفهوم الصفة إذا خرجت مخرج الغالب لا يكون حجة ولا دالاً على انتفاء الحكم عن المسكوت عنه، بسبب أن الصفة الغالبة على الحقيقة تكون لازمة في الذهن بسبب الغلبة، فإذا استحضرها المتكلم ليحكم عليها حضرت معها تلك الصفة، فنطق بها المتكلم لحضورها في الذهن مع المحكوم عليه، لا أنه استحضرها ليفيد بها انتفاء الحكم عن المسكوت عنه، أما إذا لم تكن غالبة لا تكون لازمة للحقيقة في الذهن، فيكون المتكلم قد قصد حضورها في ذهنه ليفيد بها سلب الحكم عن المسكوت عنه، فلذلك لا تكون الصفة الغالبة دالة على نفي الحكم، وغير الغالبة دالة على نفي الحكم عن المسكوت عنه.
سؤال: كان الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله يقول إذا كانت الصفة غالبة هي أولى بالدلالة على نفي الحكم عن المسكوت عنه، بسبب أنها إذا كانت غالبة كانت العادة والغلبة تفيدها للسامع وإنما هي صفة هذه الحقيقة فلا يحتاج المتكلم إلى لفظ يدل به
عليها اكتفاء بالعادة، فما نطق بها حينئذ إلاّ لقصد عدم الإعلام بها، وهو سلب الحكم عن المسكوت عنه، أما غير الغالبة فلم تكن العادة دالة عليها فأمكن (2) أن يقال نطق بها المتكلم ليفيد السامع أن هذه الحقيقة هي الصفة تعرض لهان فيكون هذا مقصوده دون قصد سلب الحكم عن المسكوت عنه، فعلم أن ما قالوه يمكن أن يكون بالعكس وهو سؤال حسن.
وجوابه: ما تقدم في التعليل.
الثاني أن التقييد بالصفة في جنس هل يقتضي نفي ذلك الحكم عن سائر الأجناس فيقتضي الحديث مثلاً في نفي وجوب الزكاة عن سائر الأنعام وغيرها أو لا يقتضي نفيه إلاّ عن ذلك الجنس خاصة وهو اختيار الإمام.
(1) 31 الإسراء.
(2)
في نسخة: فلما لم تكن العادة عليها أمكن. . الخ.
البحث في هذا النوع مبني على أن نقيض المركب في اللغة إنّما هو سلب الحكم عن ذلك المركب لا مطلقاً، فنقيض قولنا زيد في الدار، أن زيداً ليس في الدار، هذا هو الذي يستعمل نقيضاً في اللغة، ويكذب به القول الأوّل، وإن كان عدم زيد من حيث هو زيد يناقض أنه في الدار، وكذلك إذا قلنا في الخبر من الحنطة غذاء، فالذي يقصد مناقضته يقول ليس في الخبز من الحنطة غذاء فلا بد أن ينطق في المناقضة بقوله من الحنطة، مع أنه لو قال ليس في الخبز غذاء مطلقاً حصل التناقض عقلاً لاندراج الخبز الخاص بالحنطة في مطلق الخبز نصاً، غير أن عرف اللغة ما ذكرته لك، فمن لاحظ هذه القاعدة وهم الجمهور قال إذا قال صاحب الشرع في سائمة من الغنم الزكاة يكون نقيضه ليس في السائمة من الغنم زكاة، هذا نقيض المنطوق الذي لا يثبت معه المنطوق، والمفهوم الذي هو النقيض اللازم للمنطوق، فيكون تقديره ما ليس بسائمة من الغنم لا زكاة فيها، هذا إذا أخذنا خصوص المحل، وما ليس بسائمة مطلقاً يتناول البقر والمعلوفة والإبل، بل العقار بل الحلي المتخذ لاستعمال مباح، يجوز أن يستدل به على عدم وجوب الزكاة فيه بقوله عليه الصلاة والسلام في سائمة الغنم الزكاة، ومفهومه يقتضي عدم وجوب الزكاة في الحُبلى، لأن الحبلى ليس بغنم سائمة، هذا منشأ الخلاف بين الفريقين، هل يؤخذ خصوص المحل في النقيض نظراً لعرف اللغة أو لا يؤخذ نظراً للتناقض العقلي من حيث الجملة؟