الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث في الناسخ والمنسوخ
يجوز عندنا نسخ الكتاب بالكتاب وعند الأكثرين.
حجتنا ما تقدم من الرد على أبي مسلم الأصفهاني، احتجوا بقوله تعالى: «لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه» (1) وقد تقدم جوابه.
والسنة المتواترة بمثلها هو كالكتاب بالكتاب لحصول المساواة والتواتر في البابين الناسخ والمنسوخ.
والآحاد بمثلها.
لأن نشترط في الناسخ أن يكون مساوياً للمنسوخ أو أقوى والآحاد مساوية للآحاد فيجوز.
وبالكتاب والسنة المتواترة إجماعاً.
بسبب أن الكتاب والسنة المتواترة ينسخان خبر الواحد، لأنهما أقوى منه والأقوى أولى بالنسخ.
وأما جواز نسخ الكتاب بالآحاد فجائز عقلاً غير واقع سمعاً، خلافاً لأهل الظاهر، والباجي منا مستدلاً بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى مكة. لنا أن الكتاب متواتر قطعي فلا يرفع بالآحاد المظنونة لتقدم العلم على الظن.
واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: «قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه» (2) الآية نسخت بنهيه عليه الصلاة والسلام على ألك كلّ ذي ناب من السباع وهو خبر واحد وبقوله تعالى: «وأحل لكم ما وراء ذلكم» (3) نسخ ذلك
(1) 42 فصلت.
(2)
145 الأنعام.
(3)
24 النساء.
بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها» الحديث، ولأنه دليل شرعي فينسخ كسائر الأدلة، ولأنه يخصص الكتاب فينسخه، لأن النسخ تخصيص في الأزمان.
والجواب عن الأوّل: أن الآية إنّما اقتضت التحريم إلى تلك الغاية فلا ينافيها ورود تحريم بعدها، وإذا لم ينافها لا يكون ناسخاً لأن من شرط النسخ التنافي. وعن الثاني: أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال فيحمل العام على حالة عدم القرابة المذكورة. سلمناه لكنه تخصيص ونحن نسلمه إنّما النزاع في النسخ. وعن الثالث: الفرق أن تلك الأدلة المتفق عليها مساوية أو أقوى وهذا مرجوع فلا يلحق بها. وعن الرابع: أن النسخ إبطال لما اتصف بأنه مراد فيحتاط فيه أكثر من التخصيص لأنه بيان للمراد فقط، وأما تحويل القبلة فقالوا احتفت به قرائن وجدها أهل قباء لما أخبرهم المخبر من ضجيج أهل المدينة، وغير ذلك حصل لهم العلم، فلذلك قبلوا تلك الرواية. سلمنا عدم القرائن لكن ذلك فعل بعض الأمة، فليس حجة، ولعله مذهب لهم فإنَّها مسألة خلاف.
ويجوز نسخ السنة بالكتاب عندنا خلافاً للشافعي رضي الله عنه وبعض أصحابه.
لنا نسخ القبلة بقوله تعالى: «وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره» ولم يكن التوجه لبيت المقدس ثابتاً بالكتاب عملاً بالاستقراء.
في كون التوجه لبيت المقدس ليس من القرآن، فيه نظر، من جهة أن القاعدة أن كلّ بيان المجمل يعد مراداً من ذلك المجمل وكائناً فيه. والله تعالى قال:«وأقيموا الصلاة» (1) ولم يبين صفتها، فبينها عليه الصلاة والسلام بفعله لبيت المقدس وكان ذلك مراداً بالآية، كما أن نقول في قوله عليه الصلاة والسلام:«فيما سقت السماء العشر» بيان لقوله تعالى: «وآتوا الزكاة» (2) وهو مراد منها، وكذلك هنا وهو القاعدة: أن كلّ بيان المجمل يعد مراداً من ذلك المجمل، فكان التوجيه لبيت المقدس ثابتاً بالقرآن بهذه الطريقة.
(1) 43 البقرة.
(2)
43 البقرة.
حجة الشافعي رضي الله عنه قوله تعالى: «لتبين للناس ما نزل إليهم» (1) فجعله عليه الصلاة والسلام مبيناً بالسنة للكتاب المنزل، فلا يكون الكتاب ناسخاً للسنة لأن الناسخ مبين للمنسوخ، فيكون كلّ واحد منهما مبيناً لصاحبه فيلزم الدور.
