الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالتخصيص والتعارض إنّما عرض لذلك الدليل الدال على التكرار، وكذلك إقراره عليه الصلاة والسلام لبعض الأمة على الترك مع القدرة على الفعل، والعلم به لا يكون مخصصاً وناسخاً إلا للدليل الدال على تكرار ذلك الفعل.
قال الغزالي في المستصفى لا يتصور التعارض بين الأفعال بما هي أفعال البتة، لأن الفعلين لا يجتمعان في زمان واحد البتة، وإذا تعدد الزمان فلا تعارض، بخلاف الأقوال لها صيغ تتناول بها الأزمان، فيتصور فيها التعارض.
فائدة: مهما أمكن التخصيص لا يعدل عنه إلى النسخ، لأنه أقرب إلى الأصل من جهة أنه بيان المراد فليس فيه إبطال مراد، بخلاف النسخ فيه إبطال المراد.
الفصل الثالث في تأسيه عليه الصلاة والسلام
مذهب مالك وأصحابه أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن متعبداً بشرع من قبله قبل نبوته، وقيل كان متعبداً، لنا أنه لو كان كذلك لافتخرت به أهل تلك الملة وليس فليس.
هذه المسألة المختار فيها أن نقول متعبداً بكسر الباء على أنه اسم فاعل ومعناه أنه عليه الصلاة واللام كان كما قيل في سيرته عليه الصلاة والسلام ينظر إلى ما عليه الناس
فيجدهم على طريق لا يليق بصانع العالم، فكان يخرج إلى غار حراء يتحنث أي يتعبد، ويقترح أشياء لقربها من المناسب في اعتقاده. ويخشى أن لا تكون مناسبة لصانع العالم، فكان من ذلك في ألم عظيم، حتى بعثه الله تعالى وعلمه جميع طرق الهداية وأوضح له جميع مسالك الضلالة، زال عنه ذلك الثقل الذي كان يجده، وهو المراد بقوله:«ووضعنا عنك وزرك، الذي أنقض ظهرك» (1) على
(1) 2-3 الشرح.
أحد التأويلات، أي النقل الذي كنت تجده من أمر العبادة والتقرب، فهذه يتجه، وأما بفتحها فيقتضي أن يكون الله تعالى تعبده بشريعة سابقة، وذلك يأباه ما يحكونه من الخلاف هل كان متعبداً بشريعة موسى أو عيسى فإن شرائع بني إسرائيل لم تتعدهم إلى بني إسماعيل، بل كان نبي من موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام وغيرهما إنّما كان يبعثه الله إلى قومه فلا يتعدى رسالته قومه، حتى نقل المفسرون أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يبعث إلى أهل مصر بل لبني إسرائيل ليأخذهم من القبط من يد فرعون، ولذلك لما عدى البحر لم يرجع إلى مصر ليقيم فيها شريعته، بل عرض عنهم إعراضاً كلياً لما أخذ بني إسرائيل، وحينئذ لا يكون الله تعبد محمداً صلى الله عليه وسلم بشرعهما البتة فبطل قولنا إنه كان متعبداً بفتح الباء بل بكسرها كما تقدم، وهذا بخلافه بعد نبوته عليه الصلاة والسلام، فإنه تعبده تعالى بشرع من قبله على الخلاف في ذلك بنصوص وردت عليه في الكتاب العزيز فيستقيم الفتح (1) فيما بعد النبوة دون ما قبلها.
ومما يؤكد أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن متعبداً قبل نبوته بشرع أحد، أن تلك الشرائع كانت دائرة لم يبق فيها ما يمكن التمسك به لأهلها فضلاًَ عن غيرهم، وهو عليه الصلاة والسلام لم يكن يسافر ولا يخالط أهل الكتاب حتى يطلع على أحوالهم، فيبعد مع هذا غاية البعد أن يعبد الله تعالى على تلك الشرائع، ولأنه لو كان يتعبد بذلك لكان يراجع علماء تلك الشرائع، ولو وقع ذلك لاشتهر.
احتج القائلون بذلك بأنه عليه الصلاة والسلام تناولته رسالة من قبله فيكون متعبداً بها، ولأنه عليه الصلاة والسلام كان يأكل اللحم ويركب البهيمة ويطوف بالبيت، وهذه أمور كلها لا بد له فيها من مستند، ولا مستند إلاّ الشرائع المتقدمة، خصوصاً على قول الأشاعرة: أن العقل لا يفيد الأحكام وإنما تفيدها الشرائع.
