الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع الفرق بين الحقيقة والمجاز وأقسامهما
فالحقيقة استعمال اللفظ فيها وضع له في العرف الذي وقع به التخاطب وهي أربعة: لغوية كاستعمال الإنسان في الحيوان الناطق. وشرعية كاستعمال لفظ الصلاة في الأفعال المخصوصة. وعرفية عامة كاستعمال لفظ الدابة في الحمار. وخاصة نحو استعمال لفظ الجوهر في المتحيز الذي لا يقبل القسمة.
الحقيقة مشتقة من الحق الذي هو الثابت لأنه يقابل به الباطل، فهو مرادف للموجود، وهي فعلية إما بمعنى فاعلة فيكون معناها الثابتة، أو مفعولة فيكون معناها المثبتة؛
لأن هذا هو شأن فعيل من غير فعل بضم العين يكون إما فاعلاً أو مفعولاً ويعدل عن ذلك إلى فعيل للمبالغة، وأما اسم الفاعل من فعُل فهو فعيل بأصالته من غير مبالغة، نحو ظرُف، فهو ظريف وشرُف فهو شريف، والتاء فيها للنقل عن الوصف إلى الاسمية؛ فإن العرب إذا وصفت بفعيل مؤنثاً ونطقت بالموصوف حذفت التاء اكتفاء بتأنيث الموصوف فيقولون امرأة قتيل وشاة نطيح. أما إذا حذفوا الموصوف أثبتوا التاء فيقولون رأيت قتيلة بني فلان ونطيحتهم لعدم ما يدل على التأنيث؛ فاحتاجوا لإظهاره نفياً للبس، ويكون الاسم هنا لا يعرف صفة فلذلك قيل التاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية فهذا هو اصل الحقيقة ثم نقلت في عرف الأصوليين على اللفظة المستعملة فيما وضعت له فصارت مجازاص لغوياً حقيقة عرفية.
وكذلك المجاز أصله اسم مكان العبور أو زمانه أو مصدره فإن مفعلة
ومفعلاً (1) يصلح لهذه الثلاثة، ثم وضع في عرف الأصوليين للفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة بينهما، فهو أيضاً مجاز لغوي حقيقة عرفية؛ فالحقيقة والمجاز مجازان لغويان حقيقتان عرفيتان.
وقولي في الكتاب: الحقيقة استعمال اللفظ في موضوعه، صوابه: اللفظة المستعملة أو اللفظ المستعمل، وفرق بين اللفظ المستعمل وبين استعمال اللفظ، فالحق أنها موضوعة للفظ المستعمل لا لنفس استعمال اللفظ، فالمقضي عليه بأنه حقيقة أو مجاز هو اللفظ الموصوف بالاستعمال المخصوص لا نفس الاستعمال، وقولي في العرف الذي وقع به التخاطب ليشمل الحقائق الأربعة المتقدم ذكرها بخلاف لو قلت هو اللفظ المستعمل فيما وضع له أولاً تناول الحقيقة اللغوية فقط، وقولي حقيقة شرعية له تفسيران الأول أن يقال إن حملة الشرع غلب استعمالهم للفظ الصلاة في الأفعال المخصوصة حتى بقي اللفظ لا يفهم منه إلا هذه العبارة المخصوصة وهذا لا نزاع فيه. والثاني: أن يقال إن صاحب الشرع وضع هذه الألفاظ لهذه العبارات، وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال.
قال القاضي أبو بكر الباقلاني: لم يضع صاحب الشرع شيئاً وإنما استعمل الألفاظ في مسمياتها اللغوية ودلت الأدلة على أن تلك المسميات اللغوية لا بد معها من قيود زائدة حتى تصير شرعية. وقالت المعتزلة: بل تحدد هذه العبارات كمولود جديد يتحدد فلا بد له من لفظ يدل عليه. وقال الإمام فخرا لدين وطائفة معه: ما استعمل في المسمى اللغوي ولا نقل بل استعمل اللفظ في خصوص هذه العبارات على سبيل المجاز لأن الدعاء الذي هو
الصلاة لغة جزء الصلاة الشرعية؛ لأن فيها دعاء الفاتحة، ويبعد غاية البعد أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام «لا يقبل الله صلاة بغير طهور» أن يكون مراده الدعاء من حيث هو دعاء.
