المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث في الدال على العلة - شرح تنقيح الفصول

[القرافي]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأول في الاصطلاحات

- ‌الفصل الأول في الحد

- ‌الفصل الثاني في تفسير أصول الفقه

- ‌الفصل الثالث في الفرق بين الوضع والاستعمال والحمل

- ‌الفصل الرابع في الدلالة وأقسامها

- ‌الفصل الخامس الفرق بين الكلي والجزئي

- ‌الفصل السادس في أسماء الألفاظ

- ‌الفصل السابع الفرق بين الحقيقة والمجاز وأقسامهما

- ‌الفصل الثامن في التخصيص

- ‌الفصل التاسع في لحن الخطاب وفحواه ودليله وتنبيهه واقتضائه ومفهومه

- ‌الفصل العاشر في الحصر

- ‌الفصل الحادي عشر خمس حقائق لا تتعلق إلا بالمستقبل من الزمان وبالمعدوم وهي الأمر والنهي والدعاء والشروط وجزاؤه

- ‌الفصل الثاني عشر حكم العقل بأمر على أمر

- ‌الفصل الثالث عشر في الحكم وأقسامه

- ‌الفصل الرابع عشر في أوصاف العبادة

- ‌الفصل الخاس عشر فيما تتوقف عليه الأحكام

- ‌الفصل السادس عشر في الرخصة والعزيمة

- ‌الفصل السابع عشر في الحسن والقبح

- ‌الفصل الثامن عشر في بيان الحقوق

- ‌الفصل التاسع عشر في العموم والخصوص والمساواة والمباينة وأحكامها

- ‌الفصل العشرون في المعلومات

- ‌الباب الثاني في معاني حروف يحتاج إليها الفقيه

- ‌الباب الثالث في تعارض مقتضيات الألفاظ

- ‌الباب الرابع في الأوامر وفيه ثمانية فصول

- ‌الفصل الأول في مسماه ما هو

- ‌الفصل الثاني ورود الأمر بعض الحظر

- ‌الفصل الثالث في عوارضه

- ‌الفصل الرابع جواز تكليف ما لا يطاق

- ‌الفصل الخامس الأمر بالمركب أمر بأجزائه

- ‌الفصل السادس في متعلقه

- ‌الفصل السابع في وسيلته

- ‌الفصل الثامن في خطاب الكفار

- ‌الباب الخامس في النواهي وفيه ثلاثة فصول

- ‌الفصل الأول في مسماه

- ‌الفصل الثاني في أقسامه

- ‌الفصل الثالث في لازمه

- ‌الباب السادس في العمومات

- ‌الفصل الأول في أدوات العموم

- ‌الفصل الثاني في مدلوله

- ‌الفصل الثالث في مخصصاته

- ‌الفصل الرابع فيما ليس من مخصصاته

- ‌الفصل الخامس فيما يجوز التخصيص إليه

- ‌الفصل السادس في حكمه بعد التخصيص

- ‌الفصل السابع في الفرق بينه وبين النسخ والاستثناء

- ‌الباب السابع في أقل الجمع

- ‌الباب الثامن في الاستثناء

- ‌الفصل الأول في حده

- ‌الفصل الثاني في أقسامه

- ‌الفصل الثالث في أحكامه

- ‌الباب التاسع في الشروط

- ‌الفصل الأول في أدواته

- ‌الفصل الثاني في حقيقته

- ‌الفصل الثالث في حكمه

- ‌الباب العاشر في المطلق والمقيد

- ‌الباب الحادي عشر في دليل الخطاب وهو مفهوم المخالفة

- ‌الباب الثاني عشر في المجمل والمبين

- ‌الفصل الأول في معنى ألفاظه

- ‌الفصل الثاني فيما ليس مجملاً

- ‌الفصل الثالث في أقسامه

- ‌الفصل الرابع في حكمه

- ‌الفصل الخامس في ورقته

- ‌الفصل السادس في المبين

- ‌الباب الثالث عشر في فعله عليه الصلاة والسلام

- ‌الفصل الأول في دلالة فعله عليه الصلاة والسلام

- ‌الفصل الثاني في اتباعه عليه الصلاة والسلام

- ‌الفصل الثالث في تأسيه عليه الصلاة والسلام

- ‌الباب الرابع عشر في النسخ

- ‌الفصل الأول في حقيقته

- ‌الفصل الثاني في حكمه

- ‌الفصل الثالث في الناسخ والمنسوخ

- ‌الفصل الرابع فيما يتوهم أنه ناسخ