والجواب عنه: أن الكتاب والسنة ليس كلّ واحد منهما محتاجاً للبيان ولا وقع فيه النسخ، فأمكن أن يكون بعض الكتاب مبيناً لبعض السنة، والبعض الآخر الذي لم يبينه الكتاب بيان للكتاب فلا دور، لأنه لم يوجد شيئان كلّ واحد منهما متوقف على الآخر، بل الذي يتوقف عليه من السنة غير متوقف والبعض المتوقف عليه من الكتاب غير متوقف، سلمناه، لكنه معارض بقوله تعالى ف حق الكتاب العزيز:«تبياناً لكل شيء» ، والسنة شيء، فيكون الكتاب تبياناً لها فينسخها وهو المطلوب.
ويجوز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة لمساواتها له في الطريق العلمي عند أكثر أصحابنا، وواقع كنسخ الوصية للوارث بقوله عليه الصلاة والسلام:«لا وصية لوارث» ونسخ آية الحبس في البيوت بالرجم. وقال الشافعي لم يقع، لأن آية الحبس في البيوت نسخت بالجلد.
واحتجوا أيضاً على الوقوع بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا وصية لوارث» نسخت الوصية للأقربين الذين في الكتاب، وبقوله عليه الصلاة والسلام:«لا تنكح المرأة على عمتها» الحديث ناسخ لقوله تعالى: «وأحل لكم ما وراء ذلكم» وأما قول الشافعي رضي الله عنه إن آية الحبس نسخت بالجلد، فذلك يتوقف على تاريخ لم يتحقق، ومن أين لنا أن آية الجلد نزلت بعد آية الحبس؟! بل ظاهر السنة يقتضي خلاف ما قاله، لأنه عليه الصلاة والسلام قال: «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً: الثيب بالثيب رجم
بالحجارة والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» فظاهره يقتضي أنه الآن نسخ ذلك الحكم.
ويرد على الأوّل: الوصية جائزة لغير الوارث إذا كان قريباً فدخله التخصيص
(1) 44 النحل.
والمدعى للنسخ، وعلى الثاني أنه أيضاً تخصيص دخل في الكتاب لا نسخ؛ لأن بعض ما أحل حرم ولا تنازع فيه.
والإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به.
هذا نقل المحصول، وقال الشيخ سيف الدين كون الإجماع ينسخ الحكم الثابت به نفاه الأكثرون وجوزه الأقلون، وكون الإجماع ناسخاً منعه الجمهور وجوزه بعض المعتزلة وعيسى بن أبان.
وبنى الإمام فخر الدين هذه المسألة على قاعدة وهي: أن الإجماع لا ينعقد في زمانه عليه الصلاة والسلام، لأنه بعض المؤمنين بل سيدهم، ومتى وجد قوله عليه الصلاة والسلام فلا عبرة بقول غيره، وإذا لم ينعقد إلاّ بعد وفاته عليه الصلاة والسلام لم يمكن نسخه بالكتاب والسنة لتعذرهما بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، ولا بالإجماع لأن هذا الإجماع الثاني إن كان لا عن دليل فهو خطأ وإن كان عن دليل فقد غفل عنه الإجماع الأوّل فكان خطئاً والإجماع لا يكون خطئاً فاستحال النسخ بالإجماع، ولا بالقياس لأنه من شرطه أن لا يكون على خلاف الإجماع، فيتعذر نسخ الإجماع مطلقاً، وأما كون الإجماع ناسخاً فقال: لا يمكن أن ينسخ كتاباً ولا سنة لأنه يكون على خلافهما فيكون خطئا، ولا إجماعاً لأن أحدهما يلزم أن يكون خطئاً لمخالفته لدليل الإجماع الآخر، ولا قياساً لأن شرط القياس عدم الإجماع، فإذا أجمعوا على خلاف حكم القياس زال القياس لعدم شرطه.
وهذه الطريقة مشكلة بسبب وجود النبي صلى الله عليه وسلم لا يمنح وجود الإجماع، لأنه عليه الصلاة والسلام شهد لأمته بالعصمة فقال:«لا تجتمع أمتي على خطأ» وصفة المضاف غير المضاف إليه، وهو عليه الصلاة والسلام لو شهد لواحد في زمانه عليه الصلاة والسلام بالعصمة لم يتوقف ذلك على أن يكون بعده عليه الصلاة والسلام، فالأمة أولى.
ثم إنه نقض هذه القاعدة بعد ذلك فقال يمكن نسخ القياس في زمانه عليه السلام بالإجماع، فصرح بجواز انعقاد الإجماع في زمانه عليه السلام.
وأما سيف الدين فلم يقل ذلك، بل قال الإجماع الموجود بعد وفاته عليه الصلاة والسلام لا ينسخ بنص ولا غيره إلى آخر التقسيم.
وقال أبو الحسين البصري في المعتمد الموضوع له في أصول الفقه كما قاله المصنف، ثم قال إن قيل يجوز أن ينسخ إجماعاً وقع في زمانه عليه الصلاة والسلام قلنا
يجوز، وإنما منعنا الإجماع بعده أن ينسخ، وأما في حياته فالمنسوخ الدليل الذي أجمعوا عليه لا حكمه.