وقال القاضي فتح هذا الباب يحصل غرض الشيعة من الطعن على الصحابة رضوان الله عليهم فإنهم يكفرون الصحابة، فإذا قيل إن الله تعالى وعد المؤمنين
(1) في نسخة مخطوطة: فإن مفعلاً ومفعلاً بفتح العين في الأول وكسرها في الثاني.
بالجنة وهم قد أمنوا، يقولون إن الإيمان الذي هو التصديق صدر منهم، ولكن الشرع نقل هذا اللفظ على الطاعات وهم صدقوا وما أطاعوا في أمر الخلافة، فإذا قلنا إن الشرع لم ينقل استد هذا الباب الرديء، ولقوله تعالى «قرآناً عربياً» (1) وهذه الألفاظ موضوعة في القرآن فلو كانت منقولة لم يكن القرآن كله عربياً، وفي هذه المواطن مباحث كثيرة مستوعبة في شرح المحصول.
وأما الحقيقة العرفية العامة فهي التي غلب استعمالها في غير مسماها اللغوي، فإن الدابة اسم لمطلق ما دب فقصرها على الحمار في ارض مصر أو الفرس بأرض العراق وضع آخر، وهو حقيقة عرفية مجاز لغوي، وكذلك لفظ الغائط اسم المكان المطمئن من الأرض لغة ثم نقل للفضلة المخصوصة، والرواية اسم للجمل نقل للمزادة (2) وهي قسمان تارة يقع النقل لبعض أفراد الحقيقة اللغوية كالدابة، وتارة لأجنبي عنها كالنجو والرواية، والعرفية الخاصة سميت خاصة لاختصاصها ببعض الطوائف بخلاف الأولى عامة مثل الجواهر والعرض للمتكلمين، والنقض والكسر للفقهاء، والفاعل والمفعول للنحاة، والسبب والوتد للعروضيين.
والمجاز استعمال اللفظ في غير ما وضع له في العرف الذي وقع به التخاطب لعلاقة بينهما، وهو ينقسم بحسب الوضع إلى أربعة مجازات لغوي كاستعمال الأسد في الرجل الشجاع، وشرعي كاستعمال لفظ الصلاة في الدعاء، وعرفي عام كاستعمال لفظ الدابة في مطلق ما دب، وعرفي خاص كاستعمال لفظ الجوهر في النفيس.
لما تقرر أن الحقائق أربع كانت المجازات أربعة؛ فلفظ الدابة إذا استعمل في مطلق ما دب كان حقيقة لغوية مجازاً لغوياً، وإذا استعمل في الحمار كان حقيقة عرفية مجازاً لغوياً لأنه استعمال له في غير ما وضع له، ولفظ الصلاة إذا استعمل في الدعاء كان حقيقة لغوية مجازاً شرعاً لأنه استعمال في غير ما وضع له باعتبار الوضع الشرعي، وإن استعمل في
الأفعال المخصوصة كان حقيقة شرعية مجازاً لغوياً، وكذلك القول في لفظ الجوهر وكل ما يعرض من هذا الباب.
(1) 113 طه.
(2)
إزادة في الأصل: الراوية التي تملأ بالماء. قال أبو عبيد: لا تكون إلا من جلدين فأم بجلد ثالث بينهما.