- ‌الفصل الخامس فيما يعرف به النسخ

- ‌الباب الخامس عشر في الإجماع

- ‌الفصل الأول في حقيقته

- ‌الفصل الثاني في حكمه

- ‌الفصل الثالث في مستنده

- ‌الفصل الرابع في المجمعين

- ‌الفصل الخامس في المجمع عليه

- ‌الباب السادس عشر في الخبر

- ‌الفصل الأول في حقيقته

- ‌الفصل الثاني في التواتر

- ‌الفصل الثالث في الطرق المحصلة للعلم غير التواتر وهي سبعة

- ‌الفصل الرابع في الدال على كذب الخبر وهو خمسة

- ‌الفصل الخامس في خبر الواحد

- ‌الفصل السادس في مستند الراوي

- ‌الفصل السابع في عدده

- ‌الفصل الثامن فيما اختلف فيه من الشروط

- ‌الفصل التاسع في كيفية الرواية

- ‌الفصل العاشر في مسائل شتى

- ‌الباب السابع عشر في القياس

- ‌الفصل الأول في حقيقته

- ‌الفصل الثاني في حكمه

- ‌الفصل الثالث في الدال على العلة

- ‌الفصل الرابع في الدال على عدم اعتبار العلة

- ‌الفصل الخامس في تعدد العلل

- ‌الفصل السادس في أنواعها

- ‌الفصل السابع فيما يدخل القياس

- ‌الباب الثامن عشر في التعارض والترجيح

- ‌الفصل الأول هل يجوز تساوي الأمارتين

- ‌الفصل الثاني في الترجيح

- ‌الفصل الثالث في ترجيحات الأخبار

- ‌الفصل الرابع في ترجيح الأقيسة

- ‌الفصل الخامس في ترجيح طرق العلة

- ‌الباب التاسع عشر في الاجتهاد

- ‌الفصل الأول في النظر

- ‌الفصل الثاني في حكمه

- ‌الفصل الثالث فيمن يتعين عليه الاجتهاد

- ‌الفصل الرابع في زمانه

- ‌الفصل الخامس في شرائطه

- ‌الفصل السادس في التصويب

- ‌الفصل السابع في نقض الاجتهاد

- ‌الفصل الثامن في الاستفتاء

- ‌الفصل التاسع فيمن يتعين عليه الاستفتاء

- ‌الباب العشرون في جمع أدلة المجتهدين وتصرفات المكلفين

- ‌الفصل الأول في الأدلة

- ‌الفصل الثاني في تصرفات المكلفين في الأعيان

الفصل: ‌الفصل الثالث في الدال على العلة

وقال الحسكفي في جدله وغيره: تنقيح المناط هو تعيين علة من أوصاف مذكورة، وتخريج المناط هو استخراجها من أوصاف غير مذكورة. مثال الأوّل حديث الأعرابي:«جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب صدره وينتف شعره فقال هلكت وأهلكت: واقعت أهلي في شهر رمضان فأوجب عليه السلام عليه الكفارة» الحديث المشهور فذكر في الحديث كونه أعرابياً، وضرب الصدر ونتف الشعر، وهي لا تصلح للتعليل، وكونه مفسداً للصوم مناسب للكفارة، فعين علة من أوصاف مذكورة. ومثال الثاني: نهيه عليه السلام عن بيع البر بالبر إلاّ مثلاً بمثل يداً بيد، ولم يذكر العلة ولا أوصافاً هي مشتملة عليها، فتعين الطعم للعلة أو الكيل أو القوت أو المالية إخراج علة من أوصاف غير مذكورة، فهذا هو تخريج المناط، لأننا أخرجنا العلة من غيب، والأول تنقيح المناط. لأنه تصفية وإزالة لما لا يصلح عما يصلحن وتنقيح الشيء إصلاحه، فهذا اصطلاح مناسب، فتحصل لنا في تنقيح المناط مذهبان، وفي تخريج المناط قولان، وأما تحقيق المناط فهو تحقيق العلة المتفق عليها في الفرع، مثاله أن يتفق على أن العلة في الربا هي القوت الغالب ويختلف في الربا في التين بناء على أنه يقتات غالباً في الأندلس، أو لا نظراً إلى الحجاز وغيره، فهذا تحقيق المناط. ينظر هل هو محقق أم لا بعد الاتفاق عليه. فقد ظهر الفرق بين تخريج المناط وتنقيح الماط، وتحقيق المناط، وهي اصطلاحات لفظية.