وقال أبو إسحق: ينعقد الإجماع في زمانه عليه السلام.
وقال ابن برهان في كتاب الأوسط ينعقد الإجماع في زمانه عليه الصلاة والسلام، وجماعة المصنفين وافقوا الإمام فخر الدين على دعواه على ما فيها من الإشكال.
وأما حجة الجواز لمن خالف في هذه المسألة فهي مبنية على أنه يجوز أن ينعقد إجماع بعد إجماع مخالف له، ويكون كلاهما حقاً، ويكون انعقاد الأوّل مشروطاً بأن لا يطرأ عليه إجماع آخر وهو شذوذ من المذاهب، فبنى الشاذ على الشاذ، والكل ممنوع.
ويجوز نسخ الفحوى الذي هو مفهوم الموافقة تبعاً للأصل، ومنع أبو الحسين من نسخه مع بقاء الأصل دفعاً للتناقض بين تحريم التأفيف مثلاً وحل الضرب، ويجوز النسخ به وفاقاً، لفظية كانت دلالته أو قطعية أو على الخلاف.
قال الإمام فخر الدين اتفقوا على جواز نسخ الأصل والفحوى معاً، وأما نسخ الأصل وحده فإنه يقتضي نسخ الفحوى، لأن الفحوى تبع، وأما نسخ الفحوى مع بقاء الأصل فمنعه أبو الحسين، لئلا ينتقض الغرض في الأصل كما تقدم في التأفيف، فتحريمه لنفي العقوق وإباحة الضرب أبلغ في العقوق، فيبطل المقصود من تحريم التأفيف.
قال سيف الدين: تردد قول القاضي عبد الجبار في نسخ الفحوى دون الأصل، فجوزه تارة ورآه من باب التخصيص، لأنه نص على الجميع، ثم خصص البعض، ومنعه مرة للتناقض ونقض الغرض.
وقولي: كانت دلالته لفظية أو قطعية: أريد بالقطعية العقلية الذي هو القياس؛
فإن الناس اختلفوا في تحريم الضرب مثلاً في تلك الآية (1) هل هو ثابت بالقياس على تحريم التأفيف بطريق الأولى، أو هو بدلالة اللفظ عليه التزاماً بالقياس، وإن كانت دلالة التزام صح النسخ بها، أو قياساً صح النسخ بها، لأنه حكم مناقض لحكم متقدم، فصح النسخ كسائر ما يجوز به النسخ، نعم يشترط في المنسوخ به أن يكون مثله في السند أو أخفض رتبة.
مسألة: قال الإمام فخر الدين في المحصول نسخ القياس إن كان في حياته عليه الصلاة والسلام فلا يمتنع رفعه بالنص وبالإجماع وبالقياس، بأن ينص عليه السلام في
الفروع، بخلاف حكم القياس بعد استقرار التعبد بالقياس، وأما بالإجماع فلأنه إذا اختلفت الأمة على قولين قياساً، ثم أجمعوا على أحد القولين، كان إجماعهم رافعاً لحكم القياس المقتضي للقول الآخر، وأما بالقياس فبأن ينص في صورة بخلاف ذلك الحكم ويجعله معللاً بعلة موجودة في ذلك الفرع، وتكون أمارة عليتها أقوى من أمارة علة الوصف للحكم الأوّل في الأصل الأوّل.
وأما بعد وفاته عليه الصلاة والسلام فإنه يجوز نسخه في المعنى وإن كان لا يسمى نسخاً في اللفظ، كما إذا أفتى مجتهد بالقياس ثم ظفر بالنص أو بالإجماع أو بالقياس المخالف للأول، فإن قلنا كلّ مجتهد مصيب كان هذا الوجدان ناسخاً لقياسه الأوّل، وإن قلنا المصيب واحد لم يكن القياس الأوّل متعبداً به، وأما كون القياس ناسخاً فيمتنع في الكتاب والسنة والإجماع، لأن تقدمها يبطله، وأما القياس فقد تقدم القول فيه.
والعقل يكون ناسخاً في حق سقطت رجلاه فإن الوجوب ساقط عنه، قاله الإمام.
هذا ليس نسخاً فإن بقاء المحل شرط، وعدم الحكم لعدم سببه أو شرطه أو قيام مانعه ليس نسخاً وإلا كان النسخ واقعاً طول الزمان لطريان الأسباب وعدمها.
(1) في قوله تعالى: «وقضى ربك ألا تعبدوا إلاّ إياه وبالوالدين إحساناً. إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقلبات الأحوال لهما أفٍ ولا تنهرهما. .» .