والجواب عن الأوّل: أن ما ذكرتموه إنّما يتأتى في إسماعيل وإبراهيم ونوح عليهم
الصلاة والسلام، لأنه عليه الصلاة والسلام من ذريتهم، أما موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام فلا، وقد وقع الخلاف في هؤلاء كلهم أيهم كان يعبد الله
(1) 23 الإسراء.
تعالى على شريعته، فأما هؤلاء الثلاثة فقد درست شرائعهم، وما درس لا يكون حجة ولا يعبد الله تعالى به.
وعن الثاني: أن هذه الأفعال وإن قلنا بأن الأحكام لا تثبت إلاّ بالشرع فإنَّها يستصحب فيها براءة الذمة من التبعات، فإن الإنسان ولد بريئاً من جميع الحقوق، فهو يستصحب هذه الحالة، حتى يدل دليل على شغل الذمة بحق، فهذا يكفي من مباشرته عليه الصلاة والسلام لهذه الأفعال.
فائدة: تقدم أن الصواب كسر الباء وهو الذي يظهر لي، غير أنه وقع لسيف الدين في هذه المسالة كلام يدل على خلاف ذلك، وهو إن قال غير مستعبد في العقد أن يعلم الله تعالى مصلحة شخص معين في تكليفه شريعة من قبله، وهذا كلام يقتضي فتح الباء، فانظر في ذلك لنفسك، وأما غيره فلم أر له تعرضاً لذلك، فما أدري هل أغتر بالموضع فأطلق هذه العبارة في الاستدلال، أو هو أصل يعتمد عليه.
فائدة: حكاية الخلاف في أنه عليه الصلاة والسلام كان متعبداً قبل نبوته بشرع من قبله، يجب أن يكون مخصوصاً بالفروع دون الأصول، فإن قواعد العقائد كان الناس في الجاهلية مكلفين بها إجماعاً، ولذلك انعقد الإجماع على أن موتاهم في النار يعذبون على كفرهم، ولولا التكليف لما عذبوا، فهو عليه الصلاة والسلام متعبد بشرع من قبله بفتح الباء بمعنى مكلف هذا لا مرية فيه، إنّما الخلاف في الفروع خاصة؛ فعموم إطلاق العلماء مخصوص بالإجماع.
قائدة: قال المازري والأبياري في شرح البرهان، والإمام، وإمام الحرمين: هذه المسألة لا تظهر لها ثمرة في الأصول ولا في الفروع البتة، بل تجري مجرى التواريخ المنقولة ولا ينبني عليهم حكم في الشريعة البتة، وكذلك قاله التبريزي.
وأما بعد نبوته عليه الصلاة والسلام، فمذهب مالك وجمهور أصحابه وأصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة رحمة الله عليهم أنه متعبد بشرع من قبله، وكذلك أمته، إلاّ ما خصصه الدليل ومنع من ذلك القاضي أبو بكر
وغيره، لنا قوله تعالى:«أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده» (1) وهو عام لأنه اسم جنس أضيف.
شرائع من قبلنا ثلاثة أقسام: منها ما لا يعلم إلاّ بقولهم، كما ف لفظ ما بأيديهم من التوراة أن الله حرم عليهم لحم الجدي بلبن أمه يشيرون إلى المضيرة (2) ومنه ما علم بشرعنا
وأمرنا نحن أيضاً به وزشرع لنا، فهذا أيضاً لا خلاف أنه شرع لنا كقوله تعالى:«كتب عليكم القصاص في القتلى» (3) مع قوله تعالى: «وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس» (4) الآية. وثالثها أن يدل شرعنا على أن فعلاً كان مشروعاً لهم ولم يقل لنا شرع لكم أنتم أيضاً، فهذا هو محل الخلاف لا غير كقوله تعالى حكاية عن المادي الذي بعثه يوسف عليه الصلاة والسلام:«ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم» (5) فيستدل به على جواز الضمانن وكذلك قوله تعالى حكاية عن شعيب وموسى عليهما الصلاة والسلام: «إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج، فإن أتممت عشراً فمن عندك» (6) الآية. يستدل بها على جواز الإجازة، بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا أم لا، أما ما لا يثبت إلاّ بأقوالهم فلا يكون حجة لعدم صحة السند وانقطاعه. ورواية الكفار لو وقعت لم تقبل، فكيف وليس من أهل الكتاب من يروي التوراة فضلاً عن غيرها؟! وما لا رواية فيه كيف يخطر بالبال أنه حجة.