‌الفصل الثالث في الدال على العلة

وهو ثمانية: النص والإيماء والمناسبة والشبه والدوران السير والطرد وتنقيح المناط. فالأول النص على العلة وهو ظاهر. الثاني الإيماء وهو خمسة: الفاء نحو قوله تعالى: «الزانية والزاني فاجلدوا» (1) وترتيب الحكم

(1) 2 النور.

ص: 389

على الوصف نحو ترتيب الكفارة

على قوله واقعت أهل في شهر رمضان قال الإمام سواء كان مناسباً أو لم يكن، وسؤاله عليه السلام عن وصف المحكوم عليه نحو قوله عليه السلام:«أينقص الرطب إذا جف» أو تفريق الشارع بين شيئين في الحكم نحو قوله عليه السلام: «القاتل لا يرث» أور ورود النهي عن فعل يمنع ما تقدم وجوبه.

النص على العلة نحو قوله: العلة كذا أو فعلته لأجل كذا، فهذا نص في التعليل والفاء تدخل على المعلوم نحو ما تقدم، فإن الجلد معلول الزنا وتدخل على العلة نحو قوله عليه السلام:«لا تمسوه (1) بطيب فإنه يبعث يوم القيام محرماً» فالإحرام هو علة المنع من الطيب، ومعنى قول الإمام فخر الدين سواء كان مناسباً أو لم يكن يشير إلى أن المناسبة مستقلة بالدلالة على العلية، وكذلك الترتيب، فإن القائل لو قال أكرم الجهلاء وأهن العلماء أنكر السامعون هذا القول وعابوه، ومدرك الاستقباح أنهم فهموا أنه جعل الجهل علة الإكرام والعلم علة الإهانة، وليس لهم مستند في اعتقاد التعليل إلاّ ترتيب الحكم على الوصف لا المناسبة، فإن المناسبة مفقودة هنا، فدل ذلك على أن الترتيب يدل على العلية وإن فقدت المناسبة، وأما سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقصان الرطب إذا جف لأنه لا يعلم ذلك بل ليعرف به السامعون، ليكون ذلك تنبيهاً على علة المنع، فيكونا لسامع مستحضراً لعلة الحكم حالة وروده عليه، فيكون ذلك أقرب لقبوله الحكم، بخلاف ما إذا غابت العلة عن السامع ربما صعب عليه تلقي الحكم واحتاج لنفسه من المجاهدة ما لا يحتاجها إذا علم العلة وحضرت له، ومعنى التفريق بين الشيئين أن الآية وردت بتوريث الأبناء مطلقاً بقوله تعالى:«يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين» (2) فلما قال عليه السلام «القاتل لا يرث» علم، أن ذلك لأجل علة القتل، مع أن هذا أيضاً فيه ترتيب الحكم على الوصف، ومثال النهي عن الفعل الذي يمنع ما تقدم وجوبه قوله تعالى:«يا ألها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله» (3)

فهذا وجوب للجمعة، فقوله

(1) في الأصل: لا تمسه.

(2)

11 النساء.

(3)

9 الجمعة..

ص: 390

تعالى بعد ذلك: «وذروا البيع» نهى عن البيع، لأنه يمنع من فعل الجمعة بالتشاغل بالبيع، فيكون هذا إيماء لأن العلة في تحريم البيع هي التشاغل عن الجمعة.