والصحيح في حد المجاز أن يقال هذا اللفظ المستعمل ولا يقال هو استعمال اللفظ كما تقدم تقريره، وهذا هو الذي عليه جمهور العلماء في الإطلاق، والعبارة الأخرى قليلة في استعمالهم، وقولي فيا لعرف الذي وقع به التخاطب لأن اللفظ إنما يكون مجازاً بالنسبة إلى وضع مخصوص فإن لم يكن الخطاب باعتباره لا يتحقق المجاز كما تقدم تمثيله، فإنه قد يكون حقيقة باعتبار وضع آخر، والعلاقة لا بد منها وإلا كان منقولاً كجعفر فإنه النهر الصغير لغة ووضع للشخص المخصوص وليس مجازاً فيه لعدم العلاقة، وكذلك جميع المنقولات، وقولي بحسب الواضع أريد بالواضع اللغة والشرع والعرف العام والخاص.
وبحسب الموضوع له إلى مفرد نحو قولنا أسد للرجل الشجاع، وإلى مركب نحو قولهم:
أشاب الصغير وأفنى الكبير
…
كر الفداة ومر العشي
فالتفردات حقيقة وإسناد الإشابة والإفناء إلى الكر والمر مجاز في التركيب، وغلى مفرد ومركب نحو قولهم أحياني اكتحالي بطلعتك فاستعمال الإحياء والاكتحال في السرور والرؤية مجاز في الإفراد وإضافة الإحياء إلى الاكتحال مجاز في التركيب فإنه مضاف إلى الله تعالى.
المجاز المفرد هو ن يكون فظاً موضوعاً (1) لمعنى مفرد فتحوله عن ذلك المفرد إلى مفرد آخر وتستعمله فيه فإن لفظ الأسد لمعنى مفرد وهو الأسد؛ فاستعماله في الرجل الشجاع وهو مفرد فكان المجاز مفرداً، وأعني بالمفرد ما ليس فيه إسناد خبري، والمجاز في التركيب أن يكون اللفظ في اللغة وضع ليركب مع لفظ معنى آخر فيركب مع لفظ غير ذلك المعنى فيكون مجازاً في التركيب كما تقول لفظ السؤال وضع ليركب مع لفظ من يصلح للإجابة نحو سألت زيداً، فلما ركب مع لفظ القرية التي لا تصلح للإجابة كان مجازاً في التركيب، ومن ذلك: غرق في العلم، وإنما يغرق في الماء، وأكلت الماء وإنما يؤكل الطعام وعلفتها ماء (2) وإنما يعلف التبن والشعير وقوله تعالى «حرمت عليكم أمهاتكم» (3) الآية. الجميع مجاز في التركيب لأن التحريم
(1) في المخطوطة: هو أن يكون لفظه موضوعاً.
(2)
ومنه قول الشاعر:
…
علفتها تبناً وماءً بارداً
…
حتى غدت همالة عيناها
(3)
23 النساء.
إنما وضع ليركب مع الأفعال دون
الذوات، وعلى هذه الطريقة يفهم مجاز التركيب. فقولهم أحياني أراد به سرني وهو من مجاز التشبيه، لأن الحياة توجب ظهور آثار في محلها وبهجته وكذلك المسرة، فأطلق على المسرة لفظ الحياة للمشابهة. وقوله اكتحالي يريد رؤيتي؛ عبر بلفظ الاكتحال عن الرؤية من مجاز التشبيه. لأن العين تشتمل على الكحل كما تشتمل على المرئي فلما تشابها أطلق لفظ أحدهما على الآخر مجازاً.
فهذا هو مجاز الإفراد، وجعل الاكتحال فاعلاً بالإحياء مجازاً ي التركيب لأن الإحياء لا يصدر عنه ولا يركب معه فلم يقل أحياه الكحل حقيقة وإلا لكان من مات يوضع في عينه الكحل فيعيش، فإذا قلت أحياه الله تعالى كان حقيقة في التركيب؛ لأن اللفظ ركب مع اللفظ الذي وضع للتركيب معه، ولا فرق في هذا الموضع بني الفاعل والمفعول والمضاف وغرها، فسرج الدار مجاز في التركيب وباب الدابة مجاز في التركيب، إلا أن تريد مطلق الإضافة لا أن الدار لها سرج تركب به، فإنه قد يقال سرج الدار باعتبار أنه موضوع فيها فتكون الحقيقة في التركيب.