وبهذا يظهر لك بطلان من استدل في هذه المسألة بقصة رجم اليهوديين، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمد على أخبار ابن صوريا أن فيها الرجم، ووجد فيها كما قال، فإن من أسلم من اليهود لم يكن له رواية في التوراة، وإنما كانوا يعملون فيها ما رأوه، أما أن لهم سنداً متصلاً بموسى عليه الصلاة والسلام كما فعله المسلمون في كتب الحديث فلا، وهذا
(1) 90 الأنعام.
(2)
طعام يطبخ باللبن الحامض ودقيق ولحم وأبزار.
(3)
178 البقرة.
(4)
45 المائدة.
(5)
72 يوسف.
(6)
27 القصص.
معلوم بالضرورة لمن اطلع على أحوال القوم وكاشفهم وعرف ما هم عليه، بل رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب أن يعتقد أنه إنّما اعتمد في رجم اليهوديين على وجي جاءه من قبل الله تعالى، وأما غير ذلك فلا يجوز، ولا يُقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على دماء الخلق بغير مستند صحيح، فالاستدلال في هذه المسألة بهذه القضية لا يصح، بل لا يندرج في هذه المسألة إلاّ ما علم أنه من شرعهم بكتابنا، ومن قِبل نبينا فقط.
حجة المثبتين من وجوه: أحدها ما تقدم من الآية، وثاينها قوله تعالى:«شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليه وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه» (1)(وما) عامة في جملة ما وصى به نوحاً ووصى به إبراهيم وموسى وعيسى. وثالثها: قوله تعالى: «ملة أبيكم إبراهيم» ن تقديره اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم.
ويرد على الكل أن المقصود قواعد العقائد لا جزئيات الفروع، لأنها هي التي وقع الاشتراك فيها بين الأنبياء كلهم، وكذلك القواعد الكليّة من الفروع، أما جزئيات المسائل فلا اشتراك فيها، بل هي مختلفة في الشرائع.
حجة النافين من وجوه: أحدها أنه لو كان عليه الصلاة والسلام متعبداً بشرع من قبله
لوجب عليه مراجعة تلك الكتب، ولا يتوقف إلى نزول الوحي، لكنه لم يفعل ذلك لوجهين: أحدهما أنه لو فعله لاشتهر. والثاني: أن عمر رضي الله عنه طالع ورقة من التوراة فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:«لو كان موسى حياً ما وسعه إلاّ اتباعي» .
وثانيها: أنه صلى الله عليه وسلم لو كان متعبداً لوجب على علماء الأمصار والأعصار أن يفعلوا ذلك ويراجعوا شرع من قبلهم، ليعلموا ما فيه، وليس كذلك.
(1) 13 الشورى.
وثالثها: أنه عليه الصلاة والسلام صوب معاذاً في حكمه باجتهاد نفسه إذا عدم الحكم في الكتاب والسنةن وذلك يقتضي أنه لا يلزمه اتباع الشرائع المتقدمة.
والجواب عن الأوّل أنه قد تقدم أن شرع من قبلنا إنّما يلزمنا إذا علمناه من قبل نبينا عليه الصلاة والسلام بوحي، أما من قبلهم فلا يلزم مراجعتهم لعدم الفائدة في ذلك، وهو الجواب عن الثاني. وعن الثالث: أن من جملة الكتب دلالته على اتباع الشرائع المتقدمة.
فائدة: قال الإمام فخر الدين: إذا قلنا بأنه كان متعبداً فقيل بشرع إبارهيم وقيل بل بموسى، وقيل بل بعيسى عليهم الصلاة والسلام، وهذا الذي نقله هذا النقل بعينه فيما قبل النبوة، ونقل المازري الخلاف بعينه في المسألتين، وكذلك نقل من قال كان متعبداً بشريعة كلّ نبي تقدمه إلاّ ما نسخ أو درس، وهذا لم ينقله الجماعة، مع أنه غالب بحث الفقهاء في المباحث، فلا يخصصون شرعاً معيناً دون غيره.
قال القاضي: ومذهب المالكية أن جميع شرائع الأمم شرع لنا إلاّ ما نسخ ولا فرق بين موسى عليه الصلاة والسلام وغيره، قال ابن برهان وقيل كان متعبداً قبل النبوة بشرع آدم، لأنه ألو الشرائع، وقيل كان على دين نوح عليه الصلاة والسلام والله أعلم.