والثالث: المناسبة ما تضمن تحصيل مصلحة أو درء مفسدة، فالأول كالغنى علة لوجوب الزكاة، والثاني كالإسكار علة لتحريم الخمر، والمناسب ينقسم إلى ما هو في محل الضرورات، وإلى ما هو في محل الحافجات، وإلى ما هو في محل التتمات، فيقدم

الأوّل على الثاني والثاني على الثالث عند التعارض، فالأول نحو الكليات الخمس وهي حفظ النفوس والأديان والأنساب والعقول والأموال قيل والأعراض، والثاني مثل تزويج الولي الصغيرة، فإن النكاح غير ضروري، لكن الحاجة تدعوى إليه في تحصيل الكفؤ لئلا يفوت، والثالث ما كان حثاً على مكارم الأخلاق كتحريم تناول القاذورات وسلب أهلية الشهادات عن الأرقاء ونحو الكتابات ونفقات القرابات، وتقع أوصاف مترددة بين هذه المراتب كقطع الأيدي باليد الواحدة فإن شرعيته ضرورية صوناً للأطراف وإن أمكن أن يقال ليس منه لأنه يحتاج الجاني فيه إلى الاستعانة بالغير وقد يتعذر، ومثال اجتماعها كلها في وصف واحد أن نقطة النفس ضرورية والزوجات حاجية والأقارب تتمة واشتراط العدالة في الشهادة ضروري صوناً للنفوس والأموال وفي الإمامة على الخلاف حاجية لأنها شفاعة، والحاجة داعية لإصلاح حال الشفيع، وفي النكاح تتمة لأن الولي قريب يمنعه طبعه عن الوقوع في العار والسعي في الأضرار، وقيل حاجية على الخلاف، ولا يشترط في الإقرار لقوة الوازع الطبيعي ودفع المشقة عن النفوس مصلحة ولو أفضت إلى خلاف القواعد، وهي ضرورية مؤثرة في الترخيص كالبلد الذي يتعذر فيه العدول.

قال ابن أبي زيد في النوادر تقبل شهادة أمثلهم حالاً لأنها ضرورة، وكذلك يلزم في القضاة وولاة الأمور، وحاجية على الخلاف في الأوصياء في عدم اشتراط العدالة وتمامية في السلم والمساقاة وبيع الغائب، فإن في منعها مشقة على الناس وهي من تتمات معاشهم.

ص: 391

الكليات الخمس: حكى الغزالي وغيره إجماع الملل على اعتبارها، وأن الله تعالى ما أباح النفوس ولا شيئاً من الخمس المتقدمة في ملة من الملل، وأن المسكرات حرام في جميع الملل وإن وقع الخلاف في اليسير الذي لا يسكر، ففي الإسلام هو حرام، وفي الشرائع المتقدمة حلال، أما القدر المسكر فحرام إجماعاً من الملل، واختلف العلماء، في عددها، فبعضهم يقول الأديان عوض الأعراض، وبعضهم يذكر الأعراض ولا يذكر الأديان وفي التحقيق الكل متفق على تحريمه فما أباح الله تعالى العرض بالقذف والسباب قط، وكذلك لم يبح الأموال بالسرقة والغضب، ولا الأنصاب بإباحة الزنا قط، ولا العقول بإباحة المسكرات، ولا النفوس والأعضاء بإباحة القطع والقتل، ولا الأديان بإباحة الكفر وانتهاك حرم المحرمات، وجعلهم الكتابات تتمة لأنها عون على حصول العتق وإزالة الرق عن البشرية المكرمة من بني آدم، فهو من مكارم الأخلاق وتتمات المصالح، وكذلك نفقات الأقارب من تتمات مكارم الأخلاق. وقوله إن العدالة شرط في الولي على الخلاف إشارة إلى ما وقع في الفقه في الولي إذا كان فاسقاً هل تسقط ولايته بفسقه أم لا؟ قولان في مذهب

مالك، والمشهور عدم سلبها اكتفاءً بالوازع الطبيعي عن العدالة، وعدم اشتراط العدالة في الإقرار، فيقبل إقرا البر والفاجر، لأنه إلزام لنفسه ومضربهان ولا يقع الإقرار إلاّ كذلك، وإلا كان دعوى أو شهادة، والوازع الطبيعي يمنع ن الإضرار بغير موجب، فما أقر إلاّ والمقر به حق فيقبل منه، وإن كان فاجراً أو كافراً من غير خلاف بين الأمة.