وبحسب هيئته إلى الخفي كالأسد للرجل الشجاع والجلي الراجح كالدابة للحمار.
الخفي هو الذي لا يفهم إلا بقرينة توجب الصرف عن الحقيقة إليه والجلي هو الذي لا يفهم من اللفظ إلا هو حتى تصرف القرينة عنه إلى الحقيقة فلا يفهم اليوم من الصلاة إلا العبادة المخصوصة في وقتنا هذا حتى تصرفنا القرينة إلى الدعاء، وكذلك الدابة لا يفهم منها إلى الحمار حتى تصرفنا القرينة إلى مطلق ما دب. فهذا هو المجاز الراجح، وهو كله حقيقة إما شرعة أو عرفية.
وهنا دقيقة وهي أن كل مجاز راجح منقول وليس كل منقول مجازاً راجحاً فالمنقول أعم مطلقاً والمجاز الراجح أخص مطلقاً.
المجاز الراجح منقول إما في الشرع كالصلاة أو في العرف العام كالدابة أو
الخاص كالجوهر والعرض عند المتكلمين فإنا لا نعني بالنقل إلا غلبة استعماله حتى صار لا يفهم عند عدم القرينة إلا هو، دون الحقيقة الأصلية، وقد يوجد النقل بدون المجاز الراجح، بأن يقع النقل لا لعلاقة كالجوهر، فإنه وضع في اللغة للنفيس من كل شيء ثم نقل للمتحيز الذي لا يقبل القسمة، وهو في غاية الحقارة، فلا مشابهة بينه وبين النفيس، ولا علاقة تصلح بينهما؛ فإنا نشترط في العلاقة أن يكون لها اختصاص وشهرة ولا يكتفى بمجرد الارتباط كيف كان، وإلا أمكن أن يقال النفاسة لا تقع إلا في الجوهر فبينهما ملابسة فهو مجاز، ولو فتح هذا الباب صح التجوز بكل شيء إلى كل شيء، وقد نصوا على منعه؛ فقد قال الإمام فخر الدين إن استعمال لفظ السماء في الأرض لا يصلح أن يكون
مجازاً مع أنها تقابلها وتلازمها والملازمة أحد أقسام العلاقة لكنا نعني بالملازمة ما هو أخص من هذا كملازمة الراوية (1) للجمل الحامل لها، والمسببات لأسبابها ونحو ذلك، وكذلك لفظ الذات موضوع للمصاحبة لغة، ونقل في عرف المتكلمين لذات الشيء وألغيت المصاحبة بالكلية، فهو منقول لا مجاز راجح؛ لانتفاء العلاقة التي هي شرط في أصل المجاز، وإذا تعذر المجاز المطلق تعذر المجاز الراجح بطريق الأولى؛ فحينئذ المنقول أعم مطلقاً والمجاز الراجح أخص مطلقاً هذا إذا نسبنا المنقول إلى المجاز الراجح، فإن نسبناه إلى أصل المجاز كان كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه، لأن كل واحد منهما قد وجد مع الآخر وبدونه، وهذا هو ضابط الأعم من وجه والأخص من وجه، فوجد المجاز ولا نقل كالأسد في الرجل الشجاع، والنقل ولا مجاز كالجوهر والذات عند المتكلمين، واجتمعا معاً في الدابة والراوية.
فرع: كل محل قام به معنى واجب أن يشتق له من لفظ ذلك المعنى لفظ ويمتنع الاشتقاق لغيره خلافاً للمعتزلة في الأمرين فإن كان الاشتقاق باعتبار قيامه في الاستقبال فهو مجاز إجماعاً نحو تسمية العنب بالخمر،
(1) هي المزادة، أو (قربة الماء) .
..................... الحال فهو حقيقة إجماعاً نحو تسمية الخمر خمراً أو باعتبار الماضي وفي (1) كونه حقيقة، أو مجاز قولان أصحهما المجاز، وهذا إذا كان محكوماً به، أما إذا كان متعلق الحكم فهو حقيقة مطلقاً نحو «اقتلوا المشركين» (2) .
قيام المعاني بمحالها يوجب أحكامها لمحالها واستحقاق ألفاظ تلك الأحكام، فقيام العلم بالمحل يوجب له حكماً وهو كونه عالماً، واستحقاق لفظ هذا الحكم وهو لفظ عالم، والسواد إذا قام بمحل أوجب لمحله حكماً وهو كونه أسود، واستحقاق لفظ دال على هذا الحكم وهو لفظ أسود، ولا يقال لغيره الذي لم يقم به السواد أسود، والمعتزلة وافقوا في مثل هذا؛ وإنما أصل هذه المسألة والخلاف فيها أنهم قالوا في كلام الله تعالى إنه مخلوق في الشجرة لموسى عليه الصلاة والسلام فسمعه منها فهو قائم بها، ولم يشتق لها منه شيء، فلم يقل الله تعالى: وكلمت الشجرة موسى، بل حصل الاشتقاق لله تعالى ولم يقم به الكلام عندهم، فقال الله تعالى «وكلم الله موسى تكليماً» (3) وكذلك اشتقوا (4) لله تعالى عالماً وقديراً ومريداً وغير ذلك؛ ولم يقولوا قام العلم به، بل قالوا لم تقم به صفة
البتة، هذا أيضاً خالفوا فيه أهل الحق؛ فإن أهل الحق يقولون الكلام إنما هو قائم بذات الله تعالى، وجميع الصفات المشتق منها هذه الألفاظ قائمة به تعالى، فهذا موطن الخلاف. وأما ما في العالم من الألوان والطعام وغيرها فلم أر لهم فيه خلافاً وما أخالهم يخالفون فيه، فلذلك قلت خلافاً للمعتزلة في الأمرين.
وقولي فإن كان الاشتقاق باعتبار الاستقبال أو الحال أو الماضي أريد به
(1) في النسخة المطبوعة: في كونه، بإسقاط الواو.
(2)
تمام الآية: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم - الآية 5 سورة التوبة.
(3)
النساء 164.
(4)
في النسخة المطبوعة: اشتق بالإفراد.
الاشتقاق الكائن من المصادر في اسم الفاعل نحو ضارب، أو اسم المفعول نحو مضروب، أو أفعل التفضيل نحو زيد أضرب من عمرو، أو اسم الزمان أو المكان نحو مضرَب ومقتل ومخرج، أو اسم الآلة نحو المروحة والمدهن والمسعط، أو اسما لهيئة نحو الجلسة والعِمة. وأما الفعل الماضي فإنه مشتق وهو حقيقة في الماضي دون غيره، وكذلك لفظ الأمر والنهي حقيقة في المستقبل دون غيره، فليس في الماضي قولان أصحهما المجاز ولا صيغة الأمر باعتبار المستقبل إجماعاً، بل ذلك خاص بما ذكرته من الصيغ؛ فتسمية الإنسان ميتاً باعتبار المستقبل إجماعاً، بل ذلك خاص بما ذكرته من الصيغ؛ فتسمية الإنسان ميتاً باعتبار أنه سيموت مجاز إجماعاً، وتسميته ميتاً وهو ميت حقيقة إجماعاً، وتسميته نطفة وطفلاً باعتبار أنه كان كذلك مجاز على الأصح، وكذلك (1) لا يصدق على أكابر الصحابة أنهم كفار باعتبار ما كانوا عليه.
وخالف ابن سينا في هذه المسألة وقال: هو حقيقة لأن من صدر منه الضرب يصدق عليه بعد ذهابه أنه ضارب كما يصدق عليه أنه متكلم ومخبر، وإن كان الكلام والخبر لم يوجد قط منه إلا حرف واحد، فلو اشترط وجود المشتق منه حالة الإطلاق لما صدق في هذين الموضعين، وجوابه أن هذين مستثنيان لتعذر الوجود، والعرب لا تضع لفظ المحقق للمعتذر، واستيفاء الكلام في هذا الموضع مستوعب في شرح المحصول.
وقولي: هذا إذا كان محكوماً به الخ، احتراز من سؤال صعب ما رأيت أحداً أجاب عنه، وتقريره أن قولنا باعتبار الماضي أو المستقبل أو الحال هذه الأزمنة إنما تعتبر بالنسبة إلى زمن التخاطب، فإذا قلت أنا الآن: زيد ميت باعتبار أنه سيموت كان باعتبار المستقبل، لأن زمان المخاطبة بهذا اللفظ فعلم أن هذه الأزمنة إنما تعتبر باعتبار زمان المخاطبة، وعلى هذا نقول الزمان الذي نزل فيه القرآن الكريم ونطق فهي رسول الله بالأحاديث النبوية متقدم على زماننا، فزماننا
(1) أظنها لذلك. بدل كذلك.
مستقبل باعتبار ذلك الزمان، وإذا كان كذلك وجب حينئذ أن يكون جميع الصفات الواقعة في زماننا مجازاً بالقياس إلى ذلك الزمان، فعلى هذا قوله تعالى
«الزانية والزاني (1) » «السارق والسارقة (2) » «واقتلوا المشركين (3) » إلى غير ذلك إنا يتناول من وجد في حالة نزول هذه الآيات وأما ما بعدها فلا يتناولها إلى بطريقة المجاز، والأصل عدمه، فيتعذر علينا الاستدلال بهذه الأدلة في زماننا على ثبوت أحكام هذه الآيات بها فإن ما من نص يستدل به غلا وللمخالف أن يقول الأصل عدم التجوز على هذه الصورة، فيحتاج كل دليل إلى دليل آخر من إجماع أو نص يدل على التجوز إلى هذه الصورة، وهو خلاف ما عليه الناس، بل كل لفظ من هذه الألفاظ يتم الاستدلال به من جهة اللغة فقط وهو حقيقة، فكيف الجمع بين ما عليه الناس وبين هذه القاعدة.
ووجه الجمع أن تقول: المشتق قسمان تارة يكون محكوماً به نحو زيد سارق فهذا هو موطن التقسيم والقاعدة المذكورة، وتارة يكون المشتق متعلق الحكم لا محكوماً به نحو «اقتلوا المشركين (4) » فإن الله تعالى لم يحكم في هذه الآية بشرك أحد ولا بأن أحداً مشرك بل حكم بوجوب القتل، والمشركون متعلق هذا الحكم، وكذلك الزانية والزاني لم يحكم الله تعالى بزنا أحد ولا بسرقته في الآية الأخرى، بل بوجوب الجلد والقطع، والزناة والسراق متعلق هذا الحكم؛ فحينئذ متى كان هو المشتق متعلق الحكم فهو حقيقة مطلقاً، ولا تفصيل بين الأزمنة ماضيها ومستقبلها، ولا نحكي خلافاً بل الكل حقيقة إجماعاً، وإن حكمنا بالمشتق على محل وجعلناه نفس الحكم فهذا هو موطن الخلاف والتفصيل. فهذا وجه الجمع بين القاعدة وإجماع الأمة؛ فلذلك ذكرت هذا القيد وهو من غوامض القواعد.
(1) منا لآية 2 النور وتمامها: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة.
(2)
رقم 38 المائدة. وتمامها «. . فاقطعوا أيديهما. .» .
(3)
التوبة.
(4)
التوبة.