وقولي في الأوصياء: حاجية معناه أن الناس قد يحتاجون إلى أن يوصوا لغير العدول وفيه خلاف، ومذهب مالك يشترط فيه أن يكون مستور الحال، وعلى القول بعدم اشتراط العدالة مع أنها ولاية، والولاية لا بد فيها من العدالة، فقد خالفنا القواعد في عدم اشتراط العدالة في الأوصياء، دفعاً للشقة الناشئة من الحيلولة بين الإنسان وبين من يريد أن يعتمد عليه، وكذلك خولفت القواعد في السلم والمساقاة وبيع الغائب والجعالة والمضاربة والمغارسة والصيد وغير ذلك فيما فيه جهالة في الأجرة وغرر، وأما الصيد فلبقاء الفضلات وعدم تسهيل الموت على الحيوانات، فقد خولفت القواعد لتتمة المعاش، فإن من الناس

ص: 392

من يحتاج في معاشه إلى أحد هذه الأمور، فجعلت شرعاً عاماً لعدم الانضباط في مقادير الحاجات. وهذه الرتب يظهر أثرها عند تعارض الأقيسة، فيقدم الضروري عل الحاجي، والحاجي على التتمة.

وهو أيضاً ينقسم إلى ما اعتبره الشرع، وإلى ما ألغاه، وإلى ما جهل حاله. والأول ينقسم إلى ما اعتبر نوعه في نوع الحكم كاعتبار نوع الإسكار في نوع التحريم، وإلى ما اعتبر جنسه في جنسه كالتعليل بمطلق المصلحة كإقامة الشرب مقام القذف لأنه مظنته، وإلى ما اعتبر نوعه في جنسه كاعتبار الأخوة في التقديم في الميراث، فتقدم في النكاح، وإلى ما اعتبر جنسه في نوع الحكم كإسقاط الصلاة عن الحائض بالمشقة فإن المشقة جنس وهو أي الإسقاط نوع من الرخص، فتأثير النوع في النوع مقدم على تأثير النوع في الجنس وتأثير النوع في الجنس مقدم على تأثير الجنس في النوع وهو مقدم على تأثير الجنس في الجنس، والملغى نحو المنع من زراعة العنب خشية الخمر، والذي جهل أمره هو المصلحة المرسلة التي نحن نقول بها، وعند التحقيق هي عامة في المذاهب.

الحكم أعم أجناسه كونه حكماً، وأخص منه كونه طلباً أو تخبيراً وأخص منه كونه تحريماً أو إيجاباً، وأخص منه كونه تحريم الخمر أو إيجاب الصلاة، وأعم أحوا الوصف كونه وصفاً، وأخص منه كونه مناسباً وأخص من المناسب كونه معتبراً، وأخص منه كونه مشقة أو مصلحة أو مفسدة خاصة، ثم أخص من ذلك كون تلك المفسدة في محل الضرورات أو الحاجات أو التتمات، فهذا الطريق يظهر الأجناس العالية والمتوسطة والأنواع السافلة للأحكام والأوصاف من المناسب وغيره، فالإسكار نوع من المفسدة، والمفسدة

جنس له. ويحكى عن علي رضي الله عنه أنه قال لما سئل عن حد شارب الخمر إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فأرى عليه حد المفتري. فأخذ علي رضي الله عنه مطلق المناسبة، ومطلق المظنة. والأخوة نوع من الأوصاف، والتقدم في الميراث نوع من الأحكام فهو نوع في نوع، وكذلك التقدم في النكاح أو صلاة

ص: 393

الجنازة نوع من الأحكام، فيقاس أحد النوعين على الآخر، وجعلت المشقة جنساً لأنها متنوعة إلى مشقة قضاء الصلاة ومشقة الصوم ومشقة القيام في الصلاة وغير ذلك من أنواع المشاق، فمطلق المشقة جنس، وهو نوع باعتبار الوصف المصلحي أو المناسب، وإسقاط الصلاة عن الحائض نوع من الأحكام، والإسقاطات والرخص بتأثير النوع في النوع مقدم على الجميع؛ لأن الخصوصين قد حصلا فيه: خصوص الوصف وخصوص الحكم، والأخص بالشيء مقدم على الأعم، ولذلك قدمت البنوة في الميراث على الأخوة، والأخوة على العمومة وكذلك قدم ليس النجس على الحرير، فمنع في الصلاة لأنه أخص بالصلاة من الحرير ولأن تحريم الحرير لا يختص بالصلاة فكان تحريم النجس أقوى منه لأنه مختص بها، وكذلك إذا لم يجد المحرم إلاّ ميتة وصيداً أكل الميتة دون الصيد، لأن تحريم الصيد خاص بالإحرام.

والقاعدة أن الأخص أبداً مقدم، فكما أن النوع في النوع أخص الجميع، فالجنس في الجنس أعم الجميع، والمنقول أن النوع في الجنس والجنس في النوع متساويان متعارضان مقدمان على الرابع لوجود الخصوص فيهما من حيث الجملة، والذي في الأصل ما أرى نقله إلاّ سهواً، وأما المصلحة المرسلة فالمنقول أنها خاصة بنا، وإذا افتقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا وجمعوا وفرقوا بين المسألتين لا يطلبون شاهداً بالاعتبار لذلك المعنى الذي به جمعوا وفرقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة، فهي حينئذ في جميع المذاهب.

ومن المعلوم أن المصلحة المرسلة أخص من مطلق المناسبة ومطلق المصلحة، لأن مطلق المصلحة قد يلغى كما تقدم في زراعة العنب، فإن المناسبة تقتضي أن لا يزرع سداً لذريعة الخمر، لكن أجمع المسلمون على إلغاء ذلك، وكذلك المنع من التجاور في البيوت خشية الزنا فإنه مناسب، لكن أجمع المسلمون على جواز المجاورة بالنساء في الدور الجامعة وإلغاء هذا المناسب، فالمناسب حينئذ أعم من المرسلة، لأن المرسلة مصلحة يفيد السكوت عنها فهي أخص.

الرابع: الشبه قال القاضي أبو بكر هو الوصف الذي لا يناسب لذاته ويستلزم المناسب لذاته، وقد شهد الشرع لتأثير جنسه القريب في جنس

ص: 394

الحكم القريب، والشبه يقع في الحكم كمشابهة العبد المقتول بالحر، أو شبهه بسائر المملوكات. وعند ابن علية

يقع الشبه في الصورة كرد الجلسة الثانية إلى الأولى في الحكم، وعند الإمام التسوية بين الأمرين إذا غلب على الظن أنه مستلزم للحكم، وهو ليس بحجة عند القاضي منا.

مثال الشبه عند القاضي: قولنا في الخل مائع لا تبنى القنطرة على جنسه فلا تزال به النجاسة كالدهن؛ فقولنا لا تبنى القنطرة على جنسه ليس مناسباً في ذاته، غير أنه مستلزم للمناسب، فإن العادة أن القنطرة لا تبنى على الأشياء القليلة بل على الكثيرة: كالأنهار، والقلة مناسبة لعدم مشروعية المتصف بها من المائعات للطهارة العامة، فإن الشرع العام يقتضي أن تكون أسبابه عامة الوجود. أما تكاليف الكل بما لا يجده إلاّ البعض فبعيد عن القواعد، فصار قولنا لا تبنى القنطرة على جنسه ليس بمناسب، وهو مستلزم للمناسب، وقد شهد الشرع بجنس القلة والتعذر في عدم مشروعية الطهارة، بدليل أن الماء إذا قل واشتدت إليه الحاجة فإنه يسقط الأمر به، ويتوجه التيمم.

قال القاضي أبو بكر في هذا التقسيم: الوصف إن كان مناسباً بذاته فهو المناسب، وإن لم يكن مناسباً في ذاته فلا يخلو ما إن يكون مستلزماً للمناسب أو لا. الأوّل الشبه، والثاني الطردي الملغى إجماعاً والعبد المقتول فيه كونه مملوكاً والملك حكم شرعي، وكونه آدمياً، وهذا وصف حقيقي لا حكم شرعي، فقد حصل فيه الشبهان، فمن غلب شبه الحكم الشرعي وهو مالك والشافعي أوجب فيه قيمته بالغة ما بلغتن وإن زادت على دية الحر، ومن لاحظ شبه الحر وهو الآدمية لم يوجب فيه الزيادة على دية الحر وهو أبو حنيفة وابن علية أوجب الجلسة الأولى قياساً على الثانية في الوجوب بجامع أنها جلسة، وهذا شبه صوري لا حكم شرعي.

قال الإمام فخر الدين: إذا غلب على الظن أن شيئاً من هذه الشبهات علة الحكم ومستلزمه له شرعاً جعلناه علة كان صورة أو حكماً أو غير ذلك عملاً بموجب الظن.

ص: 395

حجة القاضي: أن الشبه ليس بحجة لأن الدليل ينفي العمل بالظن مطلقاً لقوله تعالى: «إن الظن لا يغني من الحق شيئاً» (1) خالفناه في قياس المناسبة، فبقي قياس الشبه على موجب الدليل، ولأن الصحابة إنّما أجمعت على المناسب. أما الشبه فلا نوجب أن يكون حجة.

جوابه: أنه معارض لقوله تعالى: «فاعتبروا» لقوله عليه السلام: «نحن نحكم بالظاهر» وهو يفيد الظن فوجب أن يندرج في عموم النص، ولأنه مندرج في عموم قول معاذ بن جبل أجتهد رأيي، وهذا نوع من الاجتهاد.

الخامس: الدوران، وهو عبارة عن اقتران ثبوت الحكم مع ثبوت الوصف وعدمه مع

عدمه، وفيه خلاف، والأكثرون من أصحابنا وغيرهم يقول بكونه حجة.

مثاله: العنب حين كونه عصيراً ليس بمسكر ولا حرام، فقد اقترن العدم بالعدم، وإذا صار مسكراً صار حراماً، فقد اقترن الثبوت بالثبوت، فإذا تخلل لم يكن مسكراً ولا حراماً، فقد اقترن العدم بالعدم. فهذا هو الدوران في صورة واحدة وهي الخمر، وقد يقع في صورتين وهو دون الأوّل. مثاله: أن يدعى وجوب الزكاة في الحلي المتخذ لاستعمال مباح، فنقول الموجب لوجوب الزكاة في النقدين كونهما أحد الحجرين؛ لأن وجوب الزكاة دار مع كونه أحد الحجرين، وجوداً وعدماً، أما وجوداً ففي المسكوك هو أحد الحجرين والزكاة واجبة فيه، وأما عدماً فالعقار ليس أحد الحجرين ولا تجب الزكاة فيه، وإنما رجحت الصورة الأولى على هذه، لأن انتفاء الحكم بعد ثبوته في الصورة المعينة يقتضي أنه لم يبق معه ما يقتضيه في تلك الصورة وإلا لثبت فيها. أما إذا انتفى من صورة أخرى غير صورة الثبوت أمكن أن يقال إن موجب الحكم غير الوصف المدعى علة، أما ما ذكرتموه من الوصف لو فرض انتفاؤه لثبت الحكم بذلك الوصف الآخر، فما تعين عدم اعتبار غيره، بخلاف الصورة الواحدة.

(1) 28 النجم.

ص: 396

حجة أن الدوران دليل العلية أن اقتران الوجود بالوجود والعدم بالعدم يغلب على الظن أن المدار علية الدائر، بل قد يحصل القطع بذلك، لأن من ناديناه باسم فغضب ثم سكتنا عنه فزال غضبه ثم ناديناه به فغضب كذلك مراراً كثيرة، حصل الظن الغالب بأن علة غضبه إنّما هو ذلك الاسم الذي ناديناه به. ولذلك جزم الأطباء بالأدوية المسهلة والقابضة وجميع ما يعطونه من المبردات وغيرها بسبب وجود تلك الآثار عند وجود تلك العقاقير وعدمها عند عدمها، فالدوران أصل كبير في أمور الدنيا والآخرة، فإذا وجد بين الوصف والحكم جزمنا بعلية الوصف للحكم، أو نقول بعض الدوران حجة قطعاً كدوران قطع الرأس مع الموت في مجرى العادات، فوجب أن يكون جميع الدورانات حجة لقوله تعالى:«إن الله يأمر بالعدل والإحسان» (1) والعدل التسوية، وعدم الاختلاف إحسان للخلق بتوفر خواطرهم عن الفحص عن الفكرة في مدارك الفروق.

حجة المنع: أن بعض الدورانات ليس بحجة، فوجب أن يكون الجميع ليس بحجة إلاّ ما أجمعنا عليه، أما أن بعض الدورانات ليس بحجة، فإن الجوهر والعرض دائران كلّ واحد منهما مع الآخر وليس أحدهما علة للآخر، والحكم دائر مع شرطه وجزء علته، وليس أحدهما علة للآخر، وحركات الأفلاك دائرة مع الكواكب وليس أحدهما علة للآخر. وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون فيها شيء حجة، فلأنه لو كان حجة للزم النقض بذلك البعض الآخر والنقض خلاف الدليل.

والجواب: أنا لا ندعي أن الدوران حجة إلاّ بوصف كونه لا نقطع بعدم عليه، والدوران الموصوف بهذه الصفة لم يوجد في صورة النقض فلا يتجه النقض، لأن من شرط النقض وجود الموجب بجميع صفاتهن وإن لم يوجد فلا نقض، فاندفع السؤال.

السادس: السبر والتقييم. وهو أن يقول إما أن يكون الحكم معللاً بكذا أو بكذا والكل باطل إلاّ كذا فيتعين.

(1) 90 النحل.

ص: 397

السبر معناه في اللغة الاختبار ومنه سمي ما يختبر به طول الجرح وعرضه مسباراً، وتقول العرب هذه القضية يسبر بها غور العقل: أي يختبر. والأصل أن نقول التقسيم والسبر، لأنا نقسم أولاً ثم نقول في معرض الاختبار لتلك الأوصاف الحاصلة في التقسيم هذا لا يصلح وهذا لا يصلح فتعين هذا، فالاختبار واقع بعد التقسيم، لكن التقسيم لما كان وسيلة للاختبار والاختبار هو المقصد. وقاعدة العرب تقديم الأهم والأفضل، قدم السبر لأنه المقصد الأهم، وأخر التقسيم لأنه وسيلة أخفض رتبة من المقصد، وهذه الطريقة مفيدة للعلة لأن الحكم مهما أمكن أن يكون معللاً لا يجعل تعبداً، وإذا أمكن إضافته للمناسب فلا يضاف لغير المناسب، ولم نجد مناسباً إلاّ ما بقي بعد السبر، فوجب كونه علة بهذه القواعد.

السابع: الطرد وهو عبارة عن اقتران الحكم بسائر صور الوصف، فليس مناسباً ولا مستلزم للمناسب، وفيه خلاف.

لأنه متى كان مناسباً كان ذلك طريقاً آخر غير الطرد، ونحن نقصد أن نثبت طريقاً آخر غير المناسبة، وكذلك لا يكون مستلزماً للمناسب، إذ لو كان مستلزماً للمناسب لكان هو الشبه، ونحن نقصد طريقاً غير الشبه. فمجرد الاقتران هو طريق مستقل على الخلاف.

حجة الجواز: أن الحكم لا بد له من علة وليس غير هذا الوصف عملاً بالأصل فتعين هذا الوصف نفياً للتعبد بحسب الإمكان، ولأن الاقتران بجميع الصور مع انتفاء ما يصلح للتعليل غير المقترن يغلب على الظن عليه ذلك المقترن والعمل بالراجح متعين.

حجة المنع: أن الأصل لا يعتبر في الشرائع إلاّ المصالح أو درء المفاسد، فما لم يعلم فيه تحصيل مصلحة ولا درء مفسدة وجب أن لا يعتبر، ولأن الصحابة رضوان الله عليهم إنّما نقل عنهم العمل بالمناسب، أما غير المناسب فلا، فوجب بقاؤه على الأصل في عدم الاعتبار.

الثامن: تنقيح المناط، وهو إلغاء الفارق فيشتركان في الحكم.

ص